المنافسة بين القوى العظمى.. إلى أين؟

news image

 

تقرير من إعداد قسم الإعلام الاستراتيجي بوكالة بث

 

مقدمة: لماذا هذا التقرير الآن؟

 

في ظل تصاعد التوترات العالمية بين القوى العظمى، تشهد الساحة الدولية منافسة متزايدة بين الولايات المتحدة الأمريكية، الصين، وروسيا. وهذه المنافسة لا تقتصر على المجال العسكري فقط، بل تمتد إلى الاقتصاد، التكنولوجيا، والإعلام. وفي هذا السياق، تبرز أهمية التفكير في كيفية تأثير هذا التنافس على الدول العربية وكيف يمكن للدول العربية الانتقال من "رد الفعل" إلى "المبادرة وصناعة القرار".

 

المنافسة بين القوى العظمى:

مع تصاعد التنافس بين القوى العظمى، يبقى السؤال الأبرز: إلى أين تتجه هذه المنافسة؟ وهل يمكن للدول العربية لعب دور محوري في تشكيل هذا المستقبل العالمي؟

 

1. المشهد الحالي: صراع متعدد الأبعاد

أ. المنافسة الاقتصادية والتكنولوجية

أمريكا والصين: المنافسة بين هاتين القوتين تتجاوز الحرب التجارية إلى الصراع في مجالات مثل أشباه الموصلات، الذكاء الاصطناعي، وشبكات الجيل الخامس. هذا الصراع يؤثر على العديد من القطاعات الاقتصادية العالمية.

أمريكا وروسيا: العقوبات الغربية على روسيا منذ ضم القرم في 2014 وتصاعدها بعد الحرب الأوكرانية جعلت روسيا تُعزز تحالفاتها مع الصين، وتعيد ترتيب أولوياتها الاقتصادية بعيدًا عن الغرب.

ب. التحالفات العسكرية والجيوسياسية

الناتو مقابل الصين وروسيا: توسع الناتو في أوروبا الشرقية يشكل ضغطًا على روسيا، بينما تسعى الصين لتعزيز وجودها العسكري في بحر الصين الجنوبي.

تحالفات جديدة: روسيا والصين تقويان تعاونهما عبر منظمة شنغهاي، بينما تبني أمريكا تحالفات جديدة مع اليابان والهند وأستراليا (تحالف أوكوس AUKUS والتحالف الرباعي QUAD).

ج. الحروب الإعلامية والدعاية

الصين وروسيا: تعملان على استثمار الإعلام البديل للتأثير على السردية الغربية.

أمريكا: ترد عبر فرض عقوبات على شركات التكنولوجيا الصينية مثل "تيك توك" و"هواوي"، إضافة إلى السيطرة على الإعلام الروسي.

2. السيناريوهات المستقبلية للمنافسة

أ. استمرار الصراع البارد

من المتوقع أن يستمر التنافس في شكل حرب باردة بدون تصعيد مباشر، مع استمرار العقوبات وحروب الوكالة، والضغط الاقتصادي والتكنولوجي.

ب. تصاعد نحو مواجهة عسكرية محدودة

احتمالية حدوث مواجهة عسكرية جزئية بين القوى الكبرى عبر وكلاء، مثلما حدث في أوكرانيا وتايوان، تبقى قائمة.

ج. نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب

قد يؤدي صعود الصين وروسيا وتعزيز دور الهند والبرازيل إلى نظام عالمي أكثر توازنًا، مما ينهي الهيمنة الأمريكية.

د. التعاون الإجباري بسبب الأزمات العالمية

التحديات الكبرى مثل التغير المناخي، الأمن الغذائي، والأوبئة قد تدفع القوى العظمى للتعاون لتجنب كارثة عالمية.

3. إلى أين تتجه المنافسة؟

مع تغييرات جذرية في النظام الدولي، تصبح المنافسة أكثر تعقيدًا. العالم يشهد تحولات قد تؤدي إما إلى مزيد من التصعيد أو إلى إعادة تشكيل التوازنات الدولية. في كلتا الحالتين، تلعب الدول المتوسطة والناشئة، ومنها الدول العربية، دورًا حاسمًا في رسم ملامح المستقبل.

هل نتوقع تصعيدًا أم توازنًا؟

التاريخ يُظهر أن التوترات الدولية تبدأ عادةً بالتصعيد، لكن مع مرور الوقت، تنحو نحو التوازن والاتفاق. هذا التحول يحدث لأن استمرار التصعيد يُرهق الأطراف ويجبرها على البحث عن حلول.

 

أسباب التصعيد

 

إظهار القوة: القوى العظمى تلجأ إلى التصعيد لفرض إرادتها على الآخرين.

ردع المنافسين: التصعيد يُستخدم أحيانًا للضغط على الخصوم.

تحقيق مكاسب تفاوضية: قد يكون التصعيد أداة للحصول على تنازلات.

أسباب داخلية: القادة قد يلجؤون للتصعيد لحشد الدعم الشعبي في أوقات الأزمات.

أسباب التوازن والاتفاق

كلفة الصراع: مع مرور الوقت، تدرك الأطراف أن التصعيد يضر باقتصاداتها واستقرارها الداخلي.

الضغوط الدولية: القوى العظمى قد تتعرض لضغوط من حلفائها للبحث عن حلول.

توازن الردع: مثلما حدث في الردع النووي، يصبح التصعيد مكلفًا جدًا.

أمثلة تاريخية

الحرب الباردة: على الرغم من التوترات الشديدة بين أمريكا والاتحاد السوفيتي، انتهت بسلام عبر المفاوضات.

الحروب الإقليمية مثل فيتنام وأفغانستان: انتهت بحلول سياسية، وليس بانتصار عسكري حاسم.

4. الفرص المتاحة للدول العربية في ظل التوازن المضطرب

أ. التحول إلى قوى إقليمية مستقلة

اليوم، يمكن للدول العربية أن تلعب دورًا مستقلًا في السياسة الدولية، دون الحاجة للاختيار بين القوى الكبرى. هذا الاستقلال يعزز قدرتها على بناء تحالفات مرنة ويمنحها نفوذًا أكبر في المفاوضات.

ب. الاقتصاد والطاقة كسلاح تفاوضي

الدول العربية تمتلك طاقة الذهب الأسود (النفط والغاز)، مما يجعلها في موقع قوة لتفاوض مع القوى الكبرى، خاصة في ظل التنافس الأمريكي-الصيني.

ج. تعزيز الصناعات والتكنولوجيا

على الدول العربية الاستثمار في قطاعات التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي والصناعات الدفاعية، وهذا من شأنه أن يقلل من الاعتماد على الخارج.

د. القوة الإعلامية

الإعلام هو سلاح العصر. الدول العربية بحاجة إلى بناء منصات إعلامية قوية تحكي قصتها للعالم وتنافس الإعلام الغربي.

5. السياسة الخارجية الذكية: الحياد الإيجابي والاستفادة من الجميع

بدلًا من الانحياز لأي طرف، يمكن للدول العربية أن تكون وسيطًا دوليًا، مما يزيد من نفوذها في السياسة العالمية. من خلال هذا الدور، يمكنها بناء تحالفات مع القوى الكبرى وتعزيز مكانتها الاقتصادية والجيوسياسية.

6. التحديات التي يجب الحذر منها

فخ الصراع الأمريكي-الصيني: يجب الحفاظ على توازن القوى وعدم الانحياز لصالح أحد الطرفين.

الاستعداد للتغيرات السريعة: التحولات الجيوسياسية قد تطرأ بسرعة، ما يستدعي سياسة عربية مرنة.

إدارة الخلافات الداخلية: التوحّد العربي ضروري لتعزيز الموقف العالمي للدول العربية.

الخلاصة: كيف يمكن للعرب أن يكونوا "رابحين" في هذا التوازن المضطرب؟

من خلال تعزيز الاستقلالية السياسية، استثمار القوة الاقتصادية، التوجه نحو التكنولوجيا والصناعة، وبناء قوة إعلامية مؤثرة، يمكن للدول العربية أن تتحول إلى لاعبين مؤثرين في الساحة الدولية. وعليها أن تتبنى سياسة خارجية ذكية، تعتمد على الحياد الإيجابي، لمواجهة التحديات العالمية بشكل أكثر فاعلية.

 

نكتة ذات علاقة

يتداول الشعب العربي نكتة تقول:

"لا يوجد وظيفة أفضل من وظيفة أمين عام هيئة الأمم المتحدة وأمين عام الجامعة العربية. راتب كل منهما يصل إلى 100 ألف دولار، والمهمة إصدار بيانات كلها (نشجب، ونستنكر، وتعبير عن الغضب!)... قال أحد المواطنين العرب: في داخلي شجب وغضب يملأ الأرض، مستعد أن أعلن عنه في بيانات براتب شهري 5 آلاف دولار!"

النكتة تعكس واقعًا مريرًا، حيث تبدو العديد من المنظمات الدولية والعربية عاجزة عن تقديم حلول ملموسة، ما يعزز الحاجة إلى كيانات أكثر مرونة وفاعلية.

الخلاصة:

تحقيق التحول العربي من التبعية إلى المبادرة يتطلب هيكلاً مرنًا قادرًا على اتخاذ قرارات جريئة. يجب على العرب أن يعززوا استراتيجياتهم الاقتصادية والسياسية بعيدًا عن البيروقراطية التي تعيق التقدم.