التاريخ، الأسطورة والخرافة
سعيد هادف*
حول كِتاب "التاريخ بوصفه نَسقاً" للفيلسوف الإسبانيّ أورتيغا إي غاسيت José Ortega y Gasset، وإجابةً عن السؤال: ما هو مُحرِّك التاريخ؟ يقول شارل كاسكاليس Charles Cascalès: من خلال إعادة التاريخ إلى الواقع الراديكاليّ، فإنّ التاريخ بوصفه نَسَقاً يجيب إنّ ميزة الحياة البشريّة الأكثر ابتذالاً وفي الوقت نفسه الأكثر أهميّة، هي أنَّكَ مُطالَبٌ بأن تفعل، دائماً، شيئاً ما، حتّى تَبقى مُحافِظاً على بقائكَ في الوجود. الحياة هي أن تفعل، والحياة هي أن تنشغل، يُكرِّر أورتيغا وهو يَلعب بالكلمات.
لكن أن تُقرِّر في ما ستفعله، يجب أن يكون لديكَ قناعاتٌ عن العالَم الذي يُحيطكَ. ومن هنا وُجِبَ على الإنسان في بعض اعتقاداته أن يعملَ باستمرار على تقوية تلك القناعات، أو على إضعافها بحسب ما يُمليه عليه عقلُه.
إنّ ما يُحرِّك التاريخ، إذن، هو الحركة التي تَنجم عن الفعل البشري.. الفعل القصدي/ الواعي والفعل العَرَضي الذي يَحدث "مُصادفةً" من دون سابقِ تخطيط. والتأريخ هو دراسة الأفعال، دراسة أحداث الماضي التي انتقلتْ إلينا على شكلِ سرديّات. وإنّ التاريخ البشريّ الشامل، إنّما هو تحليلُ الأحداث التاريخيّة وفَهمها عن طريق منهجٍ يَصِف ويُسجِّل ما مضى من وقائع وأحداث ويُحلِّلها ويُفسِّرها على أُسسٍ علميّة صارمة بقصد الوصول إلى حقائق تُساعِد على فَهْمِ الماضي والحاضر والتنبّؤ بالمُستقبل.
كان الإغريق القدامى يعنون "بالتاريخ" البحثَ عن الحقيقة في أوسع نِطاقها. فالكلمة الإغريقيّة (Historia) تفيد معنى "التحقيق والاستقصاء"، "المعرفة المُكتسَبة عن طريق التحقيق والتقصّي"، والكلمة منحدرة أيضاً من كلمة (Hístōr) ومعناها "الحِكمة"، "الشاهد" أو "القاضي". والكلمة الأيونيّة (Historíai) تعني حَرفيّاً "البحث والاستكشاف"، وعلى الأرجح تمَّ اشتقاقُها من الجذر الهندو - أوروبي (wid) الذي يَعني المُشاهَدة.
وللتاريخ تعريفاتٌ عدّة، فهو أفعالُ البَشر في الماضي (جورج كولنغورد)، وهو نتيجة للآثار البطيئة غير المحسوسة في كثيرٍ من الأحيان للمكان والمناخ والتقنيّة على أفعال البشر في الماضي (بروديل)، وهو عِلم الأشياء التي لا تتكرَّر (فاليري)؛ التاريخ هو نَسَقُ الخبرات البشريّة التي كوَّنت سلسلةً صلبة ومتفرّدة (أورتيغا). وهو عمليّة مفردة مُتلاحِمة وتطوّريّة (فوكوياما). ومن أجل تاريخٍ بديل، اقترحَ المؤرِّخ الفرنسي شارل رونوفي قراءةَ التاريخ انطلاقاً من تقنيّةٍ سمّاها فنّ اللّعب بـ "لو" أو اليوكرونيا. ولمصطلح التاريخ معانٍ عدّة: التاريخ الذي يصنعه الناس من دون معرفة به، وتاريخ الناس مثلما يصنعونه عن معرفة به، والتأويل الذي يقوم به الفيلسوفُ لتاريخِ الناس أو تاريخ المؤرِّخين (ليفي ستراوس). وقد أَخَذَ الاشتغالُ العِلميّ منحىً نقديّاً في المُراجَعة والفحص والتدقيق في المُعطيات وفي المفاهيم لدى الروّاد؛ فقد أَعاد مارك بلوخ النَّظرَ في بعض المُصطلحات، مُفضِّلاً مفهوم "اللّحظة" بدلَ "الحدث"، و"المُعطى" بدلَ "الوثيقة"، و"المصدر" بدل َ"الواقعة".
أمّا الأساطير، من حيث الشكل والصياغة، وفْق كارين أرمسترونغ، في كِتابها "تاريخ الأسطورة"، فقد قدَّمت تفاصيل "عن الحقيقة التي يَتحسَّسها الناس بحدْسهم وغريزتهم، ولم يكُن إخبارُها عن سلوك الآلهة لغَرَضِ التسلية أو إثارة الفضول، بل لتمكين الرجال والنساء من مُحاكاة تلك الكائنات الفائقة واختبار تجربة الألوهة بأنفسهم".
التاريخ والأسطورة: ثمّة علاقة بين التاريخ والأسطورة، فكلاهما ينطلق من حادثةٍ وقعتْ فعلاً وعاشتْها جماعةٌ بشريّةٌ في مكانٍ وزمانٍ واقعيَّيْن، غير أنّ الفَرْقَ بينهما هو أنّ التاريخَ يكتفي بعرْضِ الواقعة في حقيقتها كما حَدثتْ، بينما الأسطورةُ تُعيد بناءَ الواقعة نفسها بشكلٍ مُفخَّم ومُبالَغ فيه عن طريق التخييل، وإخراجها من نِطاقها البشري إلى نِطاقٍ فوق بشري، ولاسيّما عندما يُصبح الخيالُ في خدمة الأيديولوجيا، أي في خدمة الذاكرة الجماعيّة ضدّاً على التاريخ.
التاريخ والخرافة: الخرافة لا صلة لها بالتاريخ، لأنّها لا تستند إلى حادثةٍ وَقَعتْ فعلاً وعاشَتْها جماعةٌ بشريّةٌ في مكانٍ وزمانٍ واقعيَّيْن، بل هي مُجرّد قصّة افتراضيّة ابتكرَها الخيال. هي حكايةٌ تَروي أحداثاً عجيبةً خارقةً للعادة.
الأسطورة والخرافة: وبما أنّ الخرافةَ هي مجرّد قصّة لم تَحدث في الواقع، ابتكَرَها صاحبُها من بناتِ خياله، فإنّها تلتقي هنا مع الأسطورة في هذا الجانب المُتخيَّل. فالأسطورة تَشترك مع التاريخ في جزئها الحقيقي؛ بينما تشترك مع الخرافة في جزئها المُلفَّق. وإذا كان التاريخُ آحاديّ الوجه في حقائقه، فإنّ الخرافة آحاديّة الوجه في تلفيقيّتها، بينما الأسطورة ذات وجهَيْن مُتناقضَيْن.
ولأنّ الأسطورة، في جانبها الخرافي/ التلفيقي، هي حكايةٌ تَروي أحداثاً عجيبة خارقة للعادة، وتَروي، في جانبها التاريخي، وقائعَ تاريخيّة خَضعتْ للمُعالَجة التخييليّة لتَكتسي طابعاً فرجويّاً استعراضيّاً، من أجل هدفٍ أيديولوجي أو عسكري، فإنّها قد تُصبح أكثر خَطراً كلّما اكتسحتِ السياسةَ التربويّةَ أو أصبحتْ أداةً في يدِ الديماغوجيّين والدوغمائيّين.
في كِتابه "الأساطير العربيّة قَبل الإسلام"، يقول محمّد عبد المعيد خان: "عندما حلَّ القرن الثامن عشر وبَدأ نقدُ الأساطير بالمناهج العلميّة، ونَبَغَ في مَن نَبَغَ من المفكّرين من مثل ماكس مِلر وهربرت سبنسر، واهتمّا بالأساطير اهتماماً كبيراً، وبَذَلا مجهوداً في تحديد معناها، قالَ مِلر: إنّها "مَرَضٌ من أمراض اللّسان/ اللّغة"، فسَلَكَ مَسلكَ عالِم اللّسانيّات، وجاء بعده سبنسر، فما كانت الأسطورةُ في رأيه إدراكاً مُبتدئاً، بل إدراكاً خاطئاً. ومن آراء هذَيْن المُفكّرَيْن نَعلم أنّهما جَعَلا الأساطيرَ مرآةً لقراءةِ نفسيّةِ الذين أبدعوا الأساطير، فرأى مِلر أنّ القدامى كانوا عاجزين عن الإعراب عن ضمائرهم بلسانٍ مُبين".
وانطلاقاً من زوايا معرفيّة مُختلفة، فإنّ الأسطورة تَدخل في منطقة اللّامعقول واللّامنطق (ليفي برول) وتخفي حقائق ميتافيزيقيّة، وتُمثِّل فلسفةَ جماعةٍ بشريّة (شلنغ)؛ والفكر الأسطوري منطقي ولا منطقي، عقلي ولا عقلي في آنٍ واحد (رافاييلى بيتاتسونى). ولأنّها ارتبطتْ بالديانات البدائيّة، فإنّه يصعب تفسيرها بعيداً من المُعتقدات الدينيّة التي كانت سائدة حينذاك (ميرسيا إلياد). وهي تلك الخاصيّة التي تُعزى إلى الشِّعر. فالأسطورة تُعبِّر عن نفسِها بالمُبالَغة تارة، والإعجاز تارةً أخرى. كما أنّها تَنزع نحو التمثيل والتشخيص والتجسيم "فالوسيلة المُتاحة أمام الأسطورة هي وسيلة التمثيل الحسّي. ومن هنا تَكتسي الآلهةُ في ضوء الأساطير مَظهراً بشريّاً، ويَحدث أن يتّخذ البشرُ المُتخَيَّلون مَظهراً غير بشري (ستيفن والص). وقد ربطَ جورج فريزر في كتابه "الغصن الذهبي" بين الأسطورة والطقوس، قائلًا إنّه بعد مُمارَسة أيِّ طقسٍ لزمنٍ طويل، لا يَعرف الناسُ لماذا كان هذا الطقس، فتأتي الأسطورةُ لتُجيبَ عن تساؤلاتِهم. لكنَّ عالِم الأنثروبولوجيا الشهير كاسبر ماليثوفسكي، الذي هاجَمَ "فريزر"، قال إنّ الأسطورة تنتمي إلى العالَم الواقعي وتَروم هَدفاً مُعيّناً، فهي قد نَشأت من أجل ترسيخِ عاداتٍ قَبَليّة مُعيَّنة، أو لتدعيمِ سيطرةِ عشيرةٍ ما، أو دعْمِ نَسَقٍ اجتماعيٍّ قائمٍ، وهي التاريخ في صورةٍ مُتنكِّرة.
أمّا فرويد في كتابه "تفسير الأحلام"، فقد فسَّر الأسطورةَ تفسيراً نفسيّاً: الأسطورة وليدة المَشاعر المكبوتة التي يَحتفظ بها الإنسانُ في منطقةِ اللّاشعور، ولذلك تَجِد أحداثَ الأسطورة لا ترتبط بمكانٍ وزمانٍ مُعيّنَيْن، بل تَدخل في نطاقِ اللّامكان واللّازمان. اهتمَّ يونغ، تلميذ فرويد، بالأسطورة أكثر من مُعلِّمِه الذي رَبَطَ بين الأسطورة واللّاشعور، ولكنّ الفارقَ أنّ فرويد أَرجع الأسطورةَ إلى "اللّاشعور الفردي"، بينما أَرجعها يونغ إلى "اللّاشعور الجمْعي". وفي كِتابه "اللّغة المَنسيَّة"، وافَقَ إريك فروم على ما ذهبَ إليه فرويد في الربط بين الأسطورة والحُلم ولكنّه خالَفَهُ، حيث اعتبَرَ الأسطورةَ أو الحُلمَ نِتاجَ العالَم اللّاعقلاني؛ فالعقلُ في حالةِ الحُلم يَعمل ويُفكِّر بطريقةٍ أخرى غير طريقته وعمله وتفكيره وقت الاستيقاظ. وقال إنّ الأسطورةَ هي لغةٌ رمزيّة، فإذا استطعنا فكَّ رموزها، حينئذ ينفتح أمامنا عالَمٌ زاخرٌ بالمعارف.
من هنا، تكتسي الأسطورةُ مَظهراً دراميّاً، تَمتزج فيه المأساةُ بالفرجة، وقد ظلَّت عُنصراً جوهريّاً في المُنجَز الفنّي المَلحمي بشكلٍ خاصّ، في الشعر كما في المسرح، وكان لثلّة من الفنّانين الموهوبين دَورٌ كبيرٌ في صناعة الرأي العمومي والمُتخيَّل الشعبي في وسطهم، وفي بلدانهم. وقد ظلَّتِ الأسطورةُ محلّ استغلالٍ من أجل تعْبِئة القبيلة و/ أو الأمّة في مجال الحروب وحتّى في الصراعات المحليّة. في عصرنا الحديث، على الرّغم من التطوّر العِلمي وانتشار الثقافة العقلانيّة، ما زالت بعض الشعوب تعيش تحت تأثير أساطيرها القديمة وسِحْرِها الأخّاذ؛ وهذا ما شجَّع "المُستثمرين في الأساطير" على تطويرِ تلك الأساطير أو تحيينها أو ابتكارِ أساطير جديدة وإدماجِها في نَسَقِهم الأيديولوجي والسياسي لخدمة أهدافٍ مدروسة (أحزاب وجماعات ذات توجُّهاتٍ قوميّة ودينيّة وثقافيّة). في عالَمِنا العربي والإسلامي، ما زالت الأسطورةُ هي حصان طروادة للوصول إلى الحُكم، وقد استمدَّت الأنظمة الحاكِمة شرعيَّتَها من سِحْرِ خطابها الأسطوري، سواء كان قوميّاً أم دينيّاً أم ثوريّاً. على المستوى الأُمميّ، كلّ الحروب التي اندلعتْ في عصرنا الحديث لم تكُن في منأىً عن توظيف الأسطورة، غير أنّ الفَرقَ يبقى شاسعاً بين الشعوب التي استَثمرتْ أساطيرَها بشكلٍ عقلاني في بناء قوّتها واستقرارها ورفاهيّتها، وتلك التي كانت ضحيّة أساطيرها، فذهبتْ ريحُها وخَسرتْ كلَّ شيء.
وباختصار فإنّ الماضي يُبعَث بكامله وبكلِّيّته من خلال أعظم عمليّةٍ لاستنهاضِ التاريخ عرفتها البشريّة، بتعبير فراس السوّاح، من حيث إنّ الإنسانَ يحاول الآن، أكثر من أيّ وقتٍ مضى، فَهْمَ نفسه، ومن حيث إنّ الأسطورةَ والتاريخَ كليهما وسيلةٌ يَفهم الإنسانُ من خلالها نفسَه ويَعي شَرطَهُ. ومن حيث إنّ تطلُّعَنا إلى قراءة التاريخ وفَهْمِه، إنّما نَشأ عن الموقف القديم ذاته الذي كان يَدفع أسلافَنا لتلاوةِ الأساطير والاستماع إليها. ولكنْ ما يُميِّز هذَيْن النّسقَيْن بعضهما عن بعض، بشكلٍ أساسي، هو أنّ الفكرَ الحديث قد أحلَّ أفعالَ الإنسان وقوانين التطوُّر كمُحرِّكٍ للتاريخ، محلَّ مشيئة الآلهة وأفعالها.
في ضَوء هذه المُقاربات، فإنّ الأسطورة تَختلف عن الخرافة، حيث الأسطورة في سياق ارتباطها بالتاريخ، هي معالجة شعريّة تخييليّة لمادّةٍ تاريخيّة، بينما الخرافة لا ترتبط بالتاريخ. فهوميروس في "الإلياذة" و"الأوديسّة"، مثلاً، عالَج تاريخَ عصره بطريقةٍ شعريّة اختلطتْ فيها الحقائقُ بالمجازِ وتضخَّمت فيها الوقائعُ بشكلٍ (أسطوري/ ميثي) لاواقعي مُفرِط في الخيال. وتبقى الأسطورة من حيث التمثُّل والتوظيف، وكذلك الخرافة، صفريّة الخطر ما دام توظيفهما محصوراً في النّطاق الفنّي للترفيه وتَزجية الوقت. أمّا إذا أصبحتْ مَصدرَ اقتباسٍ أيديولوجي في المجال السياسي والتربوي، في اتّجاهٍ مُضادٍّ للقيَم الجماليّة والإنسانيّة، هنا، تُصبح خطراً على العقول، كونها خرجتْ من مظهرها الفنّي المحض إلى التلفيق المؤدلَج.
وحين نتزوَّد بالعقل والمنطق يُمكننا بسهولةٍ تمييزَ ما هو أسطوري/ لاتاريخي في تاريخنا عمّا هو تاريخي (معقول ومنطقي). وإنّ قدرتَنا على التمييز هي ما يُساعدنا على إبطالِ مفعولِ الخطابات العنيفة المسلَّحة بالأساطير و/ أو الخطابات الأسطوريّة المسلَّحة بالعنف والتضليل.
*شاعر وباحث من الجزائر - مؤسسة الفكر العربي
وكالة بث