المُلحقات العائمة والأسلحة التدميريّة

news image

 

 

حنّا عبّود*

هناك آثار تعوم على سطح التاريخ، ولا تزول مع التقادُم، ولو مرّت عشرات القرون. يُطلِق علماء الاجتماع على هذه الظاهرة مصطلح "الانخلاع" بمعنى أنّ ما ينتج في ظروف معيّنة لا يزول بزوال تلك الظروف. والآثار العائمة تكون غير ماديّة، فنحن اليوم ننفعل بما نَحَتَهُ فيدياس وسواه، من غير أن نؤمن بزيوس أو ديميتر أو ديانا، كما ننفعل بما كتبه هومير وهسيود من غير أن نتوسّل ربّات الفنون، كما جرت العادة في عصرهما. ولا يقتصر الأمر على الفنون والآداب، بل يشمل التراث الشفهيّ والتقاليد والعادات... حتّى الأحلام والرؤى، نصّاً أو روايةً شفهيّة مُتناقلة، تصبح أدوات فاعلة.

وما زلنا حتّى اليوم نتعامل مع معظم المُلحقات العائمة الفنّيّة العنيدة جدّاً. فأكثر الألعاب الرياضيّة التي نحتفل بها في عصرنا جاءت من العصور القديمة كالمُصارَعة والمُلاكَمة والألعاب الأولمبيّة، الشتويّة والصيفيّة، حتّى يكاد المرء يظنّ أنّنا لم نبتكر جديداً في هذه الألعاب لولا بعض الابتكارات التي من صنعنا، كرياضة التزحلُق على الجليد. ترى هل نعيش في رَحَمِ التراث القديم؟ ولماذا نعتمد هذه الظاهرة القديمة أو تلك، في هذا الظرف أو ذاك؟ هل صحيح أنّ هذه الآثار العائمة من إنتاج الإنسانيّة في طفولتها، وكما يحنّ المرء إلى طفولته، كذلك البشريّة تحنّ إلى طفولتها، أو بما هو جميل ونافع من هذه الطفولة، كما يقول كارل ماركس؟

بالطبع ثمّة آثار معنويّة وماديّة لم يعُد لها وجود، فمقابل الآثار الأدبيّة القديمة العائمة في هذا العصر، هناك آثار أدبيّة لم يعُد لها ذكر، كذلك هناك آثار ماديّة لم تعُد تُستخدم، فمن يَستخدم في حروب اليوم السيف والرمح الرديني والنشّاب؟ ومَن يمتطي في ساحة الوغى "ظهر سابح" ويرى فيه أعزّ مكان في الورى، كما اعتقد المتنبّي، شاعرنا الكبير؟

المشكلة شاملة إلى درجة بعيدة، فالتراث متنوّع تنوّعاً يعجز المرء عن أن يحيط به، بل هو بحاجة إلى مؤسّسة، بل مؤسّسات تكرِّس وقتها لدراسة هذه الظاهرة - بل الظواهر - في كلّ فرع من فروع التراث. ونظنّ أنّها من المسائل الأوليّة، فهي أسلحة تدميريّة، وبعضها قد يكون أفتك من هذه الأسلحة، بسبب تخطّيها الزمن ومقاومتها للتغيّرات، وإن كانت هذه التغيّرات فعّالة ومؤثّرة عُمقاً واتّساعاً.

التراث الدّينيّ

التراث الدّيني بنية عنيدة جدّاً، وهي لم تظهر بظهور دولة إسرائيل، بل ربّما لم ينقطع ظهورها منذ نشأتها حتّى اليوم. ومنذ القرن العشرين بدأت تظهر ظهوراً فعّالاً في المنظّمات الدينيّة المُختلفة، وتترك تأثيراتٍ قد تكون أخطر من الأسلحة التدميريّة، بسبب تفاعُلها الداخلي. إنّ المسيحيّة - مثلاً - أطاحت بأعظم إمبراطوريّة غربيّة في العصر القديم، وهي الإمبراطوريّة الرومانيّة، من غير أن تُشهِر سلاحاً ماديّاً. إنّ هذه الأسلحة العائمة، عندما تمسك بها الجماهير العريضة، تعمل على التفكيك من الداخل، فكأنّ الأديان نقيض الأوطان. والمُلاحظ أنّ هذه المُلحقات ليست من صلب الدّين، بمقدار ما هي ممّا يفرزه رجال الدّين وجمهور التابعيّات، الذي تسوقه المُلحقات الغيبيّة.

إنّ الأسلحة الدّينيّة التدميريّة لا تَظهر بظهور الدّين، بل تظهر في الأزمات، حين تَجِدُ الجماعات الدّينيّة نفسها مهدَّدة، أو معزولة عزلاً مباشراً، أو مهمَّشة تهميشاً جزئيّاً. والأمثلة على ذلك كثيرة جدّاً، فالمسيحيّون تمسّكوا بـ "رؤيا يوحنّا" في ستّينيّات القرن الأوّل الميلادي (كما تمسّك اليهود بنبوءات أسفارهم: أشعيا وصموئيل ودانيال وحزقيال...) بعدما تنامى إليهم أنّ الإمبراطور نيرون لم يُقتل، وسوف يعود، ما دبَّ الرعب في القلوب، فكانت هذه الرؤيا، التي أَدخلت العزاء إلى قلوب المسيحيّين بأنّ المستقبل لهم، وأنّ معركة هرمجدون، سوف يكون النصر فيها للمسيح المُنتظَر، وهي عقيدة مُشترَكة بين اليهود والمسيحيّين، وكاتب الرؤيا يهودي مُتنصّر، اعتمدَ مرويّات العهد القديم في صياغة هذه الرؤيا. وهرمجدون، أو "تلّ مجدو"، مكان في سفح جبل الكرمل، خاضَ اليهود فيه معارك عدّة، وانتصروا فيها، ما ملأهم تفاؤلاً، وعلى ذلك اعتمد سفر رؤيا يوحنّا، وكما يَنتظر اليهود مسيحهم الذي لم يأتِ بعد، كذلك المسيحيّون ينتظرون مسيحهم، الذي ظهر لهم بعد دفنه، ووعدَهُم بعودةٍ ثانية ليدين الأحياء والأموات في المعركة الأخيرة، ويُقيم مَملكة الربّ، أي مَملكة العدل.

واليهود الأرثوذكس، إلى جانب اليهود السامريّين، لا يقلّون عداءً لقيام الدولة الإسرائيليّة من الفلسطينيّين، فهُم يرون أنّ مَملكة الربّ لا يُقيمها إنسان، بل الربّ وحده، وقتما يريد، يُنشئ دولته، وإلّا كانت دولة اغتصاب وتمرُّد.

وقام "الألفيّون" الذين ظهروا في القرن السادس الميلادي، بجمعيّاتهم وأحزابهم المُختلفة، وحتّى "شهود يهوه" في هذه الأيّام، بتفسير هذه الرؤيا بحسب العصر الذي يعيشون فيه، مُعتمدين على الأرقام التي وَردت في هذه الرؤيا. وراحت هذه "الألف" تتدحرج منذ القرن الأوّل وحتّى يومنا الحالي. وطالبَ كثيرون من عُلماء الدين في الفاتيكان، وخارج الفاتيكان، بإلغاء هذا السفر من الأناجيل، لما سبَّبه من ضرر، حتّى أنّ الاهتمام به وتناقله ازداد أضعافاً عن الاهتمام بالدّين نفسه، وحتّى بالأناجيل، ومَن التزموا به أكثر من الذين التزموا بالدّين والأناجيل، مع أنّ الكاتب غير معروف، هل هو من الرسل، أم اسم مستعار، أم هو يوحنّا آخر لا يمتّ إلى التلاميذ بصلة، وإن ادَّعت الرؤيا غير ذلك؟ إنّ المُلحقات التحفيزيّة التي تَظهر في الأزمات، لشدّ عزيمة المؤمنين، هي التي تحوِّل الآثار العائمة إلى أسلحة فتّاكة. وعلى سبيل المثال لم يَسمع أحد بـ "السفياني" في ظلّ الدولة الأمويّة، فلمّا زالت ظَهر مُلحقٌ بالدّين يؤكّد أنّ "السفياني" قادمٌ لتحرير بني أميّة وأنصارهم من سطوة مضْطهديهم، ويُعيد مجدَ الإسلام، بإعادة دولة بني أميّة. وبعدما أُبعِدت الشيعة عن السلطة وظهرَ مفهوم المهدي المُنتَظَر، الذي كان بينهم، وغابَ ليعود فيعيد العدل إلى الأرض، ويُنقذ المظلومين من الظالمين، وبذلك تبدأ البشريّة حياة جديدة. وقد ادّعى عددٌ من الشخصيّات أنّه المهدي المُنتظَر، وقصّة المهدي في السودان - وغير السودان - معروفة وشائعة.

على أنّ تلك المُلحقات العائمة لا تقتصر على اليهود والمسيحيّين والمُسلمين، بل تشمل كثيراً من الأديان. ففي الزرادشتيّة يَنتظر المؤمنون إعلان أهورا مزدا بدء المعركة الأخيرة، حيث يَختبر الناس بالسير على الصراط، فوق وادي بعيد الغور (عند اليهود الفرّيسيّين يُسمّى وادي يهوشافاط) وبذلك تظهر الإنسانيّة الجديدة، ويَنهزم أهريمان إلى الأبد.

وحتّى الطوفان ليس سوى إعلان عن قيام إنسانيّة جديدة، نقيّة طاهرة، تحلّ محلّ الإنسانيّة القديمة الفاسدة المُفسدة، سواء بعد طوفان بابل أم طوفان نوح أم طوفان ديوكاليون وبيرها...

لم تكُن القضيّة الفلسطينيّة تُطرح عن طريق هذه المُلحقات العائمة التي تحوّلت إلى أسلحة تدميريّة، بل تُطرح وفقَ مفهومٍ وطنيّ. فالزعيم أنطون سعادة قام بتدريب أفواجٍ من المتطوّعين، على أساس هذا المفهوم، فلقيَ مصرعه، كما يؤكّد الكثيرون. ولم يَطرح جورج حبش أو نايف حواتمه القضيّة الفلسطينيّة إلّا على أساس مفهومٍ وطني حديث، وفق حقّ الأُمم في تقرير مصيرها، وكان اختيار أسماء للمعارك يتمّ على أساس الأرض، كعمليّة اللّد أو المطار أو الأولمبياد... ولكن يبدو أنّ هناك استدراجاً لجعْل المُلحقات الدينيّة العائمة تحلّ محلّ الشعارات الوطنيّة؛ فقد راح الأميركيّون والإسرائيليّون يُطلقون أسماء من هذه المُلحقات، بعد سقوط الاتّحاد السوفياتي، أمثال "عناقيد الغضب" و"قبّة سليمان" و"مقلاع داود" (بل بلغ الأمر أنّ الرئيس جورج بوش الابن زَعَمَ أنّ الله أمره باحتلال العراق)، ما جعلَ الإسلاميّين يُقابلون ذلك بإطلاق أسماء دينيّة على عمليّاتهم. وقد أَطلقوا على آخر عمليّاتهم اسم "طوفان الأقصى" بمعنى أنّهم يطالبون بحلٍّ جديد عادل. وكان بإمكان المُقاتل الفلسطيني أن يقول للمرأة الأسيرة: لا تخافي أنا فلسطيني، ولكنّه قال لها مُعتزّاً: لا تخافي أنا مُسلم، وهو على يقين بأنّ المُسلم نموذج للرقيّ والحضارة والعدل والسِّلم والأخلاق... ولا نرى أنّ هناك شيئاً مادّياً أكثر حضوراً وأفعل تأثيراً من هذا الحضور النّاجم عن المُلحقات العائمة.

نظنّ أنّ الإسلاميّين استُدرِجوا إلى استخدام المُلحقات الدينيّة. ونعتقد أنّ المُسلمين على حقّ عندما قالوا إنّهم مُستهدفون بعد انهيار الاتّحاد السوفياتي، وبالأخصّ بعد تصريح مارغريت تاتشر لأحد المُراسلين، بأنّهم سيحافظون على حلف الناتو بعد انحلال حلف وارسو، لأنّ العدوّ القادم هو الإسلام... ومنذ ذلك الوقت طفقتِ المُلحقات الدينيّة تطفو على السطح (قبل ذلك كان رونالد ريغن يُطلق على الإسلاميّين لقب "ملائكة السماء") مع أنّ نسبة الوجود الإسلامي في الغرب أكثر بكثير من نسبة الوجود المسيحي في الشرق، وكان التعايُش سائداً، ولم يُسمَع خبرٌ عن اقتتالٍ ديني، سوى استفزازاتٍ للمسلمين في بعض العواصم. يبدو أنّ العمليّة تنحصر في استدراج المُسلمين لتحويل المُلحقات الدينيّة إلى أسلحة تدميريّة، فيسهل إطلاق مصطلح الإرهاب عليهم. والمُلحقات الدينيّة تُشبه الهشيم، قابلة للاشتعال السريع. فكيف نفسِّر اتّهام المُسلمين هنا بالإرهاب، بينما يُقيمون لهم دولة في جنوب أوروبا لتحطيم الجدار الصربي، وتطويق روسيا؟

مُعالَجة المُلحقات الدّينيّة

لا يؤمن العُلماء بهذه المُلحقات الدّينيّة العائمة، ويرون أنّ البشريّة لا تزول إلّا بقنبلةٍ نَيزكيّة من الفضاء، أو بقنبلةٍ بشريّة من الداخل، نتيجة التكاثُر، وتلويث الفضاء، وإشغال المساحات المُنتِجة للغذاء: مساكن، ملاعب، مَخازن، قلاع...إلخ، أو بقنبلة نوويّة تُطلقها الحماقة البشريّة. ويقدّمون لذلك حساباتٍ دقيقة جدّاً (عدا قنبلة الحماقة).

إنّ الاستخفاف بالمُلحقات الدينيّة باسم العِلمانيّة والعَلمانيّة، على أساس أنّها من المخيّلة وليس من الواقع، من الحُلم، وليس من الحقيقة، يزيد أنصارَها تمسُّكاً بها، وتحويلها إلى سلاحٍ مدمّر. حريّة الفكر لا معنىً لها إن لم تكُن متاحة للعِلم وللخيال، للإلحاد وللإيمان، للسياحة في أرض الواقع، وللتجوال في عالَم الأحلام. إنّ هذه المُلحقات موجودة، ولا مجال لنكرانها، موجودة كما يوجد أيّ شيء آخر، كما توجد مخطّطات الفوضى الخلّاقة، والهَيْمنة العالَميّة، وطريق الحرير، واعتماد العملة الواحدة، والتجارة الحرّة، والسِّلم العالَميّ، وحقوق الشعوب في تقرير مصيرها... لا بدّ من الإقرار بالوجود الفعلي لهذه المُلحقات، والنّظر إليها كتعبيرٍ عن ظلامة، عن اضْطهاد، عن هضْم حقوق، عن صرخةٍ إنسانيّة لاستعادة حقّ الحياة وحريّة المُعتقد... وهنا بيت القصيد، فعندما تكون الحقوق مضمونة، فإنّ المُعتقَد، وما يفرزه من مُلحقات، يغدو مادّةً ثقافيّة، تماماً مثل الفيزيقا والميتافيزيقا، والبَدَن والروح... وسوى ذلك من الموضوعات التي تطرحها الفلسفة كموضوعاتٍ ثقافيّة... عندها فقط لا يتحوّل المعتقد إلى سلاح تدميري، وتصبح المُلحقات الدينيّة موادّ للأدب والفنّ، ويبطل مفعولها المدمّر، بينما إن كان ثمّة حقّ مُهتَضَم، أو إهانة للكرامة، أو تكبيل للنشاط العملي، أو الحريّة الفكريّة (حريّة الإيمان لا تقلّ عن حريّة الإلحاد)... فإنّ المُتديّنين سينتجون مئات المُلحقات الدينيّة، ويبتكرون تحفيزات معنويّة، يكون لها وجود أكثر من الوجود المادّي، وسيكون لها تأثير أكثر من الأسلحة التي يتباهى بها مخترعوها، وسوف تظلّ فعّالةً ما دام هناك كرامةٌ تُداس، ومُعتقدٌ يُستصغَر ويُحتقَر. فإذا توافرَ لأفرادِ المُجتمع العمل المُنتِج، من دون تمييز، فإنّ الفتيل يُنزع من المُلحقات، وتتحوّل إلى موادٍّ مُلهمة للأدب والفنّ... وينطبق هذا على الجماعات والمُجتمعات والأقوام والأُمم، شرقاً وغرباً... ولكنّها سياسة القوى العالَميّة المُهيمِنة. فالأُمم المتّحدة في أوّل قرارٍ عن فلسطين قسَّمت الأرض بين الطرفَيْن، بحيث مَنحت أكثر من سبعين في المئة للفلسطينيّين، والباقي للإسرائيليّين. ولكنّ تلك القوى وقفتْ إلى جانب الهجرة اليهوديّة، ثمّ دفعتِ الطرفَيْن إلى المفاوضات في أوسلو، ما قلَّصَ حصّة الفلسطينيّين إلى أقلّ من الربع. والمعروف أنّ تفاوُضَ الطرفَيْن يُعطِّل قرارَ الأُمم المتّحدة.

في السياسة تتحوّل اليهوديّة والبوذيّة والزرادشتيّة والمسيحيّة والمانويّة والإسلام وكلّ ديانات العالَم، وما أكثرها! إلى أدواتٍ بيد القوى المُهيْمِنة، وإلى إنتاجِ مُلحقاتٍ بيد الفئات التي أَصابها الإجحاف والغبن؛ بل حتّى الاتّفاقيّة المُجحفة بين قويٍّ وضعيف تُنتِج المُلحقات المُدمِّرة، وستعود إلى مُمارسةِ عَملها كالمُلحقات الدينيّة. وإذا لم ننظر إلى الأمور على هذا النحو، فمعنى ذلك أنّنا أصبحنا طَرفاً، ولم نعُد في موقع النزاهة والموضوعيّة... ومن المؤسف أنّ الأُمم المتّحدة، في معظم الأحيان، لا تُفعِّل قراراتها العادلة بقوىً حياديّة قادرة على تنفيذها.

*كاتب وناقد من سوريا - مؤسسة الفكر العربي