فاليري ومفهوم الشعر الصافي
د.عبد الله إبراهيم*
اقترحَ الشاعرُ الفرنسيُّ بول فاليري (1871 - 1945) مفهوم "الشعر الصافي"، وهو ضَرْبٌ من الشعر الذي يُراهِن على حُسن لفظه، ودقّة معناه، ولا يُبالغ في الترميز الغامض، كما تجلّى عند الشعراء الرمزيّين من أسلافه، وعلى رأسهم مالارميه، ولكنّه لا ينقطع عن ميراثهم، حيث تتولّى القصيدة تمثيلَ خبرةٍ خاطِفة، أو تجربةِ تأمُّل، وربّما تَحمل بَوحاً منضبطاً. وقد تجنَّب فاليري المُغالاة في شعره، في وقتٍ غزا فيه السرياليّون الشعرَ الفرنسيّ بالأحلام، مُتخطّين الواقع إلى ما ورائه.
وعلى الرّغم من ذلك، فلا مغالاة في غموضِ شعر فاليري، ولا مُغالاة في وضوحه، تحدس محمولاته، ولكنّها لا توصف. ولعلّه الشاعر الفرنسي الوحيد بين مُعاصريه الذي حافَظ على وقار الشعر، وصانَه من العواطف العارضة، والأفكار الجاهزة، فكان يَزنه بموازين دقيقة، ويصهر تفاصيله بعنايةٍ راغباً في أن يكون مثالاً لكمال الشعر. وبحسب شهادة أندريه جيد، وهو من أخْلص رفاق حياته، فإنّ فاليري اشتبكَ مع عقله اشتباكاً كاملاً، وسعى للسيطرة عليه "السيطرة التي كان يطمح لها هي السيطرة على العقل، وما عدا ذلك هراء. السيطرة لا على عقول الآخرين، بل عقله ذاته"، وكان فاليري أبعد ما يكون عن أن يجعل شعره سجلّ اعترافات ذاتيّة.
صاغَ فاليري هويّته الشعريّة في هدي الشعر العظيم بأزهى صوره، وحماه من صروف الدهر، وأوصله بالنّزعة الإنسانيّة التي هي من ثمار العقلانيّة، ولم يكفّ عن صقْلِ قصائده، حتّى انتهت إلى أن تكون أشبه بقطعٍ من الألماس يتكسّر على سطوحها أَلَقُ التأمّل، والحدوس الذاتيّة، فأسلوبه منضبط، ومعانيه مغلّفة بالذاتيّة، وخبراته ذهنيّة. وفي الإجمال لم تراوده رغبة الخروج على أعراف الشعر الموروثة، لكنّه لم يتقيّد بها، إنّما اهتدى بمكاسبها، وبالقطع لم يكُن يريد أن يكون شبح شاعر، بل قَصَدَ أن يكون شاعراً حقيقيّاً. وبمعنىً من المعاني، قيَّدَ شِعْرَهُ بتقاليد الشعر العظيم، وخَتَمَ حقبةً كان فيها الشعر الفرنسي قد تشبَّع بالتجارب، وتشرَّب بالخبرات، وكفَّ عن مراودة أيّ طموح آخر، وكأنّ كماله تحقَّق بفاليري، ووجدَ أنّ ذلك ينتهي به إلى "الشعر الصافي".
وكان قد نشبَ خلافٌ حول هويّة الشعر، ووظيفته، منذ أقدم الأزمنة، ففيما يراه طَرَفٌ من الشعراء تمظْهراتٍ عقليّة صافية تَنتظم في أُطرٍ مجازيّة موقّعة غايتُها استبطان دواخل الإنسان، يراه طرفٌ آخر تفجيراً لمشاعر مكبوتة، وتمثيلاً لشؤون الحياة، وغَوصاً في قضاياها العامّة والخاصّة. وقد انتمى فاليري إلى الفئة الأولى، ودوَّنَ كُتباً في معنى التأمُّل الشعريّ، وكانت تحدوه رغبة الكمال في قول الشعر. فقصائده خضعت للتهذيب اللّفظي والدلالي، وهي مُحكمة الصنع من ناحية المبنى والمعنى، وتخلو من طيش الشعراء العازمين على خرْقِ المحرّمات اللّفظيّة والمعنويّة، ومُجملُها يَظهر للعارفين بأسرارِ الشعر مُنسجمةَ التكوين، وقورةَ الشكل، صافيةَ المعنى، لكنّها عند هواة الشعر رتيبةٌ وباردة، حيث العواطف شاحبة والمشاعر مُتوارية.
في إحدى أواخر مُحاضراته عن نظريّة للشعر، ألقاها في مدينة بروكسل أوائل العام 1942، أي قُبيل ثلاث سنوات من وفاته، أَجمل فاليري خلاصةَ تجربته الشعريّة، وجَعَلَ لها عنواناً معبِّراً عمّا أراده: "ذكريات شعريّة"، تحدَّث فيها عن ذاته شاعراً أو ما جَعله ينتهي شاعراً، فانطلقَ من طفولته في مدينةٍ بحريّة في جنوب فرنسا في سبعينيّات القرن التّاسع عشر؛ فعلى ضرب أمواج البحر الأبيض المتوسّط انبذرت تجربةُ البحر في شعره، ونَفثها في إحدى أجلى أشكالها بعد زهاء خمسين سنة، بقصيدته "المقبرة البحريّة"؛ وفضلاً عن تغلغُل عالَم البحر في وجدانه، كانت المدينةُ البحريّة، في نظره، مكانَ إياب وذهاب، وصول السفن وإقلاعها، ففيها رأى العالَم منوالاً من الاتّصال والانفصال، فالاستمراريّة أصل الأشياء، فكان أن ارتسمَ في خاطره معنيان للشعر "معنىً فضفاض ومُنحرف" و"معنىً محدّد وأصليّ". تعني كلمة شعر بالمعنى الأوّل: الحساسيّة، أي ما يُثير الحسّ في نَفْس الشاعر. أمّا ما تعنيه في المعنى الثاني، فهو الإحالة على "فنّ خاصّ" أو "صناعة"، فالشعر صنعة، والشاعر هو مَن يتولّى صناعة القصائد.
فرَّقَ فاليري وفاضَلَ بين تيّارٍ من المشاعر يَسري في نفوس الشعراء، فيستجيبون له بضربٍ من الشعر المعبِّر عن حالتهم، وذلك فَهْمٌ مُنحرف للشعر، وبين عكوف الشاعر على صَوْغِ تجربته بصنعة العارف بأسرارها، والقادر على الارتقاء بها من كونها تجربة فرديّة عارضة إلى تجربة عامّة دائمة، فذلك هو الشعر. وفي مقتبل عمره، غاب عن فاليري التفريق بين كون الشعر انفعالاً نفسانيّاً متدفّقاً، وبين كونه صوْغاً لفظيّاً واعياً لتجربة الانفعال، فكان يدوِّن انفعالاته كما يحسّ بها، فيتغنّى بمشاعره وتجاربه، ويُحاكي الشعراء في ما ينفعلون به، حتى اطَّلع على أعمال مالارميه، فأُصيب بصدمةٍ أيقظته من غفوة الانفعال الشعوري، وكشفت له أهميّة الصوْغ، والنَّسْج، والصَّنْعة، ولذلك، لم يكُن مالارميه، في عين فاليري، منبع "المزايا الشعريّة الأنقى" فحسب، إنّما كان "قدوة شخصيّة، قدوة لنَوعٍ صادق من الأخلاق، ومكرِّس لتتبُّع المثل الأعلى للأفذاذ".
انقطعَ فاليري عن مرحلة الانفعال بتجاربه، وانتقل إلى صنْعِ نصوصٍ شعريّة عنها، فكان أن نَمت لديه فكرة صناعة الشعر التي صاغها، في ما بعد، بمفهوم "الشعر الصافي" الذي أَثار لغطاً كبيراً في أوساط الدّارسين منذ شاع ذكره، ولم يظفر أحد في تحديد دلالته القاطعة، حتّى فاليري الذي نادى به، وهو المتضلّع من الشعر، عجزَ عن ذلك. فالمفاهيم الأدبيّة تتّصف بالمرونة لاقترانها بموادٍّ شبه سائلة، ويتعذّر رسْمُ حدودٍ واضحة لها، فيتوسَّع الجدل حولها، ويتشعّب، ولكنّه لا ينتهي إلى صوْغِ دلالةٍ نهائيّة لها، وذلك يثري الأدب، ويخلع عليه غنىً هو من أخصّ سماته.
الإحساس بالوهْم
في أكثر من مناسبة وجدَ فاليري نفسَه مُرغَماً على الحديث عن الشعر الصافي، حتّى جَعَلَهُ موضوعاً لمقالة عنوانها "الشعر الصافي"، واستهلّ فيها الحديث عن بديهيّة ليست مثارَ خلافٍ كبير بين الشعراء ونقّاد الشعر، "الشعر بمعناه الدقيق إنّما يكمن في استخدام الوسائل اللّغويّة". إذاً، اللّغة وسيلة الشعراء في تأليف أشعارهم، ولكن ما الذي يؤدّيه استخدام تلك الوسيلة؟ رأى فاليري أنّ ذلك الاستعمال المخصوص للّغة يَبتكر إحساساً شعريّاً يُصطلح عليه الإحساس بالوهْم، ويعني الوهْم في هذا السياق، بناء عالَم متخيّل يُماثل العالَم الواقعي، ولكنّه، بالقطع، ليس ذلك العالَم؛ يتحقَّق الأمر إذا تخيَّر الشاعر من معجم اللّغة ما يناسبه من كلماتٍ في إنشاء قصيدة، ثمّ ينتقي أفكارها، ويصطفي موضوعاتها، ويُحسن المُلاءمة بين وسيلة البناء، ومادّة البناء، وهو في حالةٍ نفسانيّة وذهنيّة عالية الصفاء توافق ما هو في سبيله إليه، إذا توافَر ذلك بأفضل أشكاله، فيُمكن توقُّع انبثاق ضربٍ من الشعر يصحّ نعْته بالشعر الصافي.
ولكن يلزم أمر ثانٍ ينضاف إلى الأوّل، إذ ينكشف صفاء الشعر: إذا تمكّن الشاعر من إنشاء قصائد لا يَظهر فيها شيء ممّا يدخلُ في النثر، قصائد لا يتعرّض فيها الاتّصال الموسيقي لأيّ انقطاع، وتكون فيها علاقات المعاني دائماً كالعلاقات الإيقاعيّة بين الأشياء، ويكون فيها تحوُّل الأفكار، إحداها إلى الأخرى، أكثر أهميّة من أيّ فكرة على حِدة، وتتضمّن فيها حركة الموضوع واقعيّة الأشخاص. آنذاك، يُمكن الحديث عن ذلك الضرب من الشعر، الشعر الصافي، لكن ذلك مطلب شبه محال. فالجانب العَمليّ للّغة واستخداماتها، وتعبيراتها الدّارجة في الحياة اليوميّة، وفوضى ألفاظها واشتقاقاتها، تَجعل وجودَ الشعر الصافي مُمتنعاً. إنّ مفهوم الشعر الصافي متعلّق بشيءلا يُمكن الوصول إليه، متعلّق بالحدّ المثالي للرغبات والجهود والقوى التي يصدر عنها الشاعر. الرغبات الأسمى، والجهود الأكفأ، والقوى الأعظم، التي يحتاج إليها شاعرٌ ما لينطق بالشعر الصافي لا تتحقّق، ولن تتحقّق لأيّ شاعر في الدنيا، فتلك سقوف لا متناهية في ارتفاعها، لها تخومٌ مُبهمة في العلوّ، ولكن يعزّ تخمين سموّها. ترتقي الحالةُ الشعريّة بمدارك الإنسان إلى أُفقٍ سامٍ من التوقّعات، وتوسِّع من أُفقِ مَداركه، وتزيد من إثراء خيالاته. ينبغي على الشعراء بذْل جهودٍ مُضنية للاقتراب من تلك الرتبة، عساهم يدنون إلى الغاية.
حينما اشتهرت قصيدة "المقبرة البحريّة" في العقد الثالث من القرن العشرين، واختلفت الآراء حولها بين مؤيّد ومُعارِض، وأمست موضوعاً للدرس في الجامعات، دُعي فاليري إلى جامعة السوربون لحضور درسٍ تحليليّ عنها. جلسَ الشاعر في القاعة بصفته طالباً، وهو يُراقب ردودَ الأفعال حول قصيدة حار حتّى هو في أمرها، لكنّها انتهت على طاولة التشريح النقدي في الجامعة. اعترفَ فاليري، وهو في القاعة، أنّه لا "يكنّ تقديراً كبيراً للشاعر، وهو يجلس منعزلاً، ومكشوفاً للهجوم، وقلقاً في مقعده"ـ فقد أنشأ قصيدته في خلوة، وواظبَ على صوْغها مرّات ومرّات قبل أن ينتزعها من بين يدَيْه أحد المُحرّرين من دون رغبته، وينشرها على الملأ، وها هي ذي تنتهي على منضدة التشريح البارد تحت نظره. وكان فاليري قد انقطع عن قول الشعر ثماني عشرة سنة قبل انكبابه على "المقبرة البحريّة" التي ظهرت في العام 1922، وبها استأنفَ مسارَه الشعريّ، وكان على مشارف الخمسين من عمره.
أثارت تجربةُ حضورِ درسٍ نقديّ عن قصيدة فاليري الرغبةَ لديه في أن يدلو برأيه، فكتبَ مقالةً بعنوان "حول قصيدة المقبرة البحريّة" أراد بها قياس ردود أفعال المتلقّين على قصيدته. وأوّل ما بدأ به السؤال عن سرّ بقاء قصائد تؤلّف على "مهل وأناة، فتبقى سنواتٍ طويلة معلَّقةً بين الوجودِ والعَدمِ نتيجةً لتطلُّع الشاعر إلى الكمال". ولو أَخذنا بمبدأ حُسن الظنّ، فإنّما يقصد بذلك قصيدته التي واظبَ على كتابتها مدّة طويلة، قبل أن تُنشر بصيغةٍ لم يكُن قد استقرّ عليها بعدُ. وأشار إلى أنّ الماضي عرف فئة من الشعراء يقدِّسون القصيدة، فلا يفرغون أبداً من الانكباب عليها. لا ينتهي الشاعر من قصيدته أبداً، وحين تُنشر، فإنّما تُنشَر صيغةٌ من صيَغِها، ولو مكثت بين يدَيْه لتعرَّضت للتغيير بعد التغيير. والأرجح فإنّه كنّى عن نفسه بالمثال، فهو من الشعراء الذين لا يريدون لقصائدهم أن تنتهي، لأنّ "العمل الفنّي في نَظَرِ عاشقي الجهد الكامل، لا يُمكن أن ينتهي يوماً ما". وبعدما فرغَ من ذلك، انعطفَ صوب الاعتراف "وقد أصابتني عدوى ذلك المرض، تلك اللّذة المتمرّدة في العمل، وتكرار العمل إلى غير ما نهاية، وتلك المتعة في قلْبِ الأعمال الفنيّة رأساً على عقب". حدثَ الأمرُ حينما تقدَّم به العمر، وأصبح دوام النَّظر في ما يَكتب هاجساً من هواجسه الثابتة، كأنّه من حرصه على ذلك، كان يدرِّب نفسَهُ على الكتابة. كان ذلك رهاناً صعباً لا يخوض فيه كلّ شاعر. ولم ينصح فاليري أيّ شاعر للأخْذِ بتلك الطريقة الشاقّة في كتابة الشعر.
خلال مُتابعة فاليري الدرس الجامعي حول قصيدته، راعه البون الكبير بين القصيدة في أثناء اعتكافه الطويل عليها، وبين الشكل الذي يتعرّض للتشريح أمامه في قاعة الدرس، فوقَعَ تضارُبٌ بين ذكرياته عن كتابتها قبل زهاء خمس عشرة سنة من ذلك الوقت، وجدّه في البحث عمّا يناسبها من الكلمات والصيَغ، ومحاولته الإمساك بالإشراقات اللّفظيّة المُنبثقة من أسلوبه في تركيب الألفاظ، وبين الانشغال بمعانيها، والسعي إلى بيان طريقة تأليفها، والمقاصد المتوارية فيها. ثَبَتَ لفاليري، وقد أمسى، بعد ذلك، أستاذَ كرسيّ الشعر في السوربون، ومعنيّاً بموضوع "الشعريّة"، أنّ ظروف استحداث الشعر هي غير ظروف تحليله، فانقسم بين شعورٍ من الرضا وشعورٍ من الألم.
نفى فاليري عن الشعر وظيفةَ تمثيل العالَم، وقَصَرهُ على النَّثر؛ فالعالَم مجموعٌ معقّد من الأحداث والتجارب لا يتولّى تمثيله إلّا النثر، أمّا الشعر فيتولّى تخييله بصفاءٍ أسمى بكثير من التمثيل، فدنيا النثر غير دنيا الشعر. النثر يتناول "دنيا التجارب والأفعال" التي تقترح على الإنسان التوافُق، وحتّى التطابُق، مع العوالم القائمة. أمّا الشعر فيوحي بدُنيا مُختلفة، وهي "دنيا من التأثيرات المُتبادَلة، وأشبه بدنيا الأصوات. في الدنيا الشعريّة يتفوَّق الجَرسُ على المنطق، ولا يذوب الشكل في الموضوع بل يُحرّكه ويقوّيه، وتَجِدُ الفكرةُ الصوتَ الذي يعبّر عنه". وفي ضوء ذلك تترتّب خصوصيّة القول الشعري، واختلافه عن القول النثري، ففيه يلزم الآتي "الضرورة الشعريّة لا يُمكن أن تنفصل عن الشكل الحسّي، والأفكار التي يحويها النصّ الشعري، أو يوحي بها، ليست بأيّ حال هي الهدف الوحيد أو الغرض الرئيس منه". ذلك هو مفهوم "الشعر الصافي" عند فاليري كَتبه بقلمه، وأجراه على شعره.
*ناقد وكاتب من العراق - مؤسسة الفكر العربي