"البيت" العربيّ: مصنع للتنشئة على العصبيّة!

news image

د. فادي سعيد دقناش*

تزخر كُتب التربية المدنيّة والتنشئة على المُواطَنة في عالَمنا العربيّ (لبنان أنموذجاً) بمصطلحاتٍ ومفاهيم تُحاكي القيَمَ الاجتماعيّة بمنظورٍ إيجابيّ، مصدره الأساس مؤسّسات التنشئة الاجتماعيّة التي تبدأ من "البيت - المنزل"، أي الأسرة أو العائلة، مروراً بالمدرسة، وصولاً إلى المُجتمع الأكبر، كجماعة الرفاق والمؤسّسات الدينيّة والسياسيّة والإعلاميّة والأندية والجمعيّات والروابط والكشّافة....

يأتي ذلك من ضمن رؤية تربويّة "تحديثيّة" ترى بوجوب مُقارَبة هذه المصطلحات والمفاهيم مُقارَبةً عملانيّة تعتمد على استراتيجيا الكفاءات أو المُقارَبة الدمجيّة في المناهج، التي بدورها تُحاكي أهداف العمليّة التربويّة كعمليّةٍ حيّة تتجاوز مجرّد التعلُّم لأجل المعرفة فقط، بل لتنمية شخصيّة الطالب وتزويده بالقيَم والوجدانيّات والسلوكيّات والمهارات اللّازمة من أجل تكوين مواطن مدنيّ صالح، أي مُقارَبة ناشطة للمناهج تُعطي الأولويّة للمُمارسة العملانيّة لمفاهيم المُواطَنة لا للمُمارَسة النظريّة كالتكرار والتلقين والحفْظ؛ وهذا يعني أنَّ المدرسة لها التأثير الكبير والمفصليّ في عمليّة نقْل الفرد، من التقوقُع المحلّي الأهلي "البَيتي" "العائلي" إلى رحابِ فضاءٍ أوسع هو المُجتمع الذي يعيش تحت كنف دولة المُواطنة المدنيّة. وانطلاقاً من هذه المُقاربة، هل استطاعت هذه المناهج "التحديثيّة" إحداثَ خرْقٍ في البنية الاجتماعيّة التقليديّة؟ بعبارة أخرى هل تمكَّنت المدرسة كمؤسّسة، من تكريسِ قيَم المواطنة المدنيّة وفصْلها عن القيَم الأهليّة "المنزليّة"، أم أنَّها تماهت معها؟

التنشئة الاجتماعيّة في الغرب

يَعتبر عالِم الاجتماع إميل دوركايم أنَّ المؤسّسات الاجتماعيّة تتحكَّم بالشخصيّة الاجتماعيّة للأفراد وبهُويَّتهم، ضمن ما جرى التعارُف على تسميته البنية الاجتماعيّة العامّة، وقد حدَّد دوركايم في هذا السياق هذه المؤسّسات (المؤسّسة التربويّة، الدينيّة، والعسكريّة، العائليّة) تاركاً الباب مفتوحاً أمام مزيدٍ من التجلّيات في هذا المجال. وفي منتصف القرن العشرين انجذبَ عُلماء النَّفس الاجتماعي والأنتروبولوجيا إلى طرح دوركايم، فاعتبروا أنَّ المؤسّسات الاجتماعيّة هي التي تتحكَّم بترسيم معالِم الشخصيّة الاجتماعيّة للأفراد، فنشأ منظورٌ جديد مبنيّ على مفهوم التنشئة الاجتماعيّة الشائع، والمُعتَمَد حتّى أيّامنا هذه، استجابةً للبيئة الاجتماعيّة الحديثة في أميركا، حيث تمَّ بناء هذا المفهوم على ثنائيّةٍ دالّة تفسيريّة، تقوم على زمنَيْن تربويَّيْن، فكانت مصادر التنشئة الأوّليّة التي أُدرجت من ضمنها المؤسّسة العائليّة، أمَّا في المصادر الثانويّة فجاءت المدرسة، تلتها المؤسّساتُ المهنيّة، في حقول العمل المختلفة المرتبطة بأنظمة الحياة المُعاصرة المُقيمة تحت قبَّة النظام الرأسمالي.

ولكن هل مسار مفهوم التنشئة الاجتماعيّة الغربي يختلف عن مساره في التنشئة الاجتماعيّة الشرقي (العربي تحديداً)؟ وفق الرؤية الغربيّة هناك تراصف طبقيّ لهذا المفهوم، فالمصادر الأوليّة التي ترتبط بالطفولة وبالوعي البشري الأوّلي غير المركَّب، تنتمي إلى الطبقة الدنيا؛ فيما الثانويّة تقف فوقها في الطبقة العليا؛ فالتنشئة الاجتماعيّة عندهم لها منبعَان، منبع أوّلي هو "البيت"، ومنبع آخر يبدأ بالمدرسة ويُصحِّح ويُقوِّم الأوّل الأكثر بيولوجيّة وغريزيّة؛ وهي رؤية حداثيّة (برأيهم) تُجسِّد رؤية مستقبليّة تقدّميّة لسببَيْن رئيسَيْن: الأوّل تربوي، والثاني إنتاجي.

- التبرير التربويّ: إنَّ اعتماد العقلانيّة كنَهج وكطريقة من طرائق التفكير والتخطيط والتنفيذ المُبتكرة يحتاج في المقام الأوّل إلى تعزيز المؤسّسة التربويّة المدرسيّة البعيدة كلّ البُعد عن روتين التلقين. فالهدف هنا هو التحوُّل نحو مشروعٍ تربوي متكامل يقوم على إعادة بناء وترتيب وتنظيم المفاهيم وطرائق التفكير التي قامت بها مصادر المعرفة الأوّليّة ("البيت") بتعويد الأفراد على اعتمادها. فالمدرسة هنا مؤسّسة مفصليّة تنتقل فيها التنشئةُ الاجتماعيّة من مستوىً احتضانيّ موروث إلى مستوىً تكوينيّ حديث، ففيها تغدو العلاقة بالعالَم الخارجي والآخرين مختلفة نوعيّاً عن تلك التي روَّجتها مصادر التنشئة الأوّليّة ("البيت")، حيث لا يعود الخارج مُخيفاً بل جاذباً، ولا يعود منغلقاً بل مفتوحاً؛ فمدراء المدراس الحكوميّة الحديثة في الغرب لا يُجارون أهالي الطلّاب ما لقَّنوه لأولادهم في البيوت، بل يستدعونهم إلى المدرسة لتحميلهم المسؤوليّة عند أيّ خَرْقٍ لأبنائهم لقواعد الانتظام المواطني المدني العامّ، كونهم أصحاب السلطة الثقافيّة والأخلاقيّة في المُجتمع.

- التبرير الإنتاجيّ: شجَّعت الرأسماليّةُ الغربيّة الفصلَ المعرفيّ بين المصادر الأوّليّة والثانويّة للتنشئة الاجتماعيّة باعتباره أنموذجاً إرشاديّاً حديثاً مَبنيّاً على فكرة التقدّم وزيادة الإنتاج، إذ إنَّ التسويق للإنتاج واستثماره يحتاج إلى ذهنيّة اجتماعيّة عامّة تُثَمِّن التطلُّع الربحي المستقبلي ومندرجاته المعرفيّة. هذا لا يعني مثاليّة النموذج الرأسمالي، فمسألة ارتباط التكوين المنهجي في فرنسا مثلاً، كما بيَّن عالِم الاجتماع بيار بورديو في إحدى دراساته، أتت لتصُبَّ في مصلحة النظام الاقتصادي الرأسمالي الذي يكرِّس الطبقيّة في التعليم لأنَّه يوجّه أبناء العمّال والمِهن إلى التعليم المهني، بينما في المقابل يُعيد أبناءَ أصحاب المصالح والمِهن الحرّة إلى وراثة آبائهم من خلال التوجُّه إلى التعليم الأكاديمي الجامعي؛ لكن على الرّغم من هذه اللّامساواة، يبقى المناخ العقلاني يشدّ عزائم الطلّاب نحو المستقبل والتفكير الدائم بالإنتاج في مدارسهم الحكوميّة، وهذا بحدّ ذاته يُعدُّ مَكسباً معرفيّاً. وهكذا نستنتج أنَّ التراتب لمؤسّسات التنشئة الاجتماعيّة في الغرب يقوم على الفصل والقطع بين مصادرها الأوليّة "البيت" ومصادرها الأخرى الثانويّة، فالمصدر الأوّلي لا يعني أفضليّته على الثانوي بقدر ما هو تصنيف تراتبيّ زمنيّ.

التنشئة الاجتماعيّة في البيئات التقليديّة

عملاً بمبدأ النسبيّة الاجتماعيّة ليس بالضرورة أن يأتي مفهوم التنشئة الاجتماعيّة عند الغرب مُشابهاً للتنشئة في مجتمعاتنا، فلكلّ مجتمع خصوصيَّته، وقد بيَّنت العديد من الأبحاث والدراسات السوسيولوجيّة أنَّ التنشئة الاجتماعيّة خاصَّتنا تتحرَّك وفق منظورٍ دائري مُغلق، فعناصرها ذات لونٍ واحد، من وعيٍ متجانس واحد، حيث تندغم مصادر المعرفة فيها في ما بينها على نحوٍ تواصلي، ولا يختلف أو يُعاكس أحدُ هذه المصادر المصادرَ الأخرى، بل يُشكِّل لها امتداداً في الفكر والسلوك. ماذا يعني ذلك؟ هذا يعني أنَّ المصادرَ الأوّليّة للمعرفة تتواءَم وتتماهى مع مَصادر المعرفة الثانويّة، فلا يوجد أيُّ تبايُن نوعي بين ما يعتاد الفرد على التفكير به بين جدران البيت والأهل وبين ما يُمارسه الفرد في الخارج. فالمخزون الهائل من المفاهيم واستعدادات السلوك ينقله الفرد إلى الحياة الخارجيّة، فيتوحَّد السلوكُ الخاصّ بالعامّ ضمن الوعي التقليدي نفسه.

والأمثلة على ذلك تكاد لا تُعدّ ولا تُحصى، ففي لبنان على سبيل المثال عندما قرَّرت السلطات الرسميّة في تسعينيّات القرن الماضي عقب اتّفاق الطائف وضْعَ كُتبٍ مدرسيّة جديدة تستوحي روحيّة المواطنة، بهدف إنشاء جيل جديد من المواطنين اللّبنانيّين، حصلَ اشتباكٌ سياسي انطلاقاً من صياغة كتاب التاريخ الذي تناغم مع تطلُّعات فئة من اللّبنانيّين دون الأخرى. "ولمَّا كانت الثقافةُ السياسيّة السائدة في المجتمع، ثقافة نِزاعيّة، ولمَّا لم تتكوَّن نواة فكريّة للتنشئة السياسيّة تُشكِّل مرجعاً جديداً لمؤلّفي الكُتب المدرسيّة، ولم تتحوَّل الاتّفاقات السياسيّة التي أَرست السلام إلى ثقافة سياسيّة مُقنِعة، فإنَّ التوحيد القسريّ للكُتب المدرسيّة كان عرضةً للاصطدام أحياناً بالثقافات السياسيّة الفرعيّة المُناهضة" (عدنان الأمين، التنشئة الاجتماعيّة وتكوين الطبائع، 2005). هذه الثقافة النزاعيّة انسحبت أيضاً على طلّاب الجامعات، حيث أَظهرت دراسةٌ ميدانيّةٌ لجامعتَيْن لبنانيّتَيْن (الجامعة اللّبنانيّة والجامعة اللّبنانيّة الأميركيّة) حضوراً قويّاً للفضاء الفكري التقليدي؛ فطلّاب هاتَيْن الجامعتَيْن، بمعظمهم، يعيشون في سلسلة من الدوائر الذوقيّة والسمعيّة والسكنيّة والاجتماعيّة والأهليّة والشعبيّة، داخل الجامعة وخارجها، تتواصل في ما بينها مَعرفيّاً وضمنيّاً على نحو مُعلن، وترتبط كلّها بالاستعدادات المُكتسبَة من التنشئة الاجتماعيّة الأوّليّة الكاسحة واللّاغيّة لأيّ تأثيرٍ يُذكر لمصادر المعرفة الثانويّة، بحيث نَجِدُ أنفسَنا أمام جامعاتٍ عصريّة، لا حديثة، تُخَرِّج طلّاباً نيو-تقليديّين، والصداقات أو السكن ضمن الحرم الجامعي تكون ضمن الفضاء المذهبي نفسه، ومشروع أيّ زواج من زميل أو زميلة يُفضَّل أن يكون من الطائفة نفسها، "فالجامعة صورة مصغَّرة عن لبنان القائم على التوزُّع والمحاصصة الطائفيّة" (نديم محسن، بين المعرفة العلميّة والمعرفة الدينيّة، أطروحة دكتوراة غير منشورة، 2019).

نستنتج هنا أنَّه لا يوجد دورٌ تكوينيٌّ حقيقيٌّ للمدرسة والجامعة، فما هو محسوب على مصادر المعرفة الثانويّة في التنشئة الاجتماعيّة على المستوى التربوي لا يرقى إلى هدف يتجاوز التعليم والتلقين والتكرار.

التنشئة المنزليّة خاصَّتنا تبدأ بالتسميات وتنتهي بالعصبيّات

أَظهرت دراسةٌ نوعيّة استكشافيّة حديثة تناولت فئاتٍ اجتماعيّة من مختلف المناطق اللّبنانيّة ومن طوائف مختلفة (فردريك معتوق وفادي دقناش، التنشئة على العصبيّة، 2022)، أنَّ خيار تسميات الأبناء توزَّع ضمن تصنيفاتٍ أربعة: تسمية المولود بأسماء الأقارب أو الإرث العائلي للاسم/ تسمية ثقافيّة تتناسب مع الذوق الثقافي العامّ للأب أو للأمّ أو لكليهما/ تسمية دينيّة ترسيخاً لتقليدٍ ديني، كدلالة رمزيّة للانتماء الديني لهذه الطائفة أو تلك/ خيار أقليّة خجولة جاءت خارج المألوف أو خارج السياق الثقافي التقليدي العامّ، كانتقاء أسماء أجنبيّة. استنتجت الدراسةُ أنَّ هناك مشتركاتٍ معرفيّة للفئات الاجتماعيّة المختلفة في المناطق اللّبنانيّة وأَظهرت نزعةً مكشوفةً لربط الشأن العائلي بالدّيني، ونزعة مضمرة لربط العائلي والديني بالسياسي. وفي إطار التسميات يأتي التصنيف والتمييز الجندري واضحاً، فالخيارات المُتاحة في التسميات اختزلها الابن البكر (الذكر تحديداً)، حيث التقليد العائلي يُلزم صاحبه عن وعي أو من دونه بضرورة تسمية هذا المولود على اسم الجدّ للوالد، وهكذا يأتي العُرف العائلي أقوى من أيّ عُرف آخر، فيما خيار تسمية الإناث تأتي حرّة بعيدة عن أيّ قيود أو ضغوط اجتماعيّة. وهذا يتقاطع مع دراسةٍ أخرى بيَّنت أيضاً أنَّ الأنثى يجري تمييزُها عن الذكر، فالأخير هو كسبٌ للعائلة بينما الأنثى عبءٌ عليها، وهذا يَجعل البنت أثناء الطفولة تتلقّى اهتماماً أقلّ من الذكر ما يُتيح لها أن تنمو بحريّة أكبر، وأن تتعلَّم كيف تواجه المصاعب ومشكلات الحياة بصورة أكثر فعاليّة من الصبي لأنَّها لم تخضع للضغط نفسه (هشام شرابي، مقدّمات لدراسة المجتمع العربي، 1991).

في التنشئة الاجتماعيّة التقليديّة هناك تشابُه معرفيّ (للفئات الاجتماعيّة المختلفة من أيّ ديانة أو مذهب انتموا)، فالأهل يسعون إلى تكوين وعيٍ تقليدي مُغلَق لدى الناشئة يقوم على اجتماعيّاتٍ موروثة تتكفَّل باستيلادٍ معرفيّ ينسجم تمام الانسجام مع طرائق التفكير والسلوك الموروثة، إضافة إلى بصمتَيْن سياسيّة وعصبيّة، الأولى تعمل على استبعاد عقْلَنة فهْم الظاهرات السياسيّة الرّاهنة المعيشة، كما فهم التاريخ فهماً تطويريّاً، والأخرى تجعل التواؤم المعرفي السياسي تامّاً بين ما يبتغيه الفرد وبين ما تنشده الجماعةُ الأهليّة. لذلك لا مجال لاعترافٍ حقيقي بإنسان آخر، يكون مساوياً في الحقوق والواجبات، إذ إنَّ التنشئة الاجتماعيّة التقليديّة تعتزّ بالروابط العائليّة المتينة وتقع في فخّ نفسها عندما تحوِّل الرابطة العائليّة إلى رابطة عصبيّة، والرابطة الدينيّة إلى عقيدة عصبيّة.

في الخلاصة يبدو أنَّ مفهوم "التنشئة الاجتماعيّة" "socialization" الغربي قد تمَّت ترجمته إلى العربيّة ترجمةً معرفيّة غير دقيقة (بكلمتَيْن) لعدم وجود مرادف له في التراث الثقافي العربي، ولكن برأينا المفهوم الأدقّ المُعبِّر عن خصوصيّة مجتمعاتنا هو "التنشئة المعرفيّة" التي تبدأ منذ ولادة الطفل الرضيع لتُتابع سيرَها حتّى سنوات الرشد من خلال عمليّة التلقين لطرائق تفكير وتخطيط وتنفيذ على شكل معارف بسيطة تُحدِّد وعيَ الفرد في مجتمعه، وهذه المعارف ليست اجتماعيّةَ المنبع بل اجتماعيّة المَصَبّ لأنَّ التنشئة "البَيتيّة" لا تقتصر على المسائل الاجتماعيّة فقط، بل تشمل جميع مناحي "العمران البشري" كما أسماه ابن خلدون، في الاجتماع والثقافة والمعتقد والفنون والاقتصاد... وهكذا تصبح المناهج التربويّة الناشطة والحديثة (بالشكل) بمختلف مُقارباتها مناهج نظريّة (بالمضمون)، لأنَّ الوعي الحقيقي الأقوى لدينا هو الوعي الأوّلي الذي يفرض تأثيراته وامتداداته "الجرموزيّة" على سائر مصادر المعرفة الثانويّة.

*باحث في علم اجتماع المعرفة - مؤسسة الفكر العربي