الإعلام الجديد وتحوّلاته السلبيّة

news image

 

المهدي مستقيم*

 

انبجسَ عصرُ ما بعد الحقيقة على إثر تنامي النقد الجذريّ، الموجَّه صوب المؤسّسات الوصيّة على إنتاج الحقيقة ونَشْرِها؛ ما أدَّى إلى ذيوع رذائل معرفيّة ماحقة، وخلْقِ رؤىً إيديولوجيّة متطرِّفة، ترمي إلى تشييد نظامٍ توتاليتاريٍّ جديد، قوامه الهَيْمَنة الرقميّة. وباعتبار أنّ مُحترفي العمل السّياسيّ لطالما أنكبّوا على مُحارَبة الإعلام، نتيجة تطلُّعهم للاستحواذ على سلطة الحقيقة، فإنّهم لا يتوانون عن استهداف منابره وتَطَلُّعاته في لحظاتِ التحوّلات الحاسمة.

يقول المفكّر التونسي "فتحي التريكي": "لم يفتأ دونالد ترامب يوجِّه الإهانات ضدّ الصحافيّين والإعلاميّين من أجل إخضاعهم إلى سلطته، والحقيقة أنّه خلال حملته الانتخابيّة وَصَفَ مؤسّسات الإنتاج وبيت الحقيقة بالفساد وعدم النزاهة، والكذب... إلخ، وقد كان يستهدف الجامعيّين والقضاة والصحافيّين أيضاً" (فتحي التريكي، أخلاقيّات العيش المُشترَك، ترجمة زهير المدنيني، 2021، ص152).

تَتَمَثَّلُ وظيفة الإعلام، مكتوباً كان أم مرئيّاً، في نَشْرِ ثقافةٍ سياسيّة عبر تَوَخِّي الدّقة في تَصَيُّدِ الخَبَرِ وتحليله ونقده؛ إذ يتركَّز هاجسُ رجل الإعلام المُختصّ في البحث عن الحقيقة وإعادة بنائها، ما يحيله إلى وسيطٍ يتموضع بين السّياسي والمَعرفي من جهة، وبين الرأي العامّ ومُحترفي السياسة من جهة أخرى. وتتركّز الأداة التي يعتمدها الإعلامي المُختصّ في بحثه عن الحقيقة من منظورٍ عقلاني على آليّات البرهنة والتقصّي والاستقصاء المنطقي (فتحي التريكي: 152).

لا ريب في أنّ وسائل الإعلام لم تَعُد الواجهة الرئيسة التي يتواصل من خلالها رجل السياسة مع الرأي العامّ؛ إذ أصبح رجل السّياسة في أيّامنا هذه يستفيد من مُنجز الثورة الإعلاميّة والرقميّة، وتكنولوجيا المعلومات والاتّصالات المتطوّرة، بحيث تساعده هذه الأخيرة على توجيه الحوار وفق الطريقة المُنسجمة مع توجُّهه الإيديولوجي، من دون أن تلزمه بتوظيف إِواليّات النقد والبرْهَنة، بقدر ما تتيح له إمكانات استمالة عاطفة الجمهور ووجدانه، "وبهذا، فبإمكانه حتّى الذهاب إلى حدّ تحويل انتباه الجمهور عن كلّ ما هو "أمر واقع"، والتغطية بالتالي على كلّ الأحداث الواقعيّة" (فتحي التريكي: 149).

لم يَسلم الإعلامُ الجديد من لوثة تكنولوجيا الاتّصال والتقنيّات الحديثة، إذ أمسى بدَوره يوظِّف ميكانيزمات إثارة عاطفة وأحاسيس الجمهور الواسع، لِيتركَّز همّه الأقصى في الكشف/ عن، و"فبركة" الأحداث الشاذّة والسلوكات الغريبة والمُدهِشة التي تستأثر بفضول الجمهور وتؤجِّج عاطفته، كي يُبادِر إلى إبداء رغبته في الازورار عن "الحوار الجادّ، والتحليل العقلي والبحث الرصين عن الأشياء الحقيقيّة والجليّة علميّاً" (فتحي التريكي: 149).هكذا أصبحت منهجيّة تأجيج العاطفة والوجدان، نواة عصر ما بعد الحقيقة، بعدما كانت الحقيقة بنت العقل على الدوام.

ازدهرت الدّيمقراطيّة لدى اليونان نتيجة حرصهم على جَعْلِ البحث عن الحقيقة نواة كلّ مُمارَسة ترمي إلى التفلْسُف، ومن أجل ذلك، لم يتردَّد فلاسفته في نقْدِ السوفسطائيّين والخطباء، الذين يجتهدون في استمالة الجمهور بكلّ الوسائل اللّاعقلانيّة، بما فيها عنف الخطاب، وهو الأمر الذي دَفَعَ "أفلاطون" إلى وصفِ السوفسطائي بصائد أبناء الأثرياء، ومُحارِب الكلمة، الذي يختفي في ظلمة اللَّاوجود، ومردَّ ذلك إلى اعتقاده باستحالة تأسيس الحقيقة على الخطاب والخطابة والدوكسا؛ يقول فتحي التريكي: "لقد أعطى الفيلسوف معنى للحقيقة وللبرهنة في آن واحد. إنّها أسبقيّة العقل على العاطفة والرأي والإحساس، وكلّ ما هو من دائرة الانفعال. وكان من نتائج هذه العقلانيّة الظافرة للفلاسفة، تطوُّر العلوم وتحكُّمٌ أفضل في العالَم والحياة" (فتحي التريكي: 153).

أدّى تحكُّم الدّيانات في مقاليد السّلطة السياسيّة إلى توجيه الحقيقة صوب مداخل العاطفة عوض العقل، لكن سرعان ما انبجس عصر النهضة الإيطاليّة (القرن 16) وعصر الأنوار (القرن 18) ليُعيد الاعتبار للحقيقة العلميّة على إثر نقده لشبه الحقيقة التي هيْمَنت وحالت دون تقدُّم المعرفة. غير أنَّ عصر ما بعد الحقيقة آثَرَ إحداثَ قطيعةٍ جديدة مع الحقيقة العلميّة، بمنح الأولويّة للعاطفة والوجدان، مُمهِّداً بذلك الطريق للسفسطائيّين الجُدد المُختصّين في كلّ شيء، ومُيّسِراً لهم سبل الهَيْمَنة على الإعلام الجديد، الذي قرَّر إبعاد كبار المفكّرين والالتفاف حول صنّاع الحقائق المزيَّفة ونقائض الحقيقة، يقول فتحي التريكي: "غالباً ما يُعَوِّلُونَ على الانفعال باستعمال براهين مختلّة منطقيّاً، كي يكونوا على مَقربة من مشاعر الجمهور" (فتحي التريكي: 154).

الفرد وإيديولوجيا ما بعد الحقيقة

لطالما استندت عمليّة إعادة تأسيس الحقيقة على عمليّتَيْن فكريّتَيْن: التصديق وقابليّة التحقُّق، في حين نلفي عصر ما بعد الحقيقة يستند إلى الكذب ومُعاداة الحقيقة، بل الأدهى من ذلك أنّه يستند إلى الإشاعة، والمُجادلات، والتحيُّز، والتشتُّت الفكري، والجُبن، والشَلل، وسائر الرذائل المعرفيّة التي يسهل تسريبها إلى المشاعر من دون الوعي بأدنى حاجةٍ إلى اعتمادِ معيارَيْ التصديق وقابليّة التحقُّق، يقول فتحي التريكي: "فباستطاعة التلفزيون استعمال التلصّص مثلاً، ونفاد الكاميرا إلى حياة الناس الخاصّة. أمّا تلفزيون الواقع، وميكروفون الشَّارع، فهُما من العمليّات التي تعطي الانطباع بأنّ الحقيقة المنقولة مؤسَّسة على الواقع، والحال أنّها ليست سوى أبنية قامت لأجل سلطةٍ سياسيّة وماليّة معيّنة" (فتحي التريكي: 154).

يَتَّكِل عصر ما بعد الحقيقة على الملتميديا التي تتوجَّه صوب الجمهور على نحو مباشر، مُبْدِيةً رغبتها في الازورار عن سائر الحدود والنُّخب؛ إذ يتمثّل هدفها الرئيس في إثارة عاطفة الجمهور وصناعة الرأي وتحريك الحشود، يقول فتحي التريكي: "يُمكن أن تتغاضى السياسات عن المفكّرين والصحافيّين المُحترفين كي لا تصل أفكارهم وبرامجهم إلى الناس. فهم يستخدمون الآن الميلتيميديا، والشّبكات الاجتماعيّة وكّل ما تتيحه الإنترنت والتكنولوجيا الجديدة للمعلومات لأغراضهم ومصالحهم، والأدهى من ذلك أنّ الصحافيّين أنفسهم يتحوّلون إلى صانعي الحقيقة المغلوطة حين ينقلونها" (فتحي التريكي: 154).

تنظر أيديولوجيا عصر ما بعد الحقيقة إلى الفرد بوصفه كائناً عاطفيّاً وجدانيّاً، لا يتفاعل مع حرفة القراءة، ولا إبستمولوجيا المُناقَشة، ولا نظام الخطاب، ولا سيرورات البرْهَنة والنقد، بقدر ما تناسبه الفرجة، فكلّ شيء بات يُحَوَّلُ إلى فرجة في أيّامنا. يقول فتحي التريكي: "تتيح الإخراجات السينمائيّة للسياسي أن يَستخدم المشاهد لحسابه ويَظهر هو نفسه في مظهر فُرجوي عبر وسائل مُختلفة على غرار الخطابة في قوله، والإخراج المرئي، والإخراج الصوتي... إلخ. يتعلّق الأمر في النهاية بطريقةٍ جديدة منمَّقة وتكنولوجيّة في استخدام البروباغاندا" (فتحي التريكي: 157).

لا ريب في أنّ رجل الإعلام والصحافة يتحمّل نصيباً من المسؤوليّة في ما آل إليه وضع الإعلام الجديد من تحوُّلٍ سلبيّ، جنى على الصحافة والتواصُل الإعلامي برمّته. فعلى الرّغم من خضوع أغلب المؤسّسات الإعلاميّة لسطوة أصحاب المال، إلّا أنّ هؤلاء كما يقول فتحي التريكي: "لا يبحثون بالتأكيد عن مكسب في عمليّة الشّراء هذه، إنّما بالأحرى يبحثون عن سلطةٍ متزايدة على الجمهور الأوسع وعن وسيلة تظلّ ناجعة من أجل التحكُّم في رغباته وعاطفته" (فتحي التريكي: 157).

*أستاذ/ باحث من المغرب - مؤسسة الفكر العربي