في الثقافة العربيّة أفقاً ومدىً
محمّد باقي محمّد*
سيصعب علينا تلمُّس تعريفٍ جامعٍ مانعٍ للثقافة، على عكس العلوم الوضعيّة، بيد أنّنا على صعوبة ذلك، سنقوم بما ليس منه بدّ، وذلك عبر تقاطعات ما يُقارب المئتي تعريفٍ لها بالعربيّة، لنذهب إلى أنّها إنجاز البشريّة في ميادين الفنون - الفنّ التشكيليّ، مثالاً، والآداب والفلسفة والميثولوجيا، والديانات الوثنيّة، والسياسة... إلخ، ولإشكاليّة البحث فيها، فإنّ الحرف "في" يحيلنا إلى الحديث في صلب الثقافة بأجناسها، بينما تحدّد العربيّة صقعاً مُحدّداً لتلمُّس تلك الثقافة، وتتحدّد لغتها على هذا التأسيس!
إنّ أوّل عهدنا بالثقافة العربيّة يعود إلى ما ينوف على المائة وخمسين سنة قبل ظهور الإسلام، وذلك مذ بدأ الشعر الجاهليّ بالتوارُد تباعاً، ابتداءً بامرئ القيس ربّما، لتتناقله العرب بلهجة قريش، ذلك أنّ مكّة كانت مركزاً لآلهة العرب في شبه الجزيرة العربيّة، أي لدافعٍ دينيّ، ناهيك بدَورها التجاريّ، إذ إنّ طريق الحرير - كأقدم طريق للتجارة بين الشرق والغرب برّاً - كان يتوقّف أحياناً بسبب الحروب المستمرّة بين الإمبراطوريّتَيْن الفارسيّة، شمال شرقيّ شبه الجزيرة، بما فيها العراق، والرومانيّة، شمال غربيّ شبه الجزيرة، بما فيها بلاد الشام وشمال أفريقيا، فيُستبدَل بطريقٍ بحريّ يبدأ ببحر الصين، ليقطع المحيط الهندي، وينتهي إلى اليمن شتاءً، ثمّ يُتابَع برّاً إلى بلاد الشام صيفاً، فأوروبا عبر البحر المتوسّط، أو عبر آسيا الصغرى. إنّها رحلة الشتاء والصيف التي جاء عليها القرآن الكريم. على هذا كانت مكّة مركزاً تجاريّاً مهمّاً، لتوسّطها بين اليَمن وبلاد الشام، فأضيف الدّافع الاقتصاديّ إلى الدافع الدينيّ، لتتسيّد لهجتها على باقي اللّهجات. على هذا أُقيمت للشعر أسواقٌ على غرار سوقِ عكاظ، ليتبارى فيها الشعراء، وكان النابغة الذبيانيّ أحد أهمّ مُحكّميها!
في هذا العهد اشتهر أهلوها بعِلم الفَلَك، بسببِ هَيْمَنة الصحارى على معظم المنطقة، وكانت الخطابةُ حاضرة، فالخطيب يحضّ قومه على الدّفاع عن حياضهم في حال الغزو، ويحضّهم على القتال إن كانوا غزاة. كما عرفوا فنّ السِّير، كسيرة سيف بن ذي يزن اليماني، أو سيرة عنترة، أو سيرة الزير سالم أبو ليلى المهلهل، أو سيرة بني هلال، وتغريبتهم نحو تونس الخضراء! ناهيك بسجع الكهّان، الذي سيختفي لغَير سبب!
في الإسلام
مع الإسلام ستتراجع العصبيّة القبليّة، لتُضاف إلى اللّوحة في الدولة الإسلاميّة ضروبٌ أخرى من الثقافة، وبخاصّة في العهدَيْن الأمويّ، والعبّاسيّ في دَوره الأوّل، دَور القوّة، إذ عرف العرب النَّثر الفنّي الرفيع عند الجاحظ على نحوٍ خاصّ، والتوحيديّ، وابن المُقفّع وغيرهم، كما عرفوا فنّ المقامة على يد بديع الزمان الهمذاني والحريريّ، وأدب التراسُل كما جاء عند الوزير عبد الحميد الكاتب، ثمّ إنّ الشعرَ ظلَّ متواتراً، ناهيك بالحكاية، وقد تكون "ألف ليلة وليلة" درّة الفنّ الحكائيّ العربيّ، لتُبرهِن على عبقريّة الذّهن الشعبيّ!
لقد ضمّت الدولةُ الإسلاميّة شعوباً وأعراقاً كثيرة، ما سمح بتثاقُفٍ ليس له حدود، ولاسيّما بعدما تَرجمت فلسفةَ الهند، كما تَرجم الفرسُ فلسفتَهم غبّ دخولهم الدّين الإسلاميّ، فيما ترجم الرهبان في أديرتهم فلسفةَ اليونان، لتتموَّرَ الدولةُ الإسلاميّة بتيّاراتٍ فكريّة، إذ ظهر عِلم الكلام على يد واصل بن عطاء، والمعتزلة على يد الحسن البصريّ، ورسائل إخوان الصفا، والقدريّة أو الجبريّة، التي كان صفوان بن الجهم أحد أقطابها، ناهيك بتصوّرات المنطقة في الكون والحياة والدّين في العصور القديمة، ولتُتوّج، من ثمّ، بظهور الفكر الفلسفيّ، فكان أبو يعقوب الكنديّ أوّل فيلسوف في الدولة الإسلاميّة، لكنّه انشغل كثيراً بالتوفيق بين الفلسفة والدّين، ربّما لأنّه كان نصرانيّاً، وتلاه الفارابي وابن سينا.. إلخ، لنلاحظ أنّ الموسوعيّة كانت سِمة العهد. فكان ابن سينا طبيباً وفلكيّاً إلى جانب اشتغاله على الفلسفة. أمّا ذروة التفكير الفلسفيّ العقلانيّ فسيُمثّلها ابن رشد، لتنتهي إلى الملّا صدر الدّين الشيرازي، صاحب نظريّة الأعراض في الجوهر، كآخر فيلسوف إسلاميّ عاش في كنف الدولة الصفويّة!
بانتقال العرب من شبه الجزيرة إلى بلاد الشام وبرّ العراق.. إلخ، تلطَّفت طباعهم، فازدهر الغناء إلى جانب الرقص، وقد نستشهد بالموسيقيَّيْن الشهيرَيْن، اسحق الموصلّي وزرياب، الأوّل في المشرق، والثاني في المغرب "الأندلس". أمّا الرسم والتصوير، فتراجعا لنظرة الإسلام المُرتابة إليهما، لكنّ النقوش والمُنمنمات والقيشاني والفسيفساء سجّلت تطوّراً كبيراً، ثمّ إنّ الجغرافيا الوصفيّة ظهرت في لبوسٍ أدبيّ، كما في رحلات ابن بطّوطة وابن جبير. وإذا كان القول بنظريّةٍ للأدب في الدولة الإسلاميّة مُبالغاً فيه، إلاّ أنّ نقّاداً شديدي الأهميّة كالقاضي عبد القاهر الجرجاني وابن قدامة والآمدي وابن جعفر كانوا حاضرين في المشهد الثقافيّ، حتى أنّ بعضهم تكهّن بالموغل في المستقبل، ذلك أنّ أبا حيّان التوحيديّ في المقابسة الستين أورد ما مفاده: "إنّ الشعر لا يطيب إذا لم يداخله شيء من النثر، ولا يحلو النثر إذا لم يداخله شيء من النَّظم" ليتقدّم على نقّاد وشعراء مُعاصرين أنكروا على قصيدة النثر انتماءها إلى واحة الشعر أو جنّته.
في العصر الحديث
لكنّ اللّوحة سيطالها تغييرٌ شديد لجهة الإملاق، فمع الاحتلال العثمانيّ الذي أعقب تشظّي الدولة الإسلاميّة، وانقسامها في العهد العبّاسي الثاني "عهد الضعف"، راحت الأجناس وضروب الفنّ بمختلف تشكيلاته تتلاشى ببطء. كان العصر الوسيط في طريقه نحو النهايات، ففَصَلَهُ العام 1492 عن العصر الحديث، أي العام الذي حطّ فيه كريستوف كولومبس رحاله في أميركا، وهو للمصادفة الدالّة العام الذي أَخرج فيه اتّحاد ملوك قشتالة "آل ألفونسو"، إيزابيل وفرديناند على وجه التحديد، العربَ المُسلمين من الأندلس، لتنقسمَ الدولة الإسلاميّة أيّما انقسام، ثمّ لتحتكَّ بالغرب مع حملة نابليون على مصر وبلاد الشام، وليكتشف المسلمون مدى الفوات الذي طالهم في ظلّ الدولة العثمانيّة، أو في ظلّ الولايات شبه المستقلّة عنها "المماليك" في مصر وبلاد الشام، و"الأدارسة" في المغرب، و"الأغالبة" في تونس.. إلخ.
على هذا سنَشهد ولادة الجمعيّات التي تنادت لاستقلال المشرق العربيّ، وظهور أعلام النهضة كمحمّد عبده والأفغاني وشبلي شميّل وبطرس البستانيّ وعبد الرّحمن الكواكبيّ، إلّا إنّ دعواتهم لن تأتي أكُلها لغياب المأسَسَة عنها، ناهيك بتبايُن الرؤى، وسيطال هذا الغياب أقطاب النهضة الثانية كطه حسين وعلي عبد الرّازق وأحمد لطفي السيّد، حتّى إذا استقلّ المشرق العربيّ عن الدولة العثمانيّة، غبّ ثورة الشريف حسين 1916/ 1918، فوجىء بالاتّفاقيّات الاستعماريّة التي أخضعته للغرب!
كانت أوروبة قد أَنجزت دولها القوميّة في أعقاب الثورة الصناعيّة، بعدما خطَّ فلاسفتها الفلسفة اللّيبراليّة، ناهيك بظهور صيغة العقْد الاجتماعي، لوك وهوبز ومونتسكيو وجان جاك روسّو، وراحت تبحث عن مناطق تستعمرها، في بحثٍ محموم عن الموادّ الأوّليّة، وأسواق في الإطار ذاته لمصلحة صناعاتها، ولتقتسم العالم المُتخلّف "آسيا وأفريقيا وأميركا اللّاتينيّة"، بل أنّها استعمرت أميركا الشماليّة أيضاً. على هذا تسابقت بريطانيا وفرنسا وإيطاليا وإسبانيا وهولندا، وألمانيا، لاحقاً، بعد أن أنجزت وحدتها على يد بسمارك، لاستعمار العالَم.
في تحرّي علاقة هذه اللّوحة بالثقافيّ، سنرى أنّ حلقات سلسلة الثقافة العربيّة قد تكسّرت على أعتاب القرنَيْن التّاسع عشر والعشرين، فغابت الأجناسُ الأدبيّة، إذ تلاشت ضروبه التي أتينا عليها، عدا الشعر. هذا ما آلَ إليه النثر الفنّي والمقامة وأدب الرحلات والسّير والخطابة والتراسُل.. إلخ، وتوقَّف إنتاج الفكر الفلسفيّ. وفي ظلّ إيقاف العمل بالاجتهاد أصاب الدّينَ الكثيرُ من "السكون أو الركود" فقصَّر في التصدّي لمعضلاتٍ طفتْ على السطح، لمّا يعهدها المُسلمون الأوائل.
ومع الاستعمار الغربيّ، وغياب الأجناس الأدبيّة، صدَّر إلينا هذا الغربُ ثلاثيَّ القصّة القصيرة والرواية والمسرح. وإذا كان القول بمسرح عربيّ قديم، يُماثل المسرح عند الإغريق، أو عند الرومان، يجافي الحقيقة، حيث قال د. علي عقلة عرسان بظواهر مسرحيّة عند العرب، كعناصر لا تؤسِّس للمسرح المتكامل نصّاً وخشبةً وإخراجاً، فيما قال أدونيس بطقس عاشوراء، كطقس يتشبّه بالمسرح، فإنّ الكتّاب المسرحيّين سيظهرون لاحقاً بتأثير الغرب، توفيق الحكيم، ألفريد فرج، سعد الله ونّوس.. إلخ، ليشكّلوا تيّاراتٍ تبدأ بالمسرح الكلاسيكيّ، ولا تنتهي عند المسرح التجريبيّ، أو مسرح الهواء الطلق، أو مسرح العبث.
أمّا القصّة القصيرة، فلقد ترافقت بلغطٍ شديد، ذلك أنّ قرّاءها تنادوا: هذه بضاعتنا رُدّت إلينا، زاعمين ترسُّمَ الغرب لـ "ألف ليلة وليلة" أو غيرها من المؤثّرات العربيّة الإسلاميّة، التي عَبرت إليهم عبر آسيا الصغرى، تركيا اليوم، أو صقلّية أو الأندلس، لكنّنا سنقف بتلك الصَرخات، لنقول: لو سلّمنا جدلاً بهذه المقولة، إلّا أنّ الغرب لم يصدِّر إلينا حكايات، بل صدّر إلينا قصّةً قصيرة فنيّة، بعدما أَسقط من الحكاية ديباجة المقدّمة كـ: "كان ياما كان، أو يُحكى أنّ"، مثلاً، وضَبَطَ زمنَها بصرامةٍ شديدة، تحت مُسمّى التكثيف، ثمّ تخلّص من النهاية الوعظيّة كـ: "وهكذا ترون، أو نخلص ممّا تقدّم..".
في حَرَمِ الشِّعر
وإذا كانت القصّة القصيرة قد ترسّمت خطى مثيلتها في الغرب، لتقع في فخّ التماهي، تماهي الضعيف بالقويّ، ذاك الذي قال به عالِم الاجتماع الجليل ابن خلدون، فتأتي على مفردات تنتمي إلى ذلك الغرب، إلّا أنّ الأجيال التالية بيَّأت القصّة القصيرة، ثمّ اشتغلت على تقاناتٍ جديدة. وإذا كان جيلها الأوّل قد اشتغل بدلالة القدر والمصادفة والثّبات، إلّا أنّ الأجيال التالية اشتغلت على الواقع المتغيّر، الواقع في تحوّلاته، فجمعت تيّارات فكريّة كالوجوديّة واستعارت من الفنون والأجناس الأخرى عناصر تخدمها.
فإذا انتقلنا إلى حَرَمِ الرواية كإنجازٍ للبورجوازيّة الأوروبيّة إبّان صعودها، إذا ابتدأت برواية "دون كيخوته" لسرفانتس، أي أنّ عمرها لا يزيد عن خمسمئة عام، لتصدّر إلى المنطقة، فقد قام مصطفى لطفي المنفلوطي بترجمة "تحت ظلال الزيزفون" لكنّ ترجمته لمّا تكن قد أُخضعت لشروطٍ صارمة بعد، فانتظمت فيها الترجمة مع الحذف والإضافة في توليفةٍ عجيبة، غير أنّ الرعيل الثاني من الروائيّين اشتغل على كتابة روايةٍ عربيّة، فتبيَّأت (نجيب محفوظ، حنّا مينة، مثالاً). ثمّ إنّ الرواية انتقلت من القدريّة والسرد إلى خَوض غمار المتغيّر والمُتحوّل، ليشتغل الروائيّون على التخييل، كما جاء في أعمال جمال الغيطاني وبهاء طاهر وصبري موسى وإدوار الخرّاط وحيدر حيدر وهاني الرّاهب وجبرا إبراهيم جبرا وعبد الرّحمن منيف وأحلام مستغانمي وغائب طعمة فرمان وغالب هلسا والطيّب صالح.. إلخ!
وإذا ما وقفنا في حَرَمِ الشعر، لرأيناه ينضوي على ثلاثة أشكال رئيسة، القصيدة العموديّة، وقصيدة التفعيلة، وقصيدة النثر. فبعد مخاضٍ طويل، شَمَلَ التخلّي عن الوقوف على الأطلال، وظهور الموشّحات في الأندلس، واللّجوء إلى الشعر المُرسل، وظهور مدرسة أبّولو، وُلدت قصيدة التفعيلة، بريادة الثلاثيّ: بدر شاكر السيّاب وبلند الحيدري ونازك الملائكة؛ بحيث اختصمَ شعراء القصيدة العموديّة مع هذا الضرب من الشعر، حتّى أنّهم اتّهموا شعراءه بأنّهم طابورٌ خامس، أو أنّهم متآمرون على العربيّة، ولو لم يُقيَّض لها التحصُّل على منبر، عبر مجلَّتَيْ "شعر"، لشاعرٍ من وزن يوسف الخال، و"الآداب"، للد. سهيل إدريس، لما كانت قد وَجدت رواجاً بين القرّاء، إلاّ إنّ قصيدة التفعيلة انتزعت الاعتراف بها مع الرعيل الثاني من شعرائها كمحمود درويش وسميح القاسم وتوفيق زياد ومحمّد الفيتوري وصلاح عبد الصبور وفايز خضور وغيرهم. ثمّ إنّ شعراء التفعيلة كالوا التّهمَ ذاتها لشعراء قصيدة النثر، إلّا أنّها قطعتْ أشواطاً في المُمارسة والتقعيد على أيدي شعراء كبار كمحمّد الماغوط وأدونيس وأنسي الحاج على سبيل التمثيل.
في الخواتيم يُمكننا الزعم بأنّ الثقافة العربيّة مأزومة، بسبب من اندياحِ السياسيّ عليها، ما أسَّس لعلاقةٍ ملتبسة بالسلطات. على هذا فليس ثمّة نظريّة للأدب تخصّها، لذلك تمّ الاشتغال بدلالة "نظريّة الأدب" (لرينيه ويليك)، في حين لعب جورج لوكاتش دَور العرّاب في الرواية (نظريّة الرواية)، ثمّ إنّ القطع بين القديم والحاضر دفعَ النقّاد إلى الاشتغال بصوى نورثروب فراي، أو تزفيتان تودوروف أو ميخائيل باختين، أو جيرار جينيت وجاك دريدا التفكيكيّة، أو كلود ليفي شتراوس البنيويّة، فيما أعلن رولان بارت مَوت المؤلّف، وعلى قدم وساق طُرح موضوع ما بعد الحداثة، فيما يبدو الحديث عن الكلاسيك في المنطقة مجافياً للمنطق، حتّى على مستوى القصّة التي اقتدى كتّابها بأنطون تشيخوف وغي دو موباسّان وفرانز كافكا.
بقي أن نشير إلى أنّنا احتكمنا في موضوعنا إلى قراءةٍ ذاتيّة، قد تقصِّر في الإحاطة باللّوحة كاملة، لكن حسبنا أنّنا ألقينا حَجَراً في المياه الراكدة، ما قد يقتضي التنويه.
*كاتب وأديب من سوريا - مؤسسة الفكر العربي