"الشــــرق المُتخيَّل" في أروقة المعارض الدوليّة

news image

 

سوزان عابد *

تطرَّقَ المفكِّر البريطانيّ "تيموثي ميتشل" إلى زيارة بعض المشرقيّين العرب الجناح الشرقيّ في أحد المعارض الدوليّة في باريس في العام 1889 قائلاً: "عندما سافر الوفد المصريّ إلى المؤتمر الدوليّ الثّامن للمُستشرِقين، والذي عُقد في استوكهولهم في صيف عام 1889، مرَّ وهو في طريقه إلى السويد بباريس وتوقَّف هناك لزيارة المعرض العالميّ. وقضى المصريّون الأربعة أيّاماً عدّة في العاصمة الفرنسيّة، حيث صعدوا برج ألكسندر إيفل الجديد الذي قيل لهم إنّ ارتفاعه يبلغ ضعف ارتفاع الهَرَم الأكبر...... ولم يُثِر إزعاجهم غير شيء واحد فقط.. لقد شيَّد الفرنسيّون الجناحَ المصريّ بحيث يُمثِّل شارعاً متعرّجاً من شوارع القاهرة، يتألّف من بيوت ذات طوابق علويّة آيلة للسقوط، ومسجد كمسجد قايتباي.... وكَتَبَ أحد المصريّين أنّ المُنظِّم الفرنسيّ قد فعل ذلك قاصداً مشاكلة الهيئة القديمة في مصر ونفَّذ ذلك بعناية حتّى أنّه جَعَلَ البياض مغبّراً لتتمّ المُشابهة.. فقد جرى الحرص على جعل الجناح المصريّ متّسماً بالفوضى. فخلافاً للخطوط الهندسيّة لبقيّة المعرض، جرى مدُّ الشارع المُشاكِل على النحو العشوائيّ المميِّز للسوق الشرقيّة. وازدحمَ الطريق بالحوانيت وبالأكشاك، حيث كان فرنسيّون يرتدون ملابس شرقيّين يبيعون العطور والفطائر والطرابيش.. ولاستكمال وقع السوق الشرقيّة، كان المنظِّمون الفرنسيّون قد استوردوا من القاهرة خمسين حماراً، بالإضافة إلى قائديها والعدد اللّازم من السُيَّاس والبيطاريّين والسروجيّين. وكان يُمكن ركوب الحمير ذهاباً وإياباً في الشارع مقابل فرنكٍ واحد، ما أَحدث هرجاً ومرجاً مُماثلَيْن إلى حدٍّ بعيد لما يحدث في الحياة الواقعيّة، بحيث إنّ مدير المعرض قد اضطرَّ إلى إصدار أمرٍ بتخصيص عددٍ معيّن من الحمير لكلّ ساعة من ساعات النهار.... وقد اشمأزَّ الزوّار المصريّون من هذا كلّه ونأوا بأنفسهم عنه، وكان آخر حرج يتعرّضون له هو الدخول من باب المسجد واكتشاف أنّه – شأنه شأن بقيّة الشارع – قد شيِّد بحيث يكون مجرّد واجهة خارجيّة، بحسب تعبير الأوروبيّين.. فمن الداخل كان قهوة جُعِلت لراقصاتٍ مصريّات وعبيد ترقص ودراويش تدور" (تيموثي ميتشل، عن المعرض الدوليّ في باريس 1889).

تأخذنا تلك اللّقطات الحيّة والمتكرِّرة في المعارض الدوليّة، نحو التعمُّق أكثر في مفهوم "الشرق" و"الآخر".. وهنا لسنا بصدد الحديث عن "الشرق" و"الرحلة إلى الشرق" بشكلها التقليدي، وما أَنتجته هذه الرحلات من رسوماتٍ لمُستشرقين كبار، ونصوصٍ أدبيّة، أو موسوعاتٍ علميّة قيَّمة، بقدر التعمُّق في "الشرق المُتخيَّل" الذي تبلْوَرَ في ذهن زوّار المعارض الدوليّة بشكلٍ عامّ، أو استقرَّ في مخيّلة أُناس قرَّروا خَوْضَ التجربة فعليّاً وأبحروا نحو الشرق وتوقَّعوا أنّ رحلتهم إليه سوف تتطابق بشكلٍ شبه كلّيّ مع ما رسخ في مخيّلتهم، في زمنٍ لم يكُن العالَم فيه مُنفتحاً على بعضه معلوماتيّاً، ولا هو بقرية صغيرة يستطيع الإنسانُ فيه أن يجوبه شرقاً وغرباً بسهولة ويُسر، ولا أن يتصفَّح خرائطه وجغرافيّته بالوسائط المتعدّدة كما نفعل اليوم. كان "الشرق" بقعةً جغرافيّة تتّسم بالغموض والسحر.. سحر الاستكشاف والتوغُّل في بلدانه ومُدنه ولغاته.. ذلك الشرق الذي لفتَ انتباهَ الأجنبي تاجراً كان أم سائحاً.. دبلوماسيّاً أم هاوياً.. مفكِّراً أم أديباً أم غازياً مُستعمِراً.. اختلفت المآرب وتضافرت فكرة "الاستشراق" باصطلاح اليوم، والرغبة في اكتشاف الشرق والكتابة عنه ودراسته..

لذا.. لن تكون البداية من بين دفّات الكُتب ومتون النصوص، ولا من رسومات الرسّامين، وغيرها من نِتاجاتٍ ماديّة أَثارت كثيراً من النقد وفَتحتْ بابَ السجالات الأكاديميّة.. بل من "الشرق" نفسه الذي ذهب إلى الآخر.. "الشرق" الذي رآه رجلٌ أوروبيّ/ غربيّ، بسيط أو متمرِّس، قرَّر زيارة معرضٍ دوليّ مُقام في بلده.. فماذا وَجد؟

ترجع أولى تجارب فكرة المعارض الدوليّة إلى إنكلترا عندما أدركت النجاح الذي تحقِّقه المعارض المصغَّرة والصناعيّة والمُختصّة، فقرَّرت أن تستغلّ الفكرة على نطاقٍ أوسع، فجاء المعرض الدوليّ الأوّل في العام 1851 في لندن (الكريستال بالاس) في الفترة من أيّار/ مايو إلى تشرين الأوّل/ أكتوبر، وتخطّى عدد زوّاره ستّة ملايين زائر، وشاركت فيه 25 دولة؛ ثمّ جاء المعرض الدولي الثاني في فرنسا في العام 1855 ووصلَ عدد الدول المُشارِكة فيه إلى 28 دولة، وزادت في المعرض الثالث إلى 39 دولة من بينها تركيا، وصولاً إلى المعرض الدولي الرّابع في باريس في نيسان/ إبريل 1867، الذي شاركَ فيه عددٌ من بلدان الشرق، منهم مصر وإيران، ومن شمال إفريقيا مثل تونس والمغرب.. واستمرَّت تلك المعارض واحداً تلو الآخر، ولا زالت مُستمرّة إلى يومنا هذا، وكان آخرها في دولة الإمارات العربيّة المتّحدة، وبالتحديد في مدينة دبي في العام 2020.

في تلك المعارض حاولَت كلُّ دولةٍ تقديم فنونها وعاداتها بقدر الإمكان والمُتاح من إمكانيّات توافرت لها آنذاك؛ بعضهم نَقَلَ معه ألطفَ حيوانات بلده وأمْيَزها. فالهند مثلاً جلبت معها الفيل الذي أصبح قِبلة زوّار معرض باريس في العام 1867. أمّا بلدان أخرى من قارّة إفريقيا، فقدّمت رقصاتها المميَّزة المصحوبة بقرع الطبول. وقدَّمت تونس فقراتٍ من الرقص التونسي التقليدي والنارجيلة وفناجين القهوة. في حين قدَّمت بلاد فارس/ إيران أطباقاً من أطعمتها المميَّزة، وخبزها المتنوِّع، وحساء الآش التاريخي؛ فيما قدَّمت مصر فقراتٍ من الرقص الشرقي الذي احتلَّ مكانةً مهمّة في قلوب الزوّار. فمَن منّا لا يعرف حكاية الراقصة "كوتشوك هانم" التي تُعَدّ إحدى أهمّ الشخصيّات المألوفة لدى السائحين والمُسافرين الذين جاؤوا إلى مصر؛ فقد تحدَّث عنها بريس دافن، وكوم، وذكرها شارل ديديه، وشارل أدمون، وفلوبير وغيرهم ممَّن زاروا مصر. وخصَّها فلوبير بقصيدة يصف فيها مصر بجمالها وتفرُّدِها بين جميع بلدان العالَم واصفاً كوتشوك هانم ورقصاتها المميَّزة. إذاً لم تكُن فقرات الغناء والرقص الشرقي شيئاً غريباً على زوّار المعرض، بل كانت فقرات جذْبٍ انتظرها الزوّار. وقدَّمت مصر أيضاً في معرض العام 1867 مشروعها الجديد للعالَم: "قناة السويس" التي حُدِدَّ موعد افتتاحها في العام التالي للمعرض.

"كان الحيّ الشرقيّ هو مركز الجذب الأكثر ازدحاماً بمآذنه، وقبابه، وبوّاباته الضخمة، وحوائطه المزركشة.. كأنّه مدينة شرقيّة نقلها السحرة إلى باريس.. وكان الحيّ الشرقيّ يضمّ سراي "باي تونس"، والحمّامات التركيّة، والكشك العثمانيّ، والجناح المصريّ.. وإذا كان الحيّ الشرقيّ قد مثَّل جوهرة المعرض الدوليّ، فإنّ مصر مثَّلت جوهرة الحيّ الشرقيّ في باريس".

تيوفيل غوتييه Théophile Gautier

عن المعرض الدوليّ بباريس – إبريل 1867

بتلك الكلمات البسيطة، المُقتضَبة والمُكثَّفة، والمُغلَّفة بشيءٍ من الانبهار ومُفعمة بالدهشة التي أَوردها تيوفيل جوتيه في كتاباته عن "الشرق" الذي وجده ماثلاً أمامه هو وغيره من آلاف الزوّار في واحدٍ من المعارض الدوليّة التي استقبلتها فرنسا في نيسان/ إبريل من العام 1867 وشاركت فيه مجموعةٌ من بلدان الشرق وشمال إفريقيا، نتطرّق إلى الحديث عن "أدبيّات الاستشراق"، تلك الأدبيّات التي أشار إليها إدوارد سعيد وفنَّدها بدقّة واصفاً إيّاها بأنّها ذات طبيعةٍ إسناديّة، حيث تُضاف كتابات الكاتب إلى الآخر. فقد اعتمد الكثيرُ من كتابات المُستشرِقين على إعادة صَوْغِ أو تكرارِ أو نقلٍ مباشرٍ لأوصافٍ سابقة قدَّمها أسلافهم ومَن سبقوهم في المضمار عَينه، رسَّخت صورةً ذهنيّة لـ "الشرق"، وأَسهمت في تنميطه.

سؤالٌ يَطرح نفسَهُ

ولكنْ.. هل زار الأوروبيّون "الشرق" في معارضهم؟ سؤال يطرح نفسه، ويحتاج إلى مزيدٍ من التحليل، انطلاقاً من: هل يُمكننا هنا تعريف "الشرق" المعروض، سواء في باريس أم في غيرها من بلدانٍ ومُدنٍ استضافت المعارض الدوليّة، بأنّه "الشرق الواقعي" أو "الشرق الفعلي" كما هو في الأصل؟ الإجابة هي قطعاً لا.

كما أوضحنا في البداية، فإنّ ما أورده "تيموثي ميتشل" عاكساً رؤية الشرقيّين لذلك الشرق الذي وجدوه يُعرض ويُقدَّم للآخر بصفته (ممثِّلاً) لهم ولبيئتهم وثقافتهم وعاداتهم.. وهو ما ظهر جليّاً في كتابات أحمد زكي أيضاً، في كتابه "الدنيا في باريس" واصفاً يوميّات الرحلة للمعرض الدولي المقام في باريس في العام 1900. ومن الطريف أنّ كتاباته كانت بسيطة، لكن ناقدة وتحليليّة في الوقت نفسه. فقد أشار إلى القصر العثماني – الجناح التركي – قائلاً: "يخفق فوقه الهلال.. وهو قصرٌ جليل يمثِّل العمائر الإسلاميّة الشرقيّة، وقد أسفتُ كثيراً من كون المهندس الذي أقامه وبناه ليس من الترك العثمانيّين، بل من أبناء فرنسا، ومثل ذلك يُقال أيضاً عن القسم المصري والفارسي والمراكشي والصيني.. وهذه السراي الفاخرة عبارة عن سوقٍ يكثر فيها ازدحام السوقة والباعة المتسبّبين في بيع السلع الإسلامبوليّة القليلة والروميّة الكثيرة وأهمّ هذه البضائع وأكثرها عدداً ما كان مصنوعاً في أوروبا برسم المشرق خاصّة فيعودون به إليها ويتيسّر لهم بيعه على الإفرنج ونوال الأرباح الوفيرة... ولم أرَ شيئاً من خيرات الأرض العليّة سوى القليل والغلبة ليست من صنع العثمانيّين... ورأيتُ الجدران كلّها تغشاها سجاجيد وطنافس وإذا بها كلّها مُعَدَّة للبيع وأثمانها مرموقة عليها وهي لتجّارٍ من الإفرنج الأورباويّين فتركتُ ذلك كلّه أسفاً وخجلاً ودخلتُ بهوَ الاستقبال أو غرفة التشريفة وهي مفروشة بالسجاجيد الفاخرة الغالية من أرضها لسقوفها وفي لحظة – يا لها من فرحة لو تمَّت – رأيتُ على أحد الكراسي بطاقةً من الورق السميك مكتوب عليها عبارة فرنساويّة فعرفتُ وتحقَّقتُ أنّ كلَّ ما في هذه الغرفة لمحلّ تجارة فرنسي اسمه كليشي A la place de Clichy".

واستطردَ أحمد زكي قائلاً: ".... حتّى التياترو فهو ليس عثمانيّاً، بل هو يُضارِع ويُعارِض المصري والفارسي في كون الراقصات والطبّالين من أبناء وادي النيل، وفيه روايات باللّغة العربيّة والذين التزموا تشغيله واستغلاله هُم الخواجات شيحة وفرعون ومسديّة والقائم بإدارة التشخيص وعمل الروايات صاحبنا خليل أفندي حصلب ويا ليت الأوّل والثاني كانا انضمّا إلى القسم المصري لتتمّ المُشاكَلة والمُطابَقة".

وفي إطار حديثه، أي أحمد زكي، عن القسم المصري في معرض باريس 1900، يقول: "إذا دخلنا من باب الوكالة تمثَّلت أمام عيوننا مصر وما فيها، وتخيَّلنا أنفسنا على ضفاف النيل من رؤية الملابس وسماع الأصوات ومُشاهَدة الهيئات والحركات التي تنقلنا إلى الوطن المحبوب... ولكن عند الباب توجد مكسلة ونَجِدُ رجلاً متّكئاً على مكسلة الباب بهيئةٍ تمثِّل الكسل ومُرتدياً الجبّة والقفطان وفوق رأسه عمامة لا تعرفه ولا يعرفها إلّا في هذه الأيّام وهو يسمّي نفسه الشيخ توفيق، ويضحك على ذقون الإفرنج إذ يزعم أمامهم أنّه من شيوخ الأزهر ويكتب لهم أسماءهم باللّغة العربيّة تذكاراً لزيارتهم القسم المصري.. وهُم يتهافتون عليه ولا يكادون يفلتون من بين يدَيْه حتّى قد بلغ مكسبه في اليوم الواحد من 40 إلى 60 قرشاً.. ويا ليته كان حسن الخطّ بل العكس، ويا ليته كان شيخاً حقيقيّاً بل هو الخواجة توفيق شلهوب المُستخدَم بقنصلاتو إيران بالإسكندريّة".

وهنا نجد في أبسط الأشياء والتفاصيل، أنّ الزائر الأوروبي/ الغربي عندما يزور الشرق الممثَّل أمامه في المعارض الدوليّة بعامّة، يلتقي بصورة مشوَّهة من هذا الشرق. فالزائر لمسجد المعرض، لن يشعر بروحانيّات أماكن العبادة ولا طقوس الصلاة، ولن يستطيع التدقيق في طُرز العمارة الإسلاميّة وأنماطها، وهويّة البلد المعماريّة التي تختلفُ بين مدينةٍ وأخرى، وبين بلدٍ وآخر، وتُعَدُّ جزءاً من شخصيّتها. فمساجد القاهرة تختلف عن مساجد العراق والشام واليمن والأردن وإيران وإسطنبول، وكلٌّ منها لها شخصيّتها الفنيّة والمعماريّة المستقلّة التي خَرجت من رحم بيئته وثقافته وموروثه. فالصورة النمطيّة الركيكة للشرق تُصوِّر المسجد كحجارة متراصّة مزخرفة أحياناً أو غير مزخرفة، لكنها لن تُحاكي بلدان الشرق لتنقل مساجده، وبالتالي لن تنقل لكنات أهل المدينة وصوت الآذان كنداءٍ للصلاة يميِّز كلّ مسجد على حِدَة. ولن يجلس الزائر في حلقة ذكر أو درس عِلم داخل أروقة المساجد وأواوينها.. والأمر أيضاً ينسحب على نِتاجاتِ الشرق من سجاجيد وطنافس ومشغولات متنوّعة أغلبها صُنع في أوروبا بمسحةٍ شرقيّة ويُباع للأوروبيّين مرّةً أخرى. ولا أجد أبْلَغَ ممّا أَورده أحمد زكي عن الشيخ توفيق الذي يمثِّل الكسلَ ويدّعي المشيخة وحُسن الخطّ ويرتدي عمّة لا تعرفه ولا يعرفها.. لقد تمَّ تجريد الشرق من مضمونه والإبقاء على صورة رديئة ونمطيّة عنه.

"الشرق المتخيَّل" وفكرة "إنتاج الشرق"

في حماسةٍ واستلهامٍ للشرق الذي زاره كثيرون في المعارض الدوليّة، وفي سياقاتٍ سياسيّة واجتماعيّة شجَّعت على المضيّ قدماً نحو الشرق، نجد أنّ كثيراً من الأوروبيّين وصلوا إلى الشرق الأوسط من دون أن يُدركوا أنّهم غادروا "الشرق المتخيَّل" الموجود داخل أروقة المعارض الدوليّة.. جاؤوا يبحثون عن واقعٍ كان قد سبق لهم أن شاهدوه على الدوام في معرض، كما كان الحال مع تيوفيل جوتييه الذي عاش في باريس يكتب سيناريوهاته الاستشراقيّة للأوبرا كوميك ويدافع عن قضيّة الرسم الاستشراقي. وقد سافر في نهاية الأمر إلى مصر في العام 1869 بعدما أَلهمته زيارةٌ قام بها إلى الجناح المصري في معرض العام 1867 العالميّ زيارةَ الشيء الواقعي. لكنّ جوتييه لم يكُن استثناءً من هذه الزاوية؛ فلقد وصلَ الأوروبيّون بوجهٍ عامّ إلى الشرق بعدما رأوا خططاً ونسخاً، في الصور والمعارض والكُتب، كانوا يسعون إلى البحث عن أصلها. ودائماً ما جرى تفسير غايتهم بهذه اللّغة. والأمر نفسه حَدَثَ مع المُستشرِق البريطاني الشهير إدوارد لين، صاحب العمل الموسوعي القيِّم "عادات المصريّين المحدثين وتقاليدهم"، الذي واتته فكرة السفر إلى الشرق ومصر تحديداً، بعدما رأى المُستنسخات والرسوم المعروضة في القاعة المصريّة في بيكاديلّلي. وقد ألهمه زيارةَ مصر كتابُ "وصف مصر" ذلك العملُ الموسوعي المؤلَّف من اثنيْن وعشرين مجلَّداً، والذي أعدَّه الفنّانون والعُلماء الفرنسيّون الذين كانوا قد رافقوا الجيش الفرنسي خلال احتلال نابليون لمصر، والذي نشرته الحكومة الفرنسيّة بين عامَيْ 1809 – 1822.

وبالفعل جاء إدوارد لين، وغيره كُثر، إلى بلاد الشرق ومُدنه، كلٌّ جاء لغايته التي تمحورت حول مضمونٍ واحد هو "إنتاج الشرق" وتصديره إلى الغرب في صورٍ عدّة: لوحات ورسومات بالفحم والألوان، نصوص أكاديميّة وأدبيّة روائيّة وفنيّة، قطعٌ أثريّة ومنقولات ماديّة مُكتشفة حديثاً أو مسلوبة من موطنها لتستقرّ في أورقة متاحفهم، أو تنتصب وحيدةً في كبرى ميادين مُدنهم. إنّه الشرق بنطاقٍ جغرافي أوسع وأشمل ليضمّ بلاد الشام والرافدين والجزيرة العربيّة وفارس وأجزاءً من الأناضول وآسيا الوسطى.

ما بين "الشرق المصوَّر".. و"الشرق الواقعيّ"

إلّا أنّ ثمّة نقلةً نوعيّة ونقطةَ تحوُّلٍ محوريّة في العلاقة بين "الشرق المتخيَّل"، سواء القائم على السرديّات التاريخيّة والأدبيّة المُختلفة أم حتّى الزيارات المتكرِّرة للمعارض الدوليّة، وبين "الشرق الواقعي" أو الشرق بصورته الفعليّة، ممثَّلةً في اختراع "آلة التصوير الفوتوغرافي"، تلك الساحرة التي استطاعت اختزالَ واختزانَ الوقت في مشهدٍ واحد، وجنَّبت المشاعر والحركة والصوت، وربّما الموقف نفسه، وكثَّفته في لقطةٍ واحدة ثابتة، حيث تُعدّ الصورة الفوتوغرافيّة جزءاً من الزمن تمّ اختزاله وتكثيفه في مشهدٍ ثابتٍ يتمّ استدعاؤه في ما بعد في زمانٍ وربّما مكانٍ مغايرَيْن.. لذا عكست الصور الفوتوغرافيّة جزءاً من الواقع. ولا يمكننا هنا أن نجزم بالقول إنّها عكستِ الواقع بشكلٍ حقيقي. لذا سوف نُعبِّر عنه بأنّه "الشرق المصوَّر".. ذلك الشرق الذي أَنتجه المصوِّر بعنايةٍ فائقة، بدايةً من اختيار موقع التصوير نفسه وأبطال المشهد الثابتِين، من مساجد أو شوارع وبوّابات..، مروراً بمَن لَعبوا دَوراً جماليّاً في الصورة من مارّة عابرين أو من ممثّلين غير مُحترِفين أدّوا أدواراً أوكلها إليهم المصوِّر، بأن يُطلَب من أحدهم أن يمثِّل طقوسَ الصلاة أو البيع والشراء في السوق، أو دَورَ بائعٍ للسجاجيد والنحاس أو امرأة في زيٍّ شرقي غير كاشف للجسد.. صورةٌ شكَّلها المصوِّرُ الفوتوغرافي بدقّة بعدما اعتلى بعضهم تبّة عالية أو أطلَّ على المدينة من شُرفة مئذنة أو من فوق سور المدينة وبوّاباتها. وحرصَ أغلب المُصوِّرين الفوتوغرافيّين على أن تكون (الصورة/ المشهد) قاصرة على أهل البلد، مُستبعداً في أغلب الأحيان العنصر الدخيل على هذا "الشرق" – ألا وهو الرجل الأجنبي بزيّه المميَّز – حتّى لا يُفسِد الأخير صورةَ "الشرق" هذه التي في ذهنه ويريد نقلها. وقد تطرَّق إدوارد سعيد إلى تلك الإشكاليّة وبيَّنها قائلاً: "لتمثيل شيءٍ ما على أنّه شرقيّ كان لا بدّ من استبعاد الحضور الأوروبي كلّيّة. فغالباً ما كان إظهارُ الكيان الموضوعي للشرق بوصفه شيئّاً مُنفصلاً عن الحضور الأوروبي".

من هنا بدأتِ الكتبُ المصوَّرة في الانتشار، ويُعَدّ كتاب "مصر وفلسطين: المصوّرتان والموصوفتان"؛ لـ فرانسيس فريث، والذي نُشر في العام 1858، من أوائل المطبوعات التي نَشرت الصورَ الفوتوغرافيّة عن الشرق. واحتذى به كثيرٌ من المؤلِّفين الذين حرصوا على تزويدِ مؤلَّفاتهم بالصور الفوتوغرافيّة التي تعكس الشرق في نظرهم، وتَضمن تحقيقَ مبيعاتٍ جيّدة يُموِّلها كلّ متلهّف لرؤية هذا الشرق. بل إنّ الأمرَ وصل إلى افتتاح استوديوهات للتصوير الفوتوغرافي أَنتجت مئاتٍ بل آلافاً من الصور التي تعكس جزءاً من هذا الشرق

اختلفتْ صورةُ الشرق إذن، من الشرق المرسوم بدقّة وموقَّع بأسماءِ كبار الرسّامين من أمثال ديفيد روبرتس، وباسكال كوست، وبروسبير ماريلا، وبريس دافن، وجان ليون جيروم، وغيرهم.. إلى شوارع الشرق الممتدَّة في جناحٍ ضخمٍ في أيّ معرضٍ دولي يُعرف بـ "الجناح الشرقي"، بكلّ ما تحمله هذه الشوارع من نشاطات واجتماعات ومظاهر تبدو كأنّها شرقيّة، مروراً بالشرق المصوَّر في صورٍ فوتوغرافيّة مُجتزَأة من سياقها وبيئتها، وصولاً إلى أرض الشرق بالفعل.. الشرق الحقيقي الذي لم يَبذل جهداً ليقدِّم نفسَهُ بالصورة النمطيّة التي حدَّدها له الآخر. الشرق الذي انتقل شيئاً فشيئاً من تصوير الهواة، إن جاز لنا استخدامُ هذا التعبير، إلى التصوير الأكثر دقّة وتحديداً للهدف، فكانت الأرشيفات الفوتوغرافيّة المُختصّة، التي لا تقلّ أهميّةً عن المادّة المكتوبة، هي نتاج هذا التطوُّر التدريجي في تصوير الشرق والتعمُّق في ماهيّته.

*كاتبة من مصر - مؤسسة الفكر العربي