في مضمار الكذب والحاجة إليه
وفاء البوعيسي*
ثمّة مبدأ أخلاقيٌّ متجذّرٌ يَعتبر الكذبَ سلوكاً غير مشروع، كما تميل الغالبيّة إلى نبذْ الكذب وكلّ أشكال الخداع. لكنّ الشخص العادي، وإن كان لا يقتل ولا يسرق ولا يغتصب، إلّا أنّه غالباً قد يكذب. فالكذب سمة من سمات التفاعُل البشريّ، إذ يكذب الأصدقاءُ على أصدقائهم ليكونوا مهذّبين، ويكذب الطلّابُ على أساتذتهم بشأن فروضهم المدرسيّة، ويكذب الأزواجُ على زوجاتهم بشأن مكان وجودهم أو قدرتهم الماليّة، ويكذب المراهقون على أولياء أمورهم بشأن الأصدقاء الذين يحتفظون بعلاقاتٍ معهم، كما يكذب الأقارب والزملاء في العمل، ونحن أيضاً قد نكذب على الآخرين. يُمكننا أن نستمرّ في تصوّر سيناريوهات أخرى تنطوي على الكذب، لكن هل من المتصوّر هنا أن نطالب بتجريم تلك الأكاذيب وغيرها؟
إنّ فكرة تجريم الكذب عموماً تبدو فكرةً راديكاليّة، إلّا أنّها ليست بعيدة المنال عندما نُدرِك أنّ الكذبَ مُجرَّم بالفعل في العديد من السياقات، مثل: حنث اليمين، والإدلاء ببيانٍ كاذب، وشهادة الزّور، ونشْر الشائعات والأكاذيب، وانتحال الشخصيّة، والاحتيال، والتنكُّر، وتزوير المستندات، وتزييف علاماتٍ تجاريّة، أو تمثيلٍ كاذب لشخصيّةٍ ما، وإصدار صكوك وسندات ائتمانيّة وأسهم مستنديّة بلا تخويل، وسكّ عملة مزيّفة، والافتراء على الغَير. لكنّ المشرِّع لا يُجرِّم أكاذيب أخرى كالغيبة والنميمة، والكذب بشأن العمر والوضع الماديّ بين الأفراد، وإخفاء الشيخوخة أو التشوّهات بعمليّات تجميل، وادّعاء الحبّ من أحد الجنسَيْن للآخر، والوعود الكاذبة التي تُطلَق يوميّاً بالمئات لآخرين.
وليس من الخفيّ في كثيرٍ من الدول، أنَّ مسؤولي إنفاذ القانون أنفسهم يمارسون الكذب بشكلٍ منظَّم، مثلاً: الأطبّاء والممرّضات يكذبون على المرضى للتخفيف عنهم، ويكذب السياسيّون والدبلوماسيّون لاغتنام ميزة في مفاوضات السياسة الخارجيّة، وكواجب متأصّل تجاه موكّليهم، يكذب المُحامون بشكلٍ قانونيّ عبر إخفاء معلوماتٍ قد تضرّ بزبائنهم، كما تكذب الحكومات على شعوبها بشأن صفقاتٍ أَبرمتها مع دول أو جماعات مُعادية.
الكذب إذاً متكرّر ومُنتشِر في مؤسّسات الدولة للمصلحة العامّة، وفي المجال الخاصّ، فالشخص العاديّ يروي بضع أكاذيب مهمّة في اليوم، وغيره يروي أكثر بكثير من ذلك، لتفادي المتاعب، أو حفْظ ماء الوجه، أو لتجنُّب إيذاء الآخرين. بما يُشير إلى أنّ الكذب يعمل بشكلٍ جيّد في المُجتمع، بما لا يستحقّ، ولا يستلزم العقاب عليه.
لكنّ الإشكاليّة تكمن في أنّ الكذب موضوعٌ يصعب التعامل معه، لأنّه يجسّد الالتباسات الأخلاقيّة التي يصعب حلّها، بالنَّظر إلى جدواه في حياتنا، والإشكاليّة الأكبر أنّ الكذب قد يكون مقبولاً أخلاقيّاً في سياقاتٍ معيّنة، في الوقت الذي لا يُعتبر كذلك في سياقاتٍ أخرى!
فلدى التعامُل مع جريمة انتحال شخصيّة سياسيّة أو دينيّة، فإنّ انتحال تلك الشخصيّات في عملٍ سينمائيّ، لا يجعل من المُنتحِل طَرَفاً في جريمة بدافع الحقّ في التعبير. ومثله التنكُّر، فالتنكُّر في زيّ شرطيّ وحمْل شارة وسلاح في برنامج للكاميرا الخفيّة، هو عمل كوميديّ بدافع الترفيه، وما يُقال عن جريمة التلفّظ بعبارات خادشة للحياء العامّ، سينهار أمام مئات النكات البذيئة التي ينتجها المجتمع كلّ يوم بدافع التسلية، ونشْر الأكاذيب، إذ لا يُعاقَب عليه حين يأتي على شكلِ فانتازيا تحمل إسقاطات على الواقع السياسيّ بدافع النقد. وتجريم الخداع سينتفي في علاج المرضى النفسانيّين بالوهْم والإيحاء بدافع مُمارَسة المهنة. ولا محلّ لجريمة تهديد وتضليل بحقّ الأمّ التي تخوِّف طفلها بجنّية أسنان تختبئ بين أضراسه لتنشر فيها السوس، إن هو لم ينظّف أسنانه يوميّاً بدافع التوجيه باستعمال الخيال.
من المهمّ هنا التأكيد على أنّ الكذب في حدّ ذاته، ليس ما تتمّ مُقاضاته، بل الفعل المرتبط به، والذي يحمل نيّة التسبُّب بضررٍ جسيم، ويحدث الضَّرر بالفعل. من هنا فقد جُرِّمت أكاذيب في العديد من السياقات بسبب خطورتها على المجتمع، لكنّها في سياقاتٍ أخرى، كانت مباحة لفائدتها للمجتمع، حتّى أنّها تُستخدم في بعض المِهن، مثل: صناعة الدراما والكوميديا والتجميل وصناعة كرتون الأطفال والأعمال الروائيّة وعلاج مشكلات الصحّة النفسانيّة والتوجيه الأسريّ. ومن هنا فإنّ المهمّة صعبة في تحديد الخطّ الدقيق بين الأكاذيب المقبولة وغير المقبولة.
جدال جون ستيوارت ميل
ونحن نتجوَّل الآن في تضاريس ضبابيّة يُسبِّبها الكذب، لم يبقَ أمامنا سوى النَّظر إلى الأضرار التي تسبِّبها كذبةٌ ما في حياتنا، والتي تتمثّل في شقَّيْن: الأوّل، إيذاء جسيم للضحيّة على الفور، والثاني، إحداث الضَّرَر في المجتمع على المدى الطويل من خلال تآكل الثقة والتعاوُن بين الناس.
وقد جادَلَ "جون ستيوارت ميل" بأنّ شرط الضَّرَر، هو المبدأ الحاسم الوحيد الذي يُبرِّر انتهاك الحريّة، وحيث لا يُمكن تجريم الكذب الذي لا يفي بشرطه ذاك. إنّ مبدأ الضَّرر، هو مبدأ تشريعي صالح، ويعمل كنقطة انطلاق مفيدة، إلّا أنّه ليس كافياً، حيث يجب أن يكون حجم الضَّرَر كبيراً، وأن يتجاوز حدّ الإزعاج والاشمئزاز والضيق الذي تأتي به صروف الحياة، ويتمّ التعبير عنه قانوناً بمفهوم "الضَّرَر الجوهريّ".
بينما يحتجّ Bryan H. Druzin بأنّ أحد أغراض القانون الجنائيّ هو كفالة الرفاه العامّ للمجتمع، وعمله على هذا النحو في كلّ الظروف. وهذا أحد أسباب تجريم القيادة عند حدّ سرعة معيّنة، ومنْع التدخين قبل البلوغ، مع مُمارسته في أماكن محدَّدة. فالمشرِّع لم يمنع القيادة على الرّغم من مخاطرها، لكنّه حدَّد السرعة القصوى تجنُّباً للحوادث. كما لم يُحظَّر التبغ على الرّغم من مخاطره، لكنّه سمح به بعد البلوغ فقط، وفي أماكن بعَيْنها، لأنّ المدخّنين يعيشون في مجتمعٍ تعدّدي يُقدّم الصحّة على أيّ أمرٍ آخر. وبهذا، اتّخذ المشرِّع قراراً واعياً بالسماح للأفراد بمتابعة أنشطة تُعَدُّ ضارَّة، لأنّ الحظر التامّ لها قد يؤدّي إلى خرْقِ الرفاه أكثر بكثير من السماح بتلك النشاطات. وبالمِثل، فإنّ تجريم الكذب إجمالًا، وإن كان يفي بواجبٍ أخلاقي، إلّا أنّه يُعَدّ تدخّلاً قمعيّاً مُفرطاً في المجال الخاصّ، حين تُحَاكَم ملايين المحادثات الشخصيّة والتفاعُلات الاجتماعيّة التي لا حصر لها، وستتحوّل الدولة إلى دولةٍ بوليسيّة. لكنّ من الحِكمة أيضاً فسْح المجال للقانون المدني للنظر في أكاذيب ما، وملابساتها، ليقرِّر تعويضاً للطرف المتضرِّر أو تقديم اعتذارٍ له. (Bryan H. Druzin,The Criminalization of Lying: Under What Circumstances)
عدا ذلك، فثمّة حاجة ماسّة للكذب الذي يبعث كلّ ذلك الإلهام في الاختراعات، كتصميم روبوتات تحمل هويّة إنسان لأداء مهامٍّ صناعيّة خطرة أو لإرسالها إلى الفضاء، وفي الأعمال الترفيهيّة القائمة على الابتكار والأساطير وقصص الخيال العلميّ والفانتازيا السياسيّة، وفي صناعة النكتة ومقالب الكاميرا الخفيّة. والحاجة للكذب أكثر إلحاحاً لملء خيال الأطفال بحكايات الجدّات المُختلقة لزرْعِ القيَم فيهم، وبرامج الكرتون التي تتحدّث فيها الحيوانات إليهم، لترشدهم لاحترام البيئة، وأنّ الحفاظ على الحياة، هي مسؤوليّتهم المستقبليّة.
*كاتبة وروائيّة من ليبيا - مؤسسة الفكر العربي