في مَعاني مفردة "العَرب" عند ابْن خلدون
د. محمود الذوّادي*
ما زال استعمالُ ابن خلدون لمفردة "العرب" يُثير لغطاً كبيراً لأنّه أدّى في الماضي ويؤدّي حاليّاً إلى التباسٍ وسوءِ فهْمٍ للمعاني المقصودة في السياقات المُختلفة في مؤلَّفات صاحب "المقدّمة". يُردِّد البعضُ في العالَم العربيّ اليوم عبارةً يقولون إنّها خلدونيّة: "إذا عُرِّبتْ خُرِّبت". تفيد هذه العبارة لديهم بأنّ ابن خلدون يعني أنّ الجنس العربيّ يَخرب الأشياءَ التي تكون في حوزته.
نَشَرَتِ المجلّةُ الفرنسيّةُ Sciences Humaines (شباط/ فبراير 2023، العدد 355، ص 49 - 53) مقالةً حول ابن خلدون عنوانها "ابن خلدون رائد العلوم الإنسانيّة في العالَم العربي" تطرَّقت وحلَّلت فكرَ ابن خلدون بطريقةٍ مفيدة للقرّاء؛ لكنّ صاحب المقالة أخطأ في فهمه لمعنى مفردة "العرب" لدى ابن خلدون. فرأينا من الضروريّ لفتَ المجلّة إلى ذلك الخطأ وإصلاحه وذلك بكتابة نصٍّ وافٍ يُصحِّح الأمر، وقد قَبلتِ المجلّةُ نشْرَهُ في عددها 360 الذي صدر في شهر حزيران/ يونيو 2023، ص 4.
تصنيف الظواهر كمنهجيّة خلدونيّة
يُعتبَر تصنيفُ الظواهر منهجيّةً علميّةً تحسِّن من كسبِ رهان الفهْم والتفسير للظواهر. ففي دراسته للمُجتمعات العربيّة، استعملَ ابن خلدون ما نسمّيه "التصنيف الثنائي/ المزدوج" المتمثّل في المُجتمع البدوي والمُجتمع الحضري، وهو تصنيف تبنّاه أيضاً بطريقةٍ واسعة علماءُ الاجتماع بعده مثل وصْف المُجتمعات بأنّها صاحبة تضامنٍ آلي/ ميكانكي أو ذات تضامُنٍ عضوي، كما فعل إيميل دوركايم، أو تقسيم المُجتمعات المُعاصرة إلى تقليديّة وحديثة. من جهته، استعمل ابن خلدون كلمةَ "العرب" في أكثر من معنى اعتماداً على منهجيّة التصنيف، بينما استعمل كاتب المقالة في المجلّة الفرنسيّة المذكورة مفردة "العرب" في معنىً واحدٍ وهو البدو الأكثر بداوة الذين يرى ابن خلدون أنّهم يميلون إلى هدْمِ المعالِم الحضاريّة العمرانيّة، نظراً إلى أنّ نشأتهم في البيئة البدويّة الصعبة والمتوحِّشة لا تؤهّلهم للتعامُل والتكيُّف السلميَّيْن مع البيئة الحضريّة التي يتفاعلون معها. ومن ثمّ، فالتصنيف الثلاثي لمعنى كلمة "العرب" عند ابن خلدون (العرب كأمّة أو جنس، العرب البدو، العرب الأكثر بداوة) لا يسمح لصاحب "المقدّمة" أن يَصِفَ العربَ كأمّةٍ أو جنسٍ بالتوحُّش وهدْم المعالِم الحضريّة وهُما اللّذان أقاما معالِم عمرانيّة ممتازة في البلدان التي فتحها العرب والمسلمون، كما تشهد على ذلك بلادُ الأندلس التي زارها ابن خلدون وشاهد معالِمَ عمرانيّة عربيّة إسلاميّة جميلة ورائعة في الغرب والشرق من العالَم العربي الإسلامي. إذن، فكلمة "العرب" لها أكثر من معنىً عند صاحب "المقدّمة" كما رأينا.
المنظور التحليليّ الخلدونيّ
يتبنّى ابن خلدون رؤيةً نظريّةً ترى أنّ العوامل الخارجيّة في المُجتمع، وفي المحيط الخارجي للإنسان، هي التي تُحدِّد مَعالم سلوكه وطبيعة شخصيّته. أي أنّ أثر البيئة على تشكيل السلوكيّات البشريّة وأنماط الحياة في المجتمعات مسألة مُهمّة للغاية في التصوُّر الذهني والفكري لصاحب "المقدّمة". فهو يفصح عن ذلك بوضوحٍ تامّ في قوله: 1- إنّ "الإنسان ابن عوائده ومألوفه، لا ابن طبيعته ومزاجه. فالذي ألفه في الأحوال حتّى صار خَلقاً ومَلَكَةً وعادةً تُنزَّل منزلةَ الطبيعة والجِبلّة، واعتَبِرْ ذلك في الآدميّين تجده كثيراً صحيحاً" (ابن خلدون، المقدّمة، بيروت، دار الكتب العلميّة، 1993: 100)، و2- "اعلمْ أنّ اختلاف الأجيال في أحوالهم إنّما هو باختلاف نحلتهم في المعاش" (المصدر نفسه: 96).
اعتماداً على هذه الرؤية الفكريّة المعرفيّة الخلدونيّة بالنسبة إلى مدى تأثيرات عوامل البيئات على السلوكيّات البشريّة، نستطيع فَهْم لماذا استعملَ صاحب "المقدّمة" مفردات البدو والحضر والبدو الأكثر بداوة/ توحُّشاً. بعبارةٍ أخرى، يقول ابن خلدون كلّما ابتعد الأفراد والجماعات أكثر عن البيئات الحضريّة ازدادوا بداوةً أو أصبحوا "عرباً" بالمصطلح الخلدوني. فأثر البيئة على تشكيل السلوكيّات في المُجتمعات مسألة مُهمّة للغاية في التصوُّر الذهني والفكري لصاحب "المقدّمة". وهو منظورٌ فكريٌّ سوسيولوجيٌّ شائع في صُلب عِلم الاجتماع المُعاصِر والحديث.
المعاني الثلاثة لكلمة "العرب"
يستعمل ابن خلدون كلمة "العرب" أساساً في ثلاثة معانٍ: الأمّة العربيّة/ الشعب العربي، والبدو/ الرحَّل، والبدو الأكثر بداوة/ توحُّشاً بسبب شدّة بعدهم عن مكان سكّان المُدن. يَبرز المعنى الأوّل في "كتاب العِبر وديوان المبتدأ والخبر في أيّام العرب والعجم والبربر ومَن عاشرهم من ذوي السلطان الأكبر". من الواضح أنّ مفردة "العرب" في عنوان هذا الكتاب تُشير إلى الجنس/ الشعب العربي أو الأمّة العربيّة التي عاشرت أُمَمَ العجم والبربر ومَن عاشرهم من الشعوب والأُمم الأخرى ذات الهَيْمَنة والسلطان العظيم. نَجِدُ أيضاً استعمالَ ابن خلدون كلمة "العرب" في معنى الجنس العربي عندما يتحدّث عن أصول نسبه فيقول: "ونسبنا حضر موت، من عرب اليمن، إلى وائل بن حُجْر، من أقيال العرب، معروف وله صحبة" (التعريف بابن خلدون ورحلته غرباً وشرقاً، بيروت، دار الكتاب اللّبناني، من دون تاريخ: 4). يُطْنِب صاحب "المقدّمة" في الحديث عن الأصول العربيّة لوائل بن حجر فيستشهد كاتباً: "وذكره أبو عمر بن عبد البَر في حرف الواو من 'الاستيعاب'، وأنّه وفد على النبي صلّى الله عليه وسلّم، فبسط له رداءه، وأجلسه عليه، وقال: "اللّهم بارك في وائل بن حجر وولد ولده إلى يوم القيامة".
أمّا المعنى الثاني لكلمة "العرب" في "مقدّمة" ابن خلدون فهُم البدو. يأتي عنوان الفصل الثاني من الباب الثاني من كتاب "المقدّمة" بهذا العنوان "في أنّ أجيال العرب في الخليقة طبيعي". يركّز ابن خلدون في هذا الفصل على تعريف البدو فيقول: "قد قدَّمنا في الفصل قبله أنّ أهل البدو هُم المُنتحِلون للمعاش الطبيعي من الفلح والقيام على الأنعام وأنّهم مقتصرون على الضروري من الأقوات والملابس والمساكن وسائر الأحوال والعوائد ومقصّرون عمّا فوق ذلك من حاجيّ أو كماليّ" (ابن خلدون: 97). فابن خلدون يُعرِّف البدو بأنّهم القوم الذين ينتحلون المعاش الطبيعي سواء أكانوا من جيل العرب أم البربر والترك والصقالبة. فكلمة البدو هنا تشمل أفراد الجنس العربي الذين يتبنّون معالِم العيش الطبيعي المُشار إليها؛ ثمّ يتحدّث صاحب "المقدّمة" عن فرع من البدو العرب الذين هُم أشدّ بداوة وهو المعنى الثالث لمفردة "العرب": "وأمّا مَن كان معاشهم في الإبل فهُم أكثر ظعناً وأبعد في القفر مجالاً، لأنّ مسارح التلول ونباتها وشجرها لا يستغني بها الإبل في قوام حياتها عن مراعي الشجر في القفر وورود مياهه الملحة والتقلُّب في فصل الشتاء في نواحيه فراراً من أذى البرد إلى دفاءة هوائه وطلباً لماخض النّتاج في رماله، إذ الإبل أصعب الحيوان فصالاً ومخاضاً وأحوجها في ذلك إلى الدفء، فاضطرّوا إلى إبعاد الُّنجعة وربّما زادتهم الحامية عن التلول أيضاً، فأوغلوا في القفار نفرة عن الضعة منهم، فكانوا لذلك أشدَّ الناس توحّشاً، وينزلون من أهل الحواضر منزلة الوحش غير المقدور عليه والمُفترِس من الحيوان العُجم، وهؤلاء هُم العرب، وفي معناهم ظعون البربر وزناتة بالمغرب والأكراد والتركمان والترك بالمشرق. إلّا أنّ العرب أبعد نُجعة وأشد بداوة لأنّهم مختصّون بالقيام على الإبل فقط" (ابن خلدون: 97).
هكذا، فالنوعان الأخيران من مفردة "العرب" عند ابن خلدون هُما أساساً نتيجة ظروف وعوامل بيئتهم. فصاحبُ "المقدّمة" يتبنّى فكريّاً منظور الحتميّة البيئيّة (الاجتماعيّة والمناخيّة...إلخ) كما ذكرنا. ومن ثمّ، عَنْوَن ابن خلدون بعض فصوله بعبارتَيْ "في أنّ أهل البدو أقرب إلى الخير من أهل الحضر" و"في أنّ أهل البدو أقرب إلى الشجاعة من أهل الحضر" (ابن خلدون: 98 - 99)، لأنّ بيئتهم علَّمتهم مهارات و أنماط حياة تجعلهم يتفوّقون على سكّان المدن (الحضر) في المُجابهات والصراعات الجسديّة بين الطرفَيْن. ومنه، نفهم بطريقةٍ أفضل المعنى الحقيقي لمفردة "العرب" في عبارة ابن خلدون "وهؤلاء هُم العرب". فكلمة "العرب" لا تعني الشعب العربي، بل تعني بدلاً من ذلك البدو. فتحليلنا هذا يُبيِّن أنّ صاحب "المقدّمة" يستعمل مفردة "العرب" التي تفيد غير سكّان المُدن لشعوب المُجتمعات العربيّة الإسلاميّة. إذن، فكلمة "العرب" عند ابن خلدون تمثِّل مفهوماً سوسيولوجيّاً. أي أنّ أنماط حياة الناس تُحدِّد سمات ومواصفات المجموعات البشريّة. إذن، هناك إجماعٌ بين الدارسين للفكر الخلدوني على أنّ مفردة "العرب" تعني البدو.
لماذا البدو= العرب؟
تفسِّر الرؤية المعرفيّة/ الابستيمولوجيّة الفكريّة سببَ ترادُفِ كلمة البدو مع كلمة العرب عند صاحب "المقدّمة". فيبدو أنّ ابن خلدون استعمل كلمة "العرب" اعتماداً على ما كان سائداً ومُنتشراً في خطاب الاستعمال الكبير في بلدان المغرب العربي الإسلامي التي سمَّت البدو الرحَّل "عرباً"، لأنّ عرب الجزيرة العربيّة معروفون بالتنقُّل والتّرحال في الصحراء، ومن ثمّ جاءت مشروعيّة الترادُف بين كلمتَيْ البدو والعرب. لا يزال مضمونُ هذا الخطاب متواصلاً في بعض المُجتمعات العربيّة على الأقلّ. ففي المُجتمع التونسي، مثلاً، يُقسَّم الناس إلى سكّان الريف وسكّان المُدن، وهو تقسيم يشبه كثيراً تقسيم سكّان المُجتمعات العربيّة الإسلاميّة إلى بدو وحضر قبل عهد ابن خلدون وفي أثنائه وبعده. فما زال التونسيّون يطلقون حتّى يومنا هذا كلمة "الْعْرْبْ" على البدو أو سكّان الريف تمييزاً لهم عن سكّان المُدن، أي الحضر في البلاد التونسيّة.
*عالِم اجتماع من تونس - مؤسسة الفكر العربي