العروي وحقيقة مفهوم "الانبعاث الحضاريّ"

news image

سفيان البّراق*

حضرتْ جملةٌ من المفاهيم في الكتابات الفكريّة المُعاصِرة، وأَثارت جلبةً واسعة، واحتدمت حولها سجالاتٌ كبيرة جدّاً قد لا تنقضي عدّاً، ولعلّ في مقدّمتها: التراث/ الحداثة، الأصالة/ المُعاصَرة، الانبعاث/ الانحطاط ...إلخ. كلّ مفهوم ينضوي على الكثير من اللّبس والغموض، لذلك عَقَد عددٌ من المفكّرين العزم على تفكيك كلّ مفهوم على حدة، وإماطة اللّثام عنه. ولعلّ المفكّر عبد الله العروي تبوّأ الرّيادة في ذلك؛ إذ إنّه تصدّى لهذه المفاهيم بالدّرس والتحليل، والدقّة المنهجيّة، والقدرة الاستثنائيّة في الاستنتاج؛ حيث ما ترك مفهوماً من هذه المفاهيم، على الرّغم من حضوره الوازن والمكانة التي يحتلّها، إلّا وتصدّى له، وكانت له فيه اليد الطولى.

ارتأيتُ في هذه المقالة أن أتعقّب مفهوم الانبعاث، الذي يرادفه مفهوم النهضة، ويعاكس تماماً الانحطاط والتقهقر. بَرَزَ هذا المفهوم في الكتابات الفكريّة النقديّة خلال القرن الماضي، وكان امتداداً واضحاً لمفهوم النهضة الذي تبلورَ مع كوكبةٍ من المفكّرين العرب الذي حملوا على عاتقهم عبء النّهوض بالمُجتمع وإخراجه من دوّامة "التأخُّر التاريخي"، التي وعوا بها، تحديداً، حينما اقتحمَ نابليون بونابرت الرّقعة العربيّة في حملاته العسكريّة المعروفة ما بين 1798 - 1801، ليكتشفَ العربُ ضعفَهم الكبير بعدما قارنوا وضعهم المُتشرذم بوضع الدول في الضفّة الأخرى التي كانت مُنتشيَة فكريّاً وثقافيّاً، ومُنتعِشة اقتصاديّاً، وتَعرف تحوّلاتٍ سياسيّة في غاية الأهميّة. أمّا الترسانة العسكريّة التي كانت تتمتّع بها، ولا تزال، فإنّها لا تُضاهى. فطُرِحَ سؤالٌ مؤرِّقٌ لا زال يُخامر ذهن الفرد العربي إلى الآن: لماذا تأخَّرنا؟ أو كيف نَنهض؟ إنّ هذا السؤال الجوهري هو الذي شكَّل نواة الكتابات الفكريّة في الوطن العربي بعد الصدمة التي تلقّاها العرب خلال القرن التّاسع عشر. لم يتجاوز العرب عقابيل هذه الصدمة حتّى تلتها صدمةٌ عمَّقت جراحهم، وأَتلفت خطّتهم في مسار النّهضة، وأقصد: التوغُّل الاستعماري الأوروبي في العالَم العربي. إنّ مساوئ الاستعمار كثيرة لا يتّسع المجال لذكرها كونها فائقة الشّهرة ومعروفة لدى الجميع، بيد أنّه لا يحقّ أن نُهملَ مدائحه المتمثّلة في إحياءِ الوعي بالإصلاح وتقويته، ووضْعِ الأصبع على مشكلاتٍ أغفلها العرب سابقاً: قضيّة التعريب أنموذجاً.

على الرّغم من اختلاف البرامج الثقافيّة والتيّارات الفكريّة التي استحوذت على الثقافة العربيّة المعاصرة، واختلاف مشاربها، ومَراميها، بيدَ أنّها توحّدت تحت رداء الخروج من أزمة التأخُّر التاريخي، وتحقيق النّهضة، واللّحاق بالغرب، ومقارعته في احتلال صفوة العالَم، واستعادة أمجاد الماضي الغابرة؛ حينما شهدت الحضارة العربيّة نموّاً وازدهاراً كبيرَيْن في جلّ الحقول المعرفيّة بلا مُنازعة. فهل نجحتْ هذه التيّارات الفكريّة في تحقيق تطلّعاتها؟ إذا قلنا لا، فما هي الأسباب التي حالت دون تحقيقها أحلامها المُجهَضة؟

في ضوء هذه الأسئلة، راجَ مفهومُ الانبعاث الحضاري، وتبنّاه المفكّرون، وأسهبوا في التنظير له؛ بين مَن يرى أنّ تحقيقه واقعيّاً يقتضي إحياءَ الموروث واستعادةَ توهُّج الحضارة العربيّة في زمنٍ ولّى، وبين مَن رجَّح كفّة ترسيخه بتحقيق نبوغٍ عربي جديد لم يألفه الناس من قَبل. إنّ الحديث عن التراث يقود إلى تمييزٍ لا بدّ منه بين التراث كموروثٍ حافل باللّغة (مرآة الثقافة) والعادات (السلوكيّات، الفولكلور...) والفنون التعبيريّة (الأدب، الموسيقى... إلخ)، وبين مفهوم السنّة (منطق الثقافة كما يسمّيها العروي). نقرأ لعبد الله العروي في هذا الباب: "إنّ مفهوم التراث يطمس التعاقُب الزمني والتمايُز الاجتماعي، في حين أنّ مفهوم السنّة، يكشف عند التدقيق، عن تلك المُتغيّرات التاريخيّة والاجتماعيّة" (العروي، ثقافتنا في ضوء التاريخ، ط6، ص192). الفرق إذن واضح، على الرّغم من أنّهما استُعملا بشكلٍ مُترادِف في جلّ الكتابات النقديّة، حيث إنّ هناك مَن جَعَلَ السنّة مُرادِفاً للسلف، وبالتالي فقد أَخذت طابعاً دينيّاً صرفاً.

الخطاب العربيّ المُعاصِر والانبعاث

قبل أن يغوص العروي في سؤالِ الانبعاث الحضاري، بيَّن بجلاءٍ كبير العوامل التي حكمت الخطاب العربي المُعاصِر، وعزَّزت هَوَسَهُ بتعقّب الانبعاث، وقد أوجزها في ستّة عوامل: أولاها اللّغة بوصفها المقوِّم الأساس لأيّ ثقافة كيفما كانت ومرآتها العاكسة لوضعها؛ أكان مُنتعشاً أو منحطّاً؛ ولهذا فإنّ العرب لم يتخلّوا عنها، بل احتفوا بها ومجّدوها، لذلك فلغتهم الآن هي امتدادٌ للغةِ حقبةِ الازدهار والحظوة. في حين أنّ العامل الثاني هو السلوك الذي يبيِّن ذهنيّةَ مُجتمعٍ ما، لكونه يتبدّى للآخر، ويتسلَّل من الكائن العربي بشكلٍ لاواعٍ. ثمّ مفهوم الخيال بحسبانه الركيزة المحوريّة للفنون التعبيريّة، والآخذ حصّة الأسد في كلّ شكلٍ كيفما كان (نحتاً، رَسْماً، أَدباً). والعامل الرّابع باعتباره أسّ الإسلام، والمبدأ الذي هو محطّ توافقٍ بين جميع الأنبياء؛ وأقصد: التوحيد، والعامل الأخير هو مكارم الأخلاق (للاستزادة يُنظر: المرجع نفسه، ص193).

غنيٌّ عن البيان أنّ إشكاليّة "الانبعاث الحضاري" طَفَتْ في ضوء جملة من الأسباب التي أفضت إلى الانغمار في أزمة التراجُع والانحطاط، لعلّ أبرزها: السلوكيّات الغارقة في بركة التقليد، حيث إنّ الفرد العربي يُعايِن سلوكيّاتٍ عدّة في الفضاء العامّ تنمّ عن حضورٍ وازن للّاعقل الذي يحكم سلوكيّاته ورؤاه وتمثّلاته، على الرّغم من أنّنا نعيشُ في فترةٍ تحكمها الرّقْمَنة والتكنولوجيا التي جاء بها العقل الغربي الذي جعلَ العقلَ هو المحرّك الأساس لسلوكيّاته، والمُنطلَق الأوّل للتفكير. في حين أنّ الذهنيّةَ العربيّة حكمها التقليد والاستكانة للأساطير، ولكلّ ما هو متعالٍ وغير عقلاني، وهذا يظهرُ بجلاء، على الرّغم من التحديث الظاهري الذي يعيش تحت سقفه الكائنُ العربيّ، من خلال سلوكيّاته الغارقة في التقاليد البالية، بالإضافة إلى المَيل الواضح إلى التسويف والاستقرار والاتّكال واللّامبالاة، وهَيْمنة ما أَطلق عليه العروي عبارة: الذّهنيّة الاستهلاكيّة في مقابل الذهنيّة الإنتاجيّة، وهذه الأخيرة غَزت الغرب، واستشْرَت في جميع مناحي الحياة: الاقتصاد، السياسة، الإبداع، ناهيك بتفوُّق "العِلم التقليدي بوصفه عِلم الأفراد المالك للنواميس، وانعدام العِلم الحديث باعتباره عِلم جماعات ومؤسّسات" (المرجع نفسه، ص139)، المُرتكِز على العقلانيّة والتجربة. هذا من دون إغفال أزمة المثقّف، التي سال مداد العروي عنها كثيراً، مشخِّصاً وضعيّته، كاشفاً عن التحوُّلات التي أدَّت به إلى السجن في هذه الأزمة الخانقة، وسببها الأساس غياب ما يُصطلح عليه بـ "الأدلوجة الإنتاجيّة". ولهذا فإنّ أزمته، أي المثقّف، هي انعكاسٌ جليٌّ "لأزمة مجتمعه (...) إنّ أزمة المثقّف الذاتيّة هي التي تجعلُ أزمة المُجتمع أعمق وأعوص" (المرجع السابق نفسه، ص172، بتصرُّف). وقصارى القول: إنّ ما يزيد الطين بِلّة، ويجعل مدّة هذه الأزمة تطول، ويسعِّر مشاعر البؤس والإحباط هو معضلة "السياسة التعليميّة والتثقيفيّة، وبخاصّة ازدواجيّة التكوين عبر اعتماد منهجٍ تقليديٍّ قوامه العربيّة، وتلقين التراث في جامعاتٍ دينيّة أو مدارس الحديث، ومنهجٍ مهنيٍّ يجنحُ إلى استعمال اللّغة الأمّ (العربيّة)، ويستعين في الوقت نفسه بلغةٍ أجنبيّة" (المرجع السابق نفسه، ص175، بتصرُّف).

بعد رصد العوامل المحوريّة التي كانت وراء هذا التأخُّر التاريخي، يُمكن الاشتباك مع سؤال الانبعاث الحضاري الذي يسعى إلى التخلُّص منه، وتجاوزه، وتحقيق نهضة عربيّة شبيهة بنهضة الغرب التي بدأت بتحوّلاتٍ جذريّة ونوعيّة ابتداءً من القرن السادس عشر عبر اكتشافاتٍ علميّة أَحدثت نقلةً راديكاليّةً في نظرة الإنسان إلى العالَم، وإصلاحٍ ديني اعترفَ بالفرد وألغى سطوة الكنيسة، وحداثةٍ سياسيّة أَنجبت الديمقراطيّة التمثيليّة واللّيبراليّة. وأعتقد جازماً أنّ قول ابن خلدون يلخِّص هذا الوضع: "المغلوبُ مولعٌ أبداً بالاقتداء بالغالب في شِعاره وزيّه ونحلته وسائر أحواله وعوائده" (المقدّمة، تحقيق: عبد الواحد وافي، ج3، ط6، 2014، ص1261). يقترنُ سؤالُ الانبعاث الحضاري، في المقام الأوّل، بالمشكلات الثقافيّة التي غزت الخريطة العربيّة بلا مُهادنة، والبتّ في هذه الإشكالات يقتضي حَذَراً كبيراً جدّاً لكونها تُجافي المشكلات السياسيّة، على سبيل التمثيل فقط، التي تحتاجُ إلى عزم وحزم شديدَيْن، واتّخاذ قرارٍ سياسي حاسِم للمضيّ في حلّ معضلات الدولة. أمّا المشكلات الثقافيّة، فإنّها تحتاجُ للتعرية والتشخيص، ثمّ الوعي بها، وإعداد استراتيجيّة دقيقة وواضحة ترمي إلى تجاوزها، وانخراط النّخبة المثقّفة في هذا المشروع، وكذا الرّفع من المنسوب الثقافي في ذهنيّة المُجتمع. وجديرٌ بالذّكر أنّ الخطأ في الإصلاح الثقافي أعمق وأعوص من الخطأ في ميدان آخر: الاقتصاد مثلاً، لأنّ الخطأ في الحقل الثقافي يعني "استدراك عقود أو قرونٍ ضائعة فقد تكون الضربة القاضية على الأمّة" (ثقافتنا في ضوء التاريخ، ص204).

جدليّة اللّغة والانبعاث

يؤكِّد العروي على أنّ مفهوم الانبعاث لا يعني إحياءَ الماضي ووقائعه، والتشبّث بالأمجاد التي شهدها، بل يعني استعادةَ الصدارة المفقودة جرّاء تحوّلات الزمن؛ أي: سيادة العالَم. وهذا في نَظَرِ العرب لن يتأتّى إلّا من خلال التشبُّث باللّغة العربيّة التي لم تشهد تغيّراً واضحاً، بعكس اللّغات الأخرى، إذ يرون فيها صلتهم بالماضي الآسر، وبواقعهم المنخور. إنّ اللّغة العربيّة هي أسّ الهويّة العربيّة ونواتها، وهي التي توحّد العرب على الرّغم من اختلاف أحوالهم وظروفهم إلى الآن، وينتابهم الكثيرُ من الحنين تجاهها لأنّها تذكِّرهم بالماضي المزدهر الذي خفَتَ وأفَل، وقد لا يُستعاد. تصدّى العروي، في هذا المضمار، لمعضلة اللّغة باعتبارها نواة الثقافة العربيّة، وأكّد على أنّ المُحافَظة عليها كما كانت في العصور المُنقضية، قصد تحقيق الانبعاث الحضاري، سيفضي بنا إلى "مُواجَهة الاختيار الصعب: إمّا أنْ تنفتحَ اللّغةُ على مفاهيم وأفكار مُستحدَثة، فتختلقُ تعابيرَ مواتية لها وتتحوّلُ من شكلٍ إلى شكلٍ آخر، وإمّا تتحجّر وتبقى وفيّة لتراكيب الماضي فتعجز بعد حين عن استيعاب مبتكرات الحاضر بما يلزمُ من دقّة وشموليّة ووضوح" (نفسه، ص202). يُستشفّ من هذا القول أنّ التشبُّث باللّغة العربيّة، الزّاخرة بالجمال الأخّاذ، والذي لم ينقطع مداده إلى الآن، هو عائقٌ جليٌّ يُعرقلُ مَسار التحديث في المُجتمع العربي؛ لأنّ العرب لم يستطيعوا التخلّي عن تقديسِ الموروث اللّغوي، وتحيينه، بما يتماشى مع متطلّبات العصر، وهذا في حقيقة الأمر يقتضي جرأةً وشجاعةً كبيرتَيْن. ولعلّ العروي تطرَّق إلى علاقة اللّغة بالانبعاث ليُبيِّن بحصافةٍ مدى إسهامها الكبير في اغتياله.

يُستخلص من كلّ هذا أنّ مرامي مفهوم الانبعاث تستحقّ التنويه، لكنّ المسالك المؤدّية إليه تنطوي على خللٍ واضح. ولعلّ التشبُّث باللّغة العربيّة كلغةٍ لم تشهد تغيُّراً، هو أحد العوامل التي عرقلت نجاحه، ثمّ "الازدواجيّة اللّغويّة التي تُعطّل الإبداع" وتعيق النبوغ، الذي يعدُّ شرطاً أساسياً في مسار الانبعاث الحضاري. والنبوغ هنا لا يقتصرُ على فردٍ واحد، سواء أتحقَّق نبوغُه هنا أم هناك، ولكنّ المقصود هو النبوغ الجماعي، وهذا الأخير يقتضي، من وجهة نظر العروي، "ثورةً تربويّة بوصفها شرطاً أساسيّاً لتهييء الجوّ للإبداع الفكريّ، وهي تَستلزِم أمرَيْن اثنَيْن: إثبات معرفة المُحيط الطبيعي كهدفٍ أوّلٍ للتربية، ثمّ تطوير منهجيّة تعليم اللّغة" (نفسه، ص209). قد يلحظُ المتلقّي إلحاحَ العروي على مشكلة اللّغة، وربطه الوثيق تحقيق الانبعاث والخروج من الأزمة، بحلّ هذه المشكلة. إنّ حلّها، في تقديره الشّخصي، رهينٌ بوجود "سلطة قوميّة قويّة ذات نفوذ" (يُنظر: ص209 - 221)، ولهذا يُمكن القول إنّ بروز سؤال الانبعاث مردّه قضيّة اللّغة والتعريب، وما كان وراء انبثاق هذه القضيّة الأخيرة هو غيابُ حُكمٍ قوميّ جَدِلٍ ووثيق مالكٍ لمقاليد الترسيخ الواقعي.

*باحث في الفلسفة من المغرب - مؤسسة الفكر العربي