إشكاليّة العلاقة بين اللّغة والهويّة

news image

محمّد باقي محمّد *

ها نحن نقف في حقل العلوم الإنسانيّة، التي يصعب اجتراح تعريفٍ جامِعٍ مانِعٍ لها كما أسلفنا غير مرّة، وذلك على العكس من العلوم الوضعيّة، التي تحتكم إلى ضبطٍ صارم يسوسها في الموضوعات أو العلاقات أو في ضبْط المصطلح، فكيف إذا انتهى بنا المقام إلى تلمُّس العلاقة بين موضوعتَيْن كاللّغة والهويّة، بما هما حقلان شديدا التمفصُل، بل التداخُل؟! إلّا أنّنا، في المُجتبى، مُكرَهون على ما ليس منه بدّ، ذلك أنّنا لا نجد مناصّاً من تحرّي تلك العلاقة، وذلك للوقوف على موضوعٍ راهن وضاغط وشديد الأهميّة، واضعين في اعتبارنا أنّ احتدام الحوار حول مسألةٍ ما يضعها على تخوم النّضج فاكتمال المحاور، على ألّا يكون التوفيق أو التلفيق أو المنزلة بين المنزلتَيْن في مقاصد أيّ طرف!

على هذا التأسيس سنعترف، بدايةً، بأنّ طرْحَ المُصطلحَيْن المُتلازِم يَستبطن إقراراً ضمنيّاً بأنّ ثمّة علاقة بينهما، ما يستدعي أسئلة عن الدوائر التي يلتقيان فيها، والدوائر التي يفترقان فيها إن وُجدت! ثمّ إنّ طرحاً كهذا يُلزِمنا بالوقوف على اللّغة بوصفها هويّة، أي بما تحمله في داخلها من عناصر قوّة، على نحوٍ يدفعنا إلى الإيمان بها من جهة، والتمسُّك بها من جهة أخرى!

تعالوا نتّفق، إذاً، أنّ اللّغة إذ نشأت، أُنيطت بها وظيفة التواصُل بين البشر أساساً، في حين أنّ الهويّة تُحيلنا إلى الذّات الفرديّة، تلك التي تُبتّ عن/ وتنتمي إلى الذّات الجماعيّة بمُستوياتها المُختلفة، التاريخيّة، الجغرافيّة، الثقافيّة، السياسيّة، الدينيّة، والحضاريّة بالإجمال.

لهذا سنتذكّر سريعاً أنّ اللّغة تُعادِل مصطلح اللّسان، وأنّ طرحها إنّما يصدر عن العقل، فيما يتأتّى الكلام عن الحاجة إلى التواصُل، أي أنّ اللّغة ملخَّص للكلام البشريّ العاقل؛ على هذا يُمكن القول إنّ اللّغة langue نظامُ اهتمامٍ مُستقلّ، وإنّ الكلام parole هو تحقُّق هذا النظام في صورةٍ مُقرَّرة، على نحوٍ يُنجِز وظيفتَيْ التعبير عن النصّ والتواصُل مع الآخرين، أي أنّ اللّغة إذ ترتبط بالهويّة، تتموضع على الفور في العقل، وليس على اللّسان، ما قد يقتضي منّا الإشارة والتوضيح!

اللّغة والثقافة

لا شكّ في أنّ اللّغة هي التي تُنتِج الثقافة، وأنّ الثقافة، بدورها، تعتمد على وعاءٍ لغويّ. وبالاتّكاء على هذا التأسيس، سنُلاحظ تداخُل الدائرتَيْن وتلازمهما، ذلك أنّ اللّغة هي الفكر في تفاعله مع الأشياء، وموقفه منها، في حين أنّ الثقافة هي تشابُك تلك الأشياء، إذ إنّها تُملي علينا طريقةَ التعامل معها، وتحدِّد استجاباتنا إزاءها. على هذا إذا كانت اللّغة عنصراً في بناء الثقافة، فإنّ الثقافة تؤثّر، هي الأخرى، في اللّغة باعتبارها فكراً. وعلى هذا أيضاً ينبغي أن نُمايز بين حقلَيْن آخرَيْن، إذ إنّنا مطالبون بالتفريق بين اللّغة والثقافة من جهة، وبينها وبين العِلم من جهة أخرى، ذلك أنّ الثقافة إنّما هي نظريّة في السلوك، في حين أنّ العِلم هو نظريّة في المعرفة.

اللّغة والتواصُل.. اللّغة والهويّة

من المهمّ أن نُشير إلى أنّ التواصُل وظيفة مُجرّدة، محدودة القيمة، وتكمن أهميّته في تأثيره إذ يرتدّ إلى الفكر. أمّا الهويّة فتتمحور حول الذّات والكينونة والماهيّة، وهي آتية من عالَم الفلسفة في صورةِ مَصدرٍ صناعيّ، يقوم على النسبة؛ وعلى هذا، فهي تُحيل إلى الانتماء والتساوي والتشابُه، وتنحو إلى التركيب حين تعبِّر عن جماعةٍ أو أُمّة، ذلك أنّها ترتبط بمصالحهم وغاياتهم الجمعيّة. وبهذا فهي لا تولد مع الإنسان، بل ترتبط بعلاقةٍ وثيقة بالمُحيط كاللّغة والثقافة، أي بالمعنى التاريخي للمُجتمع، علوماً ومَعارفَ ومَواقفَ وذكرياتٍ ومشاعر وأفراحاً وتجارب. هذا كلّه يُسهِم في تشكيل هويّة الجماعة في الزمان والمكان والدّين بما هو رؤية الذّات والآخر والكون.

ثمّ إنّ اللّغة هي التي صاغت أوّل هُويّة، أي كينونة الجماعة عبر التاريخ. فاللّسان الواحد هو الذي صَيَّرَ فئةً من الناس جماعةً واحدة. ويُلاحَظ أنّ أهميّة العلاقة بين اللّغة والهُويّة تزداد في المنعطفات التاريخيّة، لتتبدّى تصاعديّاً في المُنعطفات الحضاريّة الإيجابيّة. فهل نستشهد بدَورِ الدولة الإسلاميّة في بلْورةِ هُويّةٍ عربيّة لم تنأى عن القداسة، على اعتبار أنّ العربيّة هي لغة القرآن الكريم!؟ لكنّها ستتبدّى سلباً في الانكسار والتشظّي والغياب عن ساحة الفعل والتأثير، ولعلّنا نقع على ضالّتنا - تمثيلاً - في الموات القارّ في ظلّ الإمبراطوريّة العثمانيّة!

هل نشير إلى أنّ الصعود، منسوباً إلى الإسلام، والهبوط، مُتموضعاً في خانة الخضوع للعثمانيّين، سيتماهيان كشيء واحد؟ كيف؟ إذا وعينا بأنّ اللّغة والهُويّة خصّيصتان إنسانيّتان، كون اللّغة هي لغة الإنسان، ذاك الكائن الوحيد الذي يحوز الوعي، ويتحصّل عليه، بمعنى الوعي والشعور بالذّات وبالآخر، على نحو يُعيدنا إلى موضوعة ارتباطهما بالعقل، أي كونهما خاصّيّتَيْن عاقلتَيْن! وإذا كنّا قد ألمحنا إلى تشكّلهما في الزمن، فإنّنا إذ نقف بهذا التشكُّل مليّاً سنقول بأوّليّتهما، فهما قديمتان، وُجِدتا بوجود الإنسان على سطح البسيطة، وفي هذا قد نتذكّر بأنّ الله عزّ وجلّ ميَّز آدم بالعِلم بالأسماء "وعلَّم آدم الأسماء على الملائكة.." سورة البقرة، الآية31. وبلغة الفلسفة والمنطق سنقول إنّهما كلٌّ مركّب، أي أنّهما كلٌّ تندرج تحته أجزاء، ويشتملان على طرائق التفكير والتاريخ والمشاعر والإرادة والطموحات وشكل العلاقات، وسنؤكّد على أنّهما، إلى ذلك، تاريخيّتان، مُترجِمين وموضّحين بذلك ما أسلفناه من أنّهما تشكَّلتا في الزمن، وأَخَذَتا بالتالي أبعادَهما على تدرُّج.

بقي أن نشير إلى أنّهما جمعيّتان، أي أنّهما لا تعيشان داخل الفرد المنعزل، إذ نحن نرى كيف أنّ اللّغة والهُويّة إنّما هُما وجهان لعملة واحدة، لأنّ الإنسان في جوهره ليس سوى لغة وهُويّة، اللّغة بما هي فكره ولسانه، وفي الوقت ذاته بما هي انتماؤه، أي بما هي هُويّته.

هذا في ما يخصّ الدوائر التي يلتقيان فيها. أمّا الدوائر التي يفترقان فيها فقد تتلخّص في حالة الهزيمة التي تحيق بأمّة مثلاً، بحيث سنجد ارتباكاً جليّاً في التعبير عن الهُويّة، وسيقتصر حديثنا عليها في ما يلي في الخطاب الرسميّ العربي، وذلك في أعقاب هزيمة حزيران/ يونيو 1967، ناهيك بأنّ تلمُّسَها لدى النُّخب الثقافيّة بدا هو الآخر مُلتبساً، يشكو الاضْطرابَ والإبهام.

يُضاف إلى ما تقدّمَ غيابُ المشروع المُعبِّر عن طموحات البشر وآمالهم، وسَنجد التعبيرَ عن هذا الغياب في تسيُّد الخطاب القطريّ على حساب الخطاب القوميّ، بعدما وَأَدَ الخطابُ القطريّ تطلُّعاً، يشكو الإبهام أساساً، إلى وحدة الصفّ.

إنّ العرب المُسلمين إذ أُخرجوا من الأندلس على يد ملوك قشتالة "إيزابيلّا وفرديناند" في اتّحادهما، إنّما كانوا يستقيلون من التاريخ، ما سيشي لاحقاً بغياب وعي الأنا الحضاريّ لأمدٍ طويل.

فهل نتذكّر أنّنا إذ نقف اليوم، على الرّغم من العامل الدينيّ كعاملٍ موحِّد، سنُفاجأ بأنّ انقسامه المذهبيّ صيَّره عاملَ تشظٍّ وقسمة وافتراق؟

*كاتب وأديب من سوريا - مؤسسة الفكر العربي