هل نقترب من مُجتمعٍ ديستوبيّ؟
د. رفيف رضا صيداوي*
كلّ الوقائع تشير إلى أنّ حضارتنا باتت على مرمى قوسَيْن من حال الهمجيّة. وإذا كان للحضارة ثلاثة مرتكزات أساسيّة: الحقّ، الحريّة، الديمقراطيّة، فإنّنا، نحن مواطني هذا العالَم، نشهد، من مشارف الألفيّة الثالثة، اهتزازَ هذه المُرتكزات، في ظلّ الاجتياح الهائل للثورة التكنولوجيّة وإيديولوجيّتها المُسيطرة على المعمورة بأسرها، وما يُرافق ذلك من ازدواجيّةٍ في المعايير، ومن انزياحاتٍ عن الحقّ نحو اللّاعدالة، وعن الحريّة نحو القمع، وعن الديمقراطيّة نحو ديكتاتوريّةٍ تستقوي بامتلاكها زمام هذه الثورة.
من سمات الارتقاء في سلّم الحضارة سوسيولوجيّاً، الانتقال من التضامن الآلي الذي يَسمُ المُجتمعات التقليديّة، حيث لا يتمايز الأفراد في ما بينهم، بل تتشابه وظائفهم ويتقاسـمون المَشـاعر والمُعتقدات والقيَم ذاتها، إلى التضامن العضوي، الذي تتَّصِف به المُجتمعاتُ الحديثة، حيث تتمايز الأدوار والمواقع الاجتماعيّة بحسب تقسيم العمل، وتتمايز معها مُعتقدات الأفراد وتتنوَّع قيَمهم. ومن سمات هذا الارتقاء فلسفيّاً، تعزيز الجانب الروحيّ، القائم لدى فرانسيس بيكون (1561 - 1626) رائد الثورة العلميّة بين أواخر القرن السادس عشر وبداية القرن السابع عشر الميلادي، والمُدافِع الشرس عن العِلم، على الدّين والأخلاق، والقائم لدى كانط (1724 - 1804) على الواجب، بعيداً من المنفعة، وإنشاء جماعة الأخلاق وبلوغ دولة الأخلاق، ولدى هيغل (1770 - 1831) على المُمارسة الأخلاقيّة المُفترَض أن تتجسَّد في الأسرة والمجتمع المدني والدولة، حيث إنّ الدولة لديه، بوصفها تطوّراً للروح، هي حقيقة واقعيّة للفكرة الأخلاقيّة؛ فكانت الأخلاق العنصر الذي تقاطعت معه السوسيولوجيا والفلسفة بشكلٍ أساس.
ولأنّ التقدّم الحضاري هو ذو بُعدَيْن: عقلي وروحي، فقد تقاطعت في تأمّله والتفكّر فيه وتحليله السوسيولوجيا والفلسفة، وكان للأخلاق الرصيد الأكبر في ذلك. فالقـدرة الوحيدة التي تسـتطيع أن تحمل الأنانيّة الفرديّة على الاعـتدال، بحسب عالِم الاجتماع الفرنسي إميل دوركهايم (1858 - 1917)، هي أخلاقيّات الجماعة؛ كما أنّ القوّة الوحيدة التي يسـعها أن تحمل أنانيّة الجماعة على الاعـتدال هي قوّة أخلاقيّات الجماعة الأخرى، الأوسَع منها، حين تشملها وتشتمل عليها. ويستوجب التهديدُ بخطـرِ التفكُّك والفوضى الذي يواجهه كلّ مُجتمعٍ حـديث أو متحضِّر، بحسب عُلماء الاجتماع، قيامَ تنظيمٍ جماعي من شــأنه مُمارَسـة سلطة أخلاقيّة ووظيفة تربويّة على الأفراد، بقدر ما يستوجِب هذا التهديدُ لدى الفلاسفة قيامَ إطارٍ قانوني وإيجابي (القوانين الأخلاقيّة العقليّة لدى كانط، التنظيم العقلاني للدولة لدى هيغل وسيادة القانون...).
أمّا المدماك الأساس لقيام منظومةٍ أخلاقيّة وحضاريّة، فيتمثّل بمفهوم "الحقّ". فهو بحسب كانط، مجموع الشروط التي تُلائِم بين حرّيتنا وحرّية الغَير، وفقاً لناموسٍ شاملٍ للحرّية. وهو بالتالي لا يَنبني على القوّة والغرائز أو الهمجيّة أو البداوة الأولى، ولا يستقيم معها؛ لكنّ غيابه أو ازدواجيّة معاييره من شأنها أن تعود بالمُجتمعات إلى حالاتها الأولى وخلْخلة السِّلم والتضامن الاجتماعيَّيْن. ذلك أنّ القانون هو الضمانة لكلّ ما من شأنه تحويل الكيانات الاجتماعيّة، كالقبيلة والعشيرة، والطائفة، والعائلة وغيرها من الجماعات إلى كياناتٍ مهدِّدة للأمن الاجتماعيّ في حدود الكيان الأكبر أو مجاله، أي المُجتمع بكلّيّته.
واليوم، إذ تنحو المُجتمعات إلى أن تكون جماعات عصبيّة (طائفيّة ومذهبيّة وعرقيّة وعنصريّة وقوميّة وجنوسيّة وطبقيّة اجتماعيّة ولغويّة...إلخ) في أكثر من مكانٍ في العالَم، وبخاصّة في الشرق الأوسط والعالَم العربيّ، فلأنّ العَولَمة "حقَّقت نجاحاً في زيادة عنفوان العداوة والاقتتال بين الجماعات البشريّة يفوق نجاحها في تشجيع التعايُش السلميّ بينها" بحسب عالِم الاجتماع البولندي زيغمون باومان Zygmunt Bauman، وذلك في إطار "حداثة سائلة" هي برأيه "نفيٌ قطعيّ للحداثة الصَّلبة".
معاني التمايُز والفرديّة والحريّة وغيرها من المفاهيم، بما في ذلك مفهوم الحقّ، التي شكّلت مضمونَ الحداثة، اتّخذت أبعاداً وأشكالاً ومساراتٍ مختلفة عمّا أرادته منابعها وأصولها النظريّة، وانحرفت كذلك عن مضمونها الأخلاقي، وحتّى عن المآلات التي اتّخذتها قَبل قرنٍ أو أكثر من الزمن وصوَّبت النقد نحوها؛ إذ ما كان للثورة الصناعيّة أن تقوم لولا إفقار الطبقات الفقيرة واستغلالها، ولولا مُصادَرة خيرات البلدان غير الأوروبيّة في إفريقيا وآسيا ومناطق العالَم الأخرى عن طريق الاحتلالات والاستعمار المُباشر، وما كانت الحقوق قد استُبيحت في حربَيْن عالميّتَيْن، ومن ثمّة في حربٍ باردة، وساخنة أحياناً، بين الولايات المتّحدة والاتّحاد السوفياتي، كقطبَيْن عالَميَّيْن جديدَيْن أفرزتهما التغيّرات في خارطة صراع القوى بعد الحرب العالميّة الثانية.
التضامُن العضوي، سِمة المُجتمعات المعقّدة، وعنوان الحداثة، ولَّدَ اغتراباً ناشئاً عن ثورةٍ صناعيّة تحوّلت معها التقنيّة من وسيلةٍ إلى غاية. حينها، اعتبر الفيلسوف وعالِم الاجتماع الألماني جورج سيميل (1858 - 1918) أنّ الرؤية الماركسيّة للصراع بين قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج في المُجتمعات المعقّدة، لا تقتصر على المجال الاقتصادي وحده؛ إذ إنّ في كلّ مجالٍ من مجالات التمايُز الوظيفي، ثمّة تناقضٌ بين الطّاقات الإبداعيّة والهياكل المؤسّسيّة التي تحويها. لكن على الرّغم من ذلك، فإنّ العدّة الأداتيّة للإنتاج والعمل كانت حتّى ذلك الوقت، وبحسب ميشيل هنري، تتوفّر في الحياة ومن أجلها. بمعنى أنّ هذا التحوُّلَ ظلَّ متّصلاً بالغائيّة الحيويّة وإن نسبيّاً. كما أنّ الاستهلاكَ الاصطناعي وخَلْقَ حاجاتٍ جديدة، الذي حدّدته الرأسماليّة، لم ينقطع عن ذاتيّة الحياة، وهو السبب الذي حدا بكارل ماركس إلى اعتبار آليّة العمل هذه طريقةً لتطوُّرِ الحياة وإثرائها، أي عاملاً ثقافيّاً (ميشيل هنري، الهمجيّة. زمن عِلم بلا ثقافة، ترجمة جلال بدلة، 2022). في حين أنّ عالَم التكنولوجيا الحالي الذي يتكثّف فيه الإنتاج الموجَّه إلى السوق وتفقد العمليّةُ الإنتاجيّة معه كلّ قيمة غائيّة، يحرم الفرد من السعادة التي كان يضفيها عليه عمله، بوصفه عملاً ابتكاريّاً ومعرفيّاً له مردوده القيَمي. العالَم التقني بحسب ميشيل هنري "يتولّد ذاتيّاً ويسير على هواه، في غياب أيّ ضابط وغير عابئ بكلّ ما ليس هو، غير عابئ بالحياة".
بين أسطورة التكنولوجيا والديستوبيا
في الزّمن الرّاهن، لا تبدو القوى التي أفرزتها العَوْلَمة، المسلَّحة بقبْضِها على إنجازات الثورة الصناعيّة الرّابعة، وبإيديولوجيّتها حول منافع "التكنولوجيا"، على الرّغم من هذه المنافع وجوانبها الإيجابيّة، أفضل من ثقافات ما قبل الحداثة التي يسودها خطاب الأسطورة. وهي في حجم العنف الذي تستولده في العالَم ليست أفضل حالاً من مُجتمعات ما قبل الدولة. فواقع التحوُّل وتعقيداته الذي يكاد يختلف كليّاً عمّا شهدته البشريّة من قَبل، على المستويات الاقتصاديّة والسياسيّة والاجتماعيّة والثقافيّة كافّة، يجعل من أيّ خروجٍ أو انحرافٍ عن مساره، سواء بالنسبة إلى الأفراد أم المُجتمعات أم الدول، خروجاً يستحقّ التهميش والعقاب. عقاب سياسي (يكون بالعزْل)، عقاب اقتصادي (يكون بفرْض حصار، أو حرمانٍ من قروض)، أي كلّ عناصر ما يُسمّى بـ "الحرب الناعمة"، وصولاً إلى استخدام القوّة العسكريّة إذا لزم الأمر. وبحسب برتران بادي Bertrand Badi: "لم يحدُث في أيّ وقت من الأوقات أن انتظَمت الحياةُ الدوليّة إلى هذا الحدّ حول هكذا تضادٍّ في القيَم، ما أدّى إلى هَيْمَنةٍ مُتقاطِعةٍ أكثر من أيّ وقت مضى (..) من هنا، يلوح في الأُفق تساؤلٌ غامضٌ حول ما يُمكن أن يكونه عالَمُ أو نِظامُ ما بعد الهَيْمَنَة الدوليّ. من الواضح أنّه لن يكون أبداً جنّةَ عدن جديدة، بل سيكون من المُجازَفة والسذاجَة أن نتصوَّره كمدينةٍ فاضلةٍ جديدة يعمُّها السلام، أو حكومة عالَميّة، أو حتّى مجرّد مرحلة جديدة على طريقِ تقدُّمٍ مُستبعد. سواء كانت يوتوبيا جديدة أم سرداً جديداً، فإنّ حقبة ما بعد الهَيْمَنَة تُفهم كترجمةٍ عمليّةٍ وغير واضحة المعالِم للعَوْلَمَة، تَرى في الترابُط والاندماج والحركيّة مُعطياتٍ أساسيّة جديدة لا يُمكن القفز فوقها، في مقابل ثوابت سابقة تمثّلت بالسيادة، والانقسام الحضاريّ والإقليميّة. أترانا أمام مزايا جديدة أو أوهامٍ جديدة؟" (برتران بادي، الهَيْمَنَة على المِحَكّ. الأشكالُ الجديدةُ للسيطرةِ الدوليّة، ترجمة جان ماجد جبّور، بيروت، مؤسّسة الفكر العربي، تحت الطبع).
خطاب التكنولوجيا، بوصفه أيديولوجيّة القوى العالميّة الرّاهنة، يَعِدُ بتغيير الطريقة التي نعيش ونعمل ونرتبط بها بعضنا ببعض. يوتوبيا جديدة تَعِدُ بمستقبلٍ مُشرقٍ للبشريّة عماده التقنيّة؛ فيما هي - أي التقنيّة - تكرِّس، بحسب ميشيل هنري، "انفجار العِلم وهلاك الإنسان"، لقدرتها على "تقويض سائر القيَم الأخرى والثقافة وإنسانيّة الإنسان"، ولقدرتها على تعطيل الحياة وإلزاماتها ونُظمها، ما جعلها "أشدّ أشكال الهمجيّة تطرّفاً ولاإنسانيّةً عرفتها البشريّة، بل هي الجنون عَينه". والتكنولوجيا بحسب أسماء حسين ملكاوي ما هي إلّا أسطورة جديدة تدّعي تقريبها بين الأفراد والشعوب والأُمم وتواصلهم في ما بينهم، في حين أنّها ثورة تواصل واتّصالات تشير إلى تقدٍّم في تقانة التواصل وليس في التواصل. فقد مكَّنت شبكاتُ التواصل أيّ شخص "من الدخول والمُشارَكة في النّقاش، والإدلاء برأيه من دون أن تكون لديه الخبرة والكفاءة، ومن دون أن يكشف عن هويّته الحقيقيّة ومكان وجوده (..) أصبح الناس يختبئون الآن خلف شاشات حواسيبهم، حيث يُمكنهم نشر آرائهم لملايين الناس من دون الكشف عن هويّتهم، الأمر الذي يؤدّي إلى تحميل الإنترنت بملايين الآراء والمعلومات التي تفتقد الالتزام والحسّ بالمسؤوليّة" (أسماء حسين ملكاوي، أخلاقيّات التواصل في العصر الرقمي هبرماس أنموذجاً، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2017).
هذا ناهيك بأنّ الشبكات الاجتماعيّة ومواقع التواصل (مثل تويتر وفيسبوك وإنستغرام)، وبوصفها مواقعَ للّقاء الافتراضي وتبادُل الآراء، قد أضحت مكاناً يتكوّن فيه "عقل جمعي"، من خلال المنشورات المُتتابعة، بحيث إنّ "هذا الفكر التراكمي السريع الذي يُبلوِر - بسرعة وبدقّة - موضوعاً محدَّداً، نجح في اختصار مسيرةٍ طويلة كان تبادُل الفكر فيها يتطلَّب أجيالاً من التفاعُل (المناظرات والخطابات والمُراسلات والكُتب والنشر والتوزيع والقراءة والنقد ونقد النقد). ورغم كلّ هذه الفُرص، فقد نجحت هذه المواقع في ترميز التافهين، كما يقال، أي تحويلهم الى رموز" (ألان دوفو، نظام التفاهة، ترجمة وتعليق مشاعل الهاجري، 2020).
جدلٌ قديم وجديد حول العِلم والقيَم، يعود بقوّة ليفرض نفسه في حقل الفلسفة والعلوم الإنسانيّة كافّة، لكنّه أكثر حدّة في ظلّ "ثورة صناعيّة رابعة" اعتُبرت الحلقة الأخيرة من سلسلة الثورات الصناعيّة، بشَّرَ كلاوس شواب، المؤسِّس والرئيس التنفيذي للمنتدى الاقتصادي العالَمي في دافوس في العام 2016، بأنّ مفاعيلها ستكون مُختلفة - بالمعنى الإيجابي - عمّا شهدته البشريّة من قَبل؛ في حين أنّ قلقاً مُتعاظماً يسود حول حجم الهاوية التي يُمكن أن يصل إليها العالَم، بتكنولوجيّته التي لم يسبق للبشريّة أن بلغتها من قَبل، وبعد كلّ ما بدا ويبدو من ملامِح شيْطَانيّة تذوي معها قيمة "الحقّ" كقيمة أساسيّة من قيَم المنظومة الأخلاقيّة التي تصون الإنسانَ والأُممَ في وجودهما وكينونتهما.
*مؤسّسة الفكر العربي