الجنس البشريّ.. هل يستحقّ الذكاء الممنوح له؟!

news image

د. أحمد شعلان*

"ليست سوى برهة خاطفة..." هذا ما يمثّله تاريخ ظهور البشر على كوكب الأرض نسبةً إلى عُمر الأرض المديد، بحسب الفلكيّ الكنديّ الشهير "هوبير ريف". فقد تشكَّلت الأرض في المنظومة الشمسيّة منذ حوالي 4.6 مليار سنة، ثمّ ظهرت الحياة عليها منذ أكثر من مليار عام. أمّا الجنس البشري فلم يظهر إلّا منذ أقلّ من 3 مليون سنة، لذلك يُعتبر مسألة حديثة جدّاً.

وإذا كان الذكاء البشري قد انتقل من مرحلة المهارات الفرديّة الى مرحلة البناء الحضاري منذ حوالي عشرة آلاف سنة، فليس سوى في القرن الأخير حَدَثَ أن بدأنا نعي الأزمنة الضاربة في القِدَم لظهور الحياة في تاريخ كوكب الأرض، وأنّنا كبشر لسنا أكثر من ضيوف طارئين، وأنّنا فِعلُ ولادةِ اللّحظاتِ الأخيرة على هذا الكوكب.

وكان الكاتب الأميركي المعروف، "مارك توين"، في مُحاكاةٍ لحداثة وجود الإنسان على كوكب الأرض، قد قارَنَ تاريخ البشر نسبةً إلى تاريخ الحياة على الأرض، "مثل سماكة الدهان في أعلى برج إيفل الفرنسي نسبة إلى ارتفاعه الشاهق". لذلك، يستنتج توين، أنّ تاريخ حياة البشر هو بلا معنى على المستوى الكوني.

تنامي الذكاء البشريّ وصولاً إلى مرحلة الوعي

بفضل معارفنا العلميّة المُعاصِرة، لدينا رؤية مختلفة عن الوضع اليوم. بات بإمكاننا تتبُّع المسيرة الطويلة لتطوُّر الكون وتنامي تعقيد أحجاره الأوّليّة، بدءاً من الذرّة إلى الجزيّء إلى الخليّة الأوليّة، وحتّى ظهور الذكاء، ثمّ الوعي البشريَّيْن.

بتنا نحتسب العُمر المديد للنجوم التي تصنع في جوفها الذرّات الثقيلة التي تُشكِّل عظامنا وأعضاءنا. كما قسنا تنامي الأوكسيجين الضروري للحياة وتزايُد تركيزه في غلافنا الجوّي على مدى ملايين السنين. كما صار باستطاعتنا تقـفّي ظهور الأجسام الحيّة، وتزايُد تنظيم بنيتها، وتعقيدها، بدءاً من تلك التي خرجت من المياه إلى اليابسة، وصولاً إلى الجنس البشري.

كلّ فصل من فصول تطوُّر الحياة كان يمتدّ على مئات ملايين السنين، وقد تطلَّب الأمر، إضافةً إلى الذكاء البشري، كلّ تلك الأبحاث والمعارف للوصول إلى مرحلة الوعي.

إنّ تاريخ الكون هو تاريخ المادّة التي تنتظم وتستفيق وتدبّ فيها الروح والطّاقة. ففي البداية، بعد "الانفجار العظيم"، البِغ بانغ، لم يكُن يوجد سوى مجموعة من الجسيمات البسيطة من دون أيّة هيكلة، تتصادم وتشرد في كلّ اتّجاه مثل كراتِ البليارد على الطاولة الخضراء. ثمّ، ومع الانخفاض التدريجي لحرارة الفضاء، تقاربت هذه الجسيمات واتَّحدت، لتبدأ مرحلة هندسة المادّة وتطوُّر الكون.

عِلم الفيزياء يتيح لنا فهم هذا التطوُّر؛ فانطلاقاً من الجسيمات الأوّليّة النّاتجة عن الانفجار الأوّلي، تشكَّلت أنويّة الذرّات في قلب النجوم؛ ثمّ بعد قذْفها في الفضاءات الفلكيّة الشاسعة، لبست هذه الأنويّة رداءها الإلكتروني وتحوَّلت إلى ذرّاتٍ صلبة. إنّ التقدُّم الملحوظ في عِلم الفلك الراديوي، وفي البيولوجيا الجزيئيّة، يُتيح لنا إعادة رسْم المراحل الكبرى للتطوُّر الكيميائي بين النجوم، وعلى الكواكب الأولى. وأخيراً، على خطى داروين، سوف نرى شجرة العائلة الكبرى للكائنات الحيّة على الأرض تنتصب أمامنا بإرادة مهندسٍ أعلى خالق. انطلاقاً من هذا الخلق - المعجزة، تأخذنا نظريّة التطوُّر البيولوجي من عالَم البكتيريا حتّى ظهور الذكاء البشري.

فاعتماداً على سلسلات التطوُّر النووي والكميائي والبيولوجي، بات بإمكاننا اليوم إعادة تشكيل أوديسة خلق الكون:

التطوُّر النووي: من الجسيمات الأوّليّة إلى الذرات، في المرجل الأوّلي النووي في قلب النجوم.

التطوُّر الكيميائي: من الذرّات إلى الجزيئات، في الفضاء وفي المحيط المائي الأوّلي على الأرض.

التطوُّر البيولوجي: من الجزيئات إلى الخلايا، إلى النبات والحيوان: في المحيطات والقارّات.

التطوُّر الأنتروبولوجي: من الخلايا الجينيّة إلى مفاعيل الوراثة والذكاء والتناسُل....

انطلاقاً من هذه التأمّلات في معجزة الخلق وترابُط الأجرام الكونيّة من الذرّات حتّى المجرّات العظمى، نشعر بصلة القربى العميقة تجاه كلّ ما في الكون. فالإنسان تحدَّر من الفقريّات الأوائل، والفقريّات من الخلايا، والخلايا من الجزيئات، والجزيئات من الذرّات، والذرّات من الجسيمات النوويّة الأوّليّة... لقد تتالت ولاداتنا منذ الانفجار الأوّلي، ثمّ في قلب النجوم، ثمّ في الأفلاك الشاسعة، وصولاً إلى كوكب الأرض الذي بات يضجّ بالحياة.

وبالعودة إلى "توين"، فإنّ حجّته - حول أنّ برهة وجودنا القصيرة تجعل من حياتنا بلا معنى – تبدو باطلة. فالبشريّة قد استندت إلى كلّ مسيرة التطوُّر التي سبقتها، والذكاء البشري هو بمثابة الثمرة الثمينة لشجرة الكون التي طال انتظار نموّها الطويل والبطيء. وبإمكاننا القول إنّ عمرنا الكامل هو من عمر الكون كلّه، حوالي أربعة عشر مليارٍ من السنين، انطلاقاً من بيضة الكون الأولى، "البغ بانغ"، مروراً بتشكُّل المجرّات والنجوم والكواكب، حتّى يومنا هذا.

لكنّ عبثيّة "توين" في الحطّ من قيمة "البرهة البشريّة" تُصبح مسألةً قابلة للنقاش إذا ما أخذنا بعَيْن الاعتبار سلوك البشر وحروبهم والأزمات البيئيّة المُعاصرة التي تهدِّد مصير الكوكب، ودَور الجنس البشري فيها.

فبضعة قرون من الثورات الصناعيّة كانت كافية كي تتمكّن البشريّة من إفشال ذاتها، محوِّلةً إلى حطامٍ بيئي قسماً من الحياة الحيوانيّة والنباتيّة. إنّ الشروط الحيويّة للحياة التي احتاج كوكب الأرض مليارات السنين لإنجازها، بدأنا، كغزاة اللّحظة الأخيرة، بتدميرها بشكلٍ متسارع، مشوّهين المحيط الهوائي بالغازات الكربونيّة والكبريتيّة الصناعيّة، ومتسبّبين بازدياد حمضيّة (أسيديّة) المُحيطات المائيّة بشكلٍ مخيف. هذا ويجدر التذكير بالإمكانيّات النوويّة الهائلة لمُعسكر الدول النوويّة، إمكانيّات تكفي للقضاء على كلّ أشكال الحياة على الأرض مرّات عدّة. وعلى الرّغم من اختبار التوحُّش النووي في إبادة مدينتَيْن يابانيّتَيْن في العام 1945 ميلاديّة، لم ترتدع دول الصفّ الأوّل عن السباق إلى امتلاك العدد الأكبر من الرؤوس النوويّة المدمِّرة والتهديد باستخدامها في الحروب القادمة.

تشويه منظومة القيَم الفطريّة

سلوك البشر العدواني لا يقتصر على البيئة والأمن الإنسانيَّين فقط، بل يتعدّاه إلى خلق الله في الجسد، ووظائفه، وفي القيَم الإلهيّة الفطريّة التي طُبع عليها الإنسان منذ ولادته، وذلك تحت مسمّى التطوُّر العلمي وحريّة الاختيار.

فقد بتنا نسمع بالذين يختارون أن يغيّروا جنسهم من ذكرٍ إلى أنثى أو العكس، من دون أيّ رادعٍ قانوني أو شرعي أو اجتماعي.. وبات الإجهاض مسألة حريّة تَرفع شعاره نساءٌ في كثير من دول العالَم. ولم تعُد المثليّة الجنسيّة جرماً أو خطيئة بل باتت هناك سياسة ترويج ترعاها وتزيِّن لها دولٌ كبيرة وتُحاول فرضها ونشرها في العالَم... وبات هناك وزراء ونوّاب وشخصيّات من الدرجات العليا، في مجتمعات الغرب بخاصّة، يتقصّدون الظهور إعلاميّاً والتباهي بالزواج المثلي، بعدما شرّعته دولهم، وتغاضت الكنيسة عن سلوكهم هذا. وبات هناك في برلمانات الغرب المتقدّم وحكوماته مَن يقترح تشريع إنجاب الأطفال من دون أب! حتّى أنّ تجربة طفل الأنبوب، الناجحة علميّاً، بات يؤسَّس عليها لبناء مزارع لإنتاج بل "تفقيس" أطفال الأنبوب بالآلاف في مُختبراتٍ متخصّصة، في مستقبلٍ ليس ببعيد!

لقد حفر الله غاياته من خلق الإنسان في تكوينه البيولوجي، ووظائف أعضائه، ليبني عليها منظومة القيَم الفطريّة الإلهيّة البديهيّة. فجعَلَ الجوع لغةً فيزيولوجيّة يفهمها كلّ كائن حيّ فيُبادِر إلى الغذاء. وجَعَلَ الرغبة بالجنس الآخر نداءً يتأسَّس على تلبيته التناسلُ بغية استمرار الخلق وتطوُّره...

وليس خافياً على أحد أنّ هناك جهةً دوليّة قادرة تخطِّط لتشويه كلّ منظومة القيَم الفطريّة، والاتّجاه بالجنس البشري إلى مستقبلٍ مجهول... مستقبل بتنا نتلمّس بداياته، ولكنّنا لا ندرك المصير الذي نُقادُ إليه.

هل الذكاء البشريّ هديّة مسمومة؟!

إنّ ظهورنا البشري "المُفاجئ" كقوّة كبيرة في هذه "البرهة" الأخيرة من تاريخ كوكب الأرض، والتهديد الذي بات سريعاً، يلقي بثقله على مستقبل الحياة البشريّة في الدّرجة الأولى، وعلى بيئة الأرض وطبيعتها ومصير بقيّة الكائنات الحيّة، التهديد هذا يكفي لإثبات "وزن" الجنس البشري وخطره الكبير في سياق تطوُّر الحياة على الأرض، حتّى ولو أتى هذا الظهور متأخّراً: كما بضع ثوانٍ في روزنامةٍ سنويّة!

علينا اليوم مسؤوليّة التعاطي بجديّة قصوى مع هذا التهديد الذي بتنا نمثّله على حياتنا، وحياة كلّ المخلوقات الحيّة التي تتناسل على كوكب الأرض منذ مئات ملايين السنين قبلنا، من دون أن تؤذي بيئته وبنيته.

إنّ قيمة وجودنا الذكيّ في البرهة القصيرة الأخيرة من تاريخ الأرض هي في المدّة التي سوف يستمرّ خلالها هذا الوجود، وفي إعمال ذكائنا لإزالة التهديد الذي بتنا نشكّله على بيئة الأرض والحياة عليها. وهنا يفرض السؤال نفسه: كم من الوقت يُمكن أن تبقى حضارة متطوِّرة تكنولوجيّاً قبل أن تدمّرها قوّتها النوويّة؟

إنّ مدّة بقائنا المستقبلي على الأرض يجب أن تكون في قلب اهتماماتنا البيئيّة، وسلوكيّاتنا الاجتماعيّة، وتماهينا مع القيَم الإنسانيّة البديهيّة. وهي هذه المدّة التي تقرِّر ما إذا كان الذكاء الذي بدأ مع جدودنا الأوائل، "الهوموسابينيس"، هديّة مسمومة أم لا.

*ممثِّل لبنان في الاتّحاد الفلكيّ الدوليّ  -  مؤسسة الفكر العربي