تَوجُهاتٌ أوروبية للخروج من المظلّة الأمريكية..

news image

 

هل تؤدي الحرب الروسية على أوكرانيا إلى تمَرُّدٍ أوروبي على الولايات المتحدة؟  
تقرير - مروة شاهين - بث: 
منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، تعيش القارة الأوروبية في ظل حالة من التبعية المطلقة للولايات المتحدة الأمريكية، سواء اقتصادياً عبر المؤسسات المالية الأميركية التي أقرضت الدول الأوروبية مبالغ طائلة للخروج الدمار الذي خلفته الحرب، أو سياسياً و عسكرياً عبر حلف شمال الأطلسي الذي كان و لا يزال الضامن الوحيد للأمن الأوروبي في وجه أي اعتداءات خارجية سواء من روسيا أو غيرها. 
و لطالما أدت التوترات و الخلافات بين الاوروبيين و الأميركيين إلى زعزعة استقرار العلاقات الأوروبية الأميركية، و لهذه الحالة أمثلة كثيرة آخرها التوتر الذي أحدثه عهد الرئيس ترامب بسبب السياسات التي اتبعتها الإدارة الأمريكية حينها لجهة تفضيل المصالح الأمريكية على مصالح الحلفاء، و قد تمثل هذا بالعديد من الخطوات كخروج ترامب من الاتفاق النووي الإيراني و من اتفاقية باريس للمناخ و من معاهدة الأسلحة المتوسطة مع روسيا و توجهات الإدارة الأمريكية حينها إلى خفض التواجد العسكري الأميركي في أوروبا. 
و كنتيجة لذلك، برزت العديد من التوجهات الأوروبية التي دعت إلى تعزيز استقلالية الاتحاد الأوروبي من جميع النواحي سواء الاقتصادية أم السياسة ام العسكرية و توسيع نفوذه و امتداده ليشمل دولاً أوروبية جديدة ليست عضوة في الاتحاد، بما يضمن للاتحاد الأوروبي الحصول على مزيد من القوة السياسية و الاقتصادية. 


الحلم الأوروبي.. من الفكرة إلى محاولة التطبيق:
إذ دعا المستشار الألماني أولاف شولتز إلى توسيع الاتحاد الأوروبي، وإلى إجراء إصلاحات فيه حتى يستطيع ضمّ أعضاء جدد، والوفاء بوعده للدول المرشحة.
وقال شولتز لتجمع من الديمقراطيين الاشتراكيين الأوروبيين إن الاتحاد الذي يضم حاليا 27 عضوا سيكون قادرا بعد ذلك على زيادة نفوذه في الشؤون العالمية، مشيرا إلى أن "استمرار نمو الاتحاد الأوروبي باتجاه الشرق مكسب لنا جميعا".
وجعل المستشار الألماني توسيع الاتحاد الأوروبي، ليشمل دول البلقان ودولا أخرى، بندا رئيسا في سياسته الخارجية منذ توليه منصبه. وصار هذا الأمر أكثر إلحاحا منذ بدء الحرب الروسية في أوكرانيا التي صارت مرشحة لعضوية الاتحاد الأوروبي في صيف هذا العام.
وقال شولتز في الاجتماع "يمكن أن يصبح للاتحاد الأوروبي ثقل أكبر في العالم.. إذا ضم 30 أو 36 دولة ينعم بها أكثر من 500 مليون مواطن بالحرية والعدل"، مشيرا إلى أنه لا يجوز إغفال مخاوف الدول الأعضاء الأصغر على وجه الخصوص، "ويجب في المستقبل أيضا الاستماع إلى مطالب كل دولة، وأي شيء عدا ذلك سيكون خيانة للفكرة الأوروبية".
كما دعا إلى الإلغاء التدريجي لمبدأ الإجماع في اتخاذ القرارات فيما يتعلق بالسياسة الخارجية، وأيضا في مجالات أخرى مثل سياسة الضرائب.
وفي معرض حديثه عن الإصلاحات التي يطالب بها، قال شولتز إنه يدرك أنه يجب القيام بكثير من العمل في هذا الشأن لإقناع المعنيين، "لكنني أقول بوضوح أيضا: إذا كانت أوروبا الجيوسياسية هي مطلبنا فإن قرارات الأغلبية ستكون عندئذ مكسبا وليست خسارة للسيادة".
ويشارك في مؤتمر الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية في أوروبا نحو 300 مندوب وأكثر من ألف ضيف، بينهم العديد من رؤساء الحكومات والعديد من رؤساء الأحزاب وبعض المفوضين الأوروبيين. ويضم تجمع الاشتراكيين الديمقراطيين الأوروبيين 33 حزبا اشتراكيا ديمقراطيا في أوروبا.
و لكي لا يحدث اي خلط في المفاهيم او يغلب على الظن أن هذه الأحزاب الاشتراكية لها صلة إيديولوجية بروسيا، يتوجب التوضيح ان الديمقراطية الاشتراكية تختلف عن الاشتراكية البحتة في كونها تؤكد على الطابع الديمقراطي لميولها السياسية، اذ ترفض الاشتراكية الديمقراطية كافة أشكال التنظيم المركزية التي تلجأ إليها الأحزاب الشيوعية اللينينة، أي نموذج الأحزاب الاشتراكية التي كانت موجودة في الاتحاد السوفيتي السابق، و بالتالي فلا صلات وطيدة بين الحركات الاشتراكية الديمقراطية التي ظهرت في أوروبا و بين الإيديولوجيا الشيوعية التي كانت معتمدة في الاتحاد السوفيتي، أي لا ارتباط إيديولوجي بين هذه الأحزاب و بين روسيا التي حافظت على صلاتها بالدول الشيوعية و الأحزاب الشيوعية و الاشتراكية بعد انهيار الاتحاد السوفيتي كعلاقتها مع الصين و كوريا الشمالية و حزب البعث العربي الاشتراكي في سوريا.


انسجام فرنسي ألماني حول فكرة توسيع نفوذ أوروبا:
اذ أن توسيع نفوذ الاتحاد الأوروبي و توسيع رقعته لتشمل دولاً أكثر من الدول التي الدول التي تشكله اليوم و هي ٢٧ دولة ( كانت ٢٨ قبل خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي)، لم تكن فكرة مستجدة تطرح للمرة الأولى، إذ كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون سبّاقاً في الدعوة إلى شدِّ العضُد الأوروبي و الحفاظ على الوحدة الأوروبية بما يسمح بتقوية الروابط بين دول القارة بما يجعلها قادرة على لعب دور أكبر على المسرح الدولي في جميع الجوانب سواء الاقتصادية أم السياسة ام العسكرية.
إذ دعا الرئيس الفرنسي في خطاب ألقاه منذ أسابيع قليلة بمناسبة "يوم أوروبا" في البرلمان الأوروربي بمدينة ستراسبورغ الفرنسية إلى ما يمكن وصفه بإعادة تشكيل بنية الاتحاد الأوروبي بما يسمح بضم عدد أكبر من الدول و بالتالي زيادة حجم القوة الاقتصادية و السياسة الأوروبية. 
و  أكد ماكرون إن لديه التزاما تاريخيا بتشكيل منظمة أوروبية جديدة توفر للديمقراطيات الأوروبية فضاءً جديدا للتعاون في مجالات السياسة والأمن والطاقة والنقل والاستثمار والبنية التحتية وتنقل الأشخاص.
وفي يونيو/حزيران 2022، عرض ماكرون رسميا مقترح إنشاء المجموعة خلال اجتماع للمجلس الأوروبي.
و بالفعل، تشكلت المجموعة السياسية الأوروبية (European Political Community) عام 2022، وكان اجتماعها الأول في السادس من أكتوبر/تشرين الأول في العاصمة التشيكية براغ بمشاركة 44 دولة من الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي وخارجه بمثابة انطلاقتها الرسمية، وجاء الإعلان عن تشكيل هذه المنصة في خضم صراع متنام مع روسيا بسبب الحرب التي تشنها على أوكرانيا منذ 24 فبراير/شباط الماضي. 
ما هي المجموعة السياسية الأوروبية و ما هي أهدافها:
المجموعة السياسية الأوروبية عبارة عن منصة أوروبية جديدة، هدفها التنسيق السياسي بشأن التحديات الأمنية والاقتصادية المشتركة، ولا تدخل في إطار هياكل الاتحاد الأوروبي التقليدية.
و تكمن الأهداف الرئيسية للمجموعة في تعزيز الحوار السياسي، ومعالجة القضايا ذات الاهتمام المشترك، وتعزيز الأمن والاستقرار والرخاء في أوروبا.
ومن بين أهداف تشكيل هذا التجمع الإقليمي توسيع مناقشة القضايا الإستراتيجية نحو شركاء أوروبيين آخرين، باعتبار أن التحديات الراهنة لا تقتصر على دول الاتحاد الأوروبي فقط. 
وكان على أجندة الاجتماع الأول لقادة المجموعة في العاصمة التشيكية ملفات الأمن والسلام والتهديدات الأمنية والأزمات التي تواجهها أوروبا في مجالات الطاقة والمناخ والاقتصاد والهجرة.
ووفقا لمسؤول السياسة الخارجية والأمن في الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل، كان على أجندة القمة عزل روسيا على الساحة الدولية، وإمكانية البحث عن نظام دولي جديد يستثنيها في ظل وجود بوتين.
ما هي الدول التي يهدف الاتحاد الأوروبي إلى دمجها سياسياً و اقتصادياً في الاتحاد:
إذ ضمت المجموعة السياسية الأوروبية الدول الـ27 الأعضاء في الاتحاد الأوروبي وكلا من ألبانيا وأرمينيا وأذربيجان والبوسنة وجورجيا وآيسلندا وكوسوفو وليختنشتاين ومولدوفا والجبل الأسود (مونتنيغرو) ومقدونيا الشمالية والنرويج وصربيا وسويسرا وتركيا وأوكرانيا والمملكة المتحدة.
وفي المقابل تم استبعاد كل من روسيا وبيلاروسيا بسبب الحرب التي تشنها الأولى على أوكرانيا ودعم الثانية لها في هذه الحرب.
والعديد من الدول الأعضاء في المجموعة السياسية الأوروبية تسعى للانضمام للاتحاد الأوروبي، ومنها أوكرانيا التي مُنحت في يونيو/حزيران 2022 صفة الدولة المرشحة لعضوية الاتحاد، بالإضافة إلى دول غرب البلقان (ألبانيا ومقدونيا الشمالية وكوسوفو وصربيا والبوسنة) وجورجيا ومولدوفا تركيا.
من المجموعة السياسية الأوروبية إلى تشكيل جيش أوروبي.. هل تُصبح أوروبا قوة عسكرية تضاهي حلف شمال الأطلسي ؟:
إذ طالب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الاتحاد الأوروبي بتأسيس جيش موحد للدفاع عن نفسه بمواجهة تهديدات عسكرية قائمة، وأخرى قادمة ذكر أن روسيا قد تصبح أخطرها.
و قال ماكرون في حديث مع إذاعة راديو أوروبا الأول، إن الأوروبيين بدون جيشهم الحقيقي لن يكون بمقدورهم الدفاع عن أنفسهم بمواجهة تهديدات خطيرة.
وأضاف "فيما يتعلق بروسيا الواقعة على حدودنا والمحتمل تحولها لتهديد خطير، لا ينبغي على الأوروبيين الاعتماد بمواجهة هذا التهديد على الولايات المتحدة وحدها".
وبرر ماكرون مطلب المسارعة بتأسيس جيش أوروبي بالتحذير من صعود قوى "سلطوية" وتسابقها بالتسلح على الحدود مع أوروبا، واعتبر أن الأوروبيين "يتوجب عليهم الدفاع عن أنفسهم بمواجهة روسيا والصين وحتى الولايات المتحدة".
يُذكر أن الدعوة لتأسيس جيش أوروبي موحد انطلقت من فرنسا عام 1950، وأخذ الجدل حولها بعدا تصاعديا منذ عام 2000، ويقصد بهذا الجيش تحالف دفاعي بين الدول أعضاء الاتحاد على غرار حلف شمال الأطلسي (ناتو) وتطوير هذا الحلف إلى قوات أوروبية موحدة تديرها وزارة دفاع أوروبية موحدة.
وكان أعضاء الاتحاد -باستثناء بريطانيا والدانمارك ومالطا- قد اتفقوا في ديسمبر/كانون الأول 2017 على تشكيل آلية الدفاع الأوروبية الدائمة (بيسكو). 
وبموازاة تشكيل هذه الآلية، عرضت تركيا مشاركتها بتشكيل جيش أوروبي موحد بنحو ستين ألف جندي بمجرد انضمامها لعضوية الاتحاد الأوروبي.


روسيا تعتبر التحالفات العسكرية الغربية استهدافاً مباشراً لأمنها القومي:
إذ حذر الرئيس الروسي من تدخل عسكري مباشر لحلف الناتو في حرب أوكرانيا، واصفا هذا السيناريو في حال حدوثه بأنه ضرب من الجنون.
وأضاف أن الصدام المباشر بين الناتو والجيش الروسي خطوة خطيرة للغاية، ستؤدي إلى كارثة عالمية، يجب أن تكون مجنونا حتى تقوم بخطوة من هذا النوع، وآمل أن يكونوا أذكياء بما يكفي لعدم تحملها.
ووفقا للرئيس الروسي، فإنه يجب أن تنتهي التعبئة العسكرية الجزئية الخاصة بأوكرانيا خلال أسبوعين، لأن خط المواجهة طويل للغاية لدرجة يصعب معها على جنود الجيش الدفاع عنه.
من جانبه، قال سيرغي ريابكوف نائب وزير الخارجية الروسي إن حلف الناتو كان قادرا على منع وقوع النزاع في أوكرانيا، لكنه دفع كييف نحو التصعيد مع موسكو.
وأضاف أن الناتو مستمر بالتصعيد في الأزمة الأوكرانية ويرفع من حجم المخاطرة، مشددا على أن الحلف انهزم فعليا في أوكرانيا نتيجة فشل مشروعه المعادي لروسيا.
و بالسنة للمجموعة السياسية الأوروبية، قال وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف  إن فكرة إنشاء هذا التجمع الأوروبي تستهدف مناهضة روسيا. 
و كانت محاولات انشاء جيش أوروبي موحد تخضع لحالة من الركود و المماطلة من قبل الدول الأوروبية، إلى حين بدء الغزو الروسي لأوكرانيا و الذي أعاد تحريك الهواجس الأمنية الأوروبية من جديد، مما جعل فكرة إنشاء جيش أوروبي موحد و وزارة دفاع موحدة مسألة حتمية بالنسبة للأمن الأوروبي، إذ أكدت مسارات الصراع في أوكرانيا الأوروبيين إن الولايات المتحدة الأمريكية لم تعد قادرة على حماية حلفائها بنفس الفعالية التي كانت عليها في العقود السابقة.

 
ما هو الشكل الذي يمكن أن يكون عليه الجيش الأوروبي الموحد:
على المستوى البشري،ان الجيش الأوروبي الموحد المُزمع انشائه يمكن أن يتألف من ما اجماله نصف مليون جندي، و قد يزيد هذا العدد إذ ما تم ضم دول جديدة إلى الاتحاد الأوروبي. 
و على الصعيد التقني، فإن الجيش الأوروبي الموحد سيكون على مستوى عالٍ من التسليح و التنظيم، إذ أن التقنيات و الصناعات العسكرية الأوروبية متقدمة جداً، فضلاً عن كون فرنسا و هي الدولة التي شكلت نواة فكرة الدفاع الأوروبي المشترك دولة نووية ذات جيش متقدم قوي في جميع المجالات، إضافة إلى الآلة الصناعية الألمانية التي سوف تشكل عامل دعم قوي للجيش الأوروبي في حال نشأته. 
في حال ولادة الجيش الأوروبي، هل سيكون قادراً على الدفاع عن أوروبا:
إن أوروبا بلا شك، تعتبر كتلة اقتصادية و صناعية و عسكرية ضخمة لا مثيل لها، و لكن الحديث عن القدرة الدفاعية للجيش الأوروبي الموحد يبقى خاضعاً لعوامل مؤثرة كثيرة منها عامل التمويل، إذ بناء قدرات عسكرية ضخمة للجيش الأوروبي سوف يحتاج إلى تمويل ضخم يمكن أن يستنزف خزائن الدول الأوروبية، إضافة إلى عامل التمويل يأتي عامل المساهمة البشرية في عديد الجنود و القوات الاحتياطية مسألة خلافية بين الدول الأوروبية. 
لا سيما أن الدول الأوروبية لديها نفقات عسكرية للمساهمة بميزانية حلف شمال الأطلسي فضلاً عن جنودها العاملين تحت قيادة الحلف، فضلاً عن أن السياسات الدفاعية و العسكرية للجيش الأوروبي الموحد، يجب أن تكون متوافقة و منسجمة مع حلف شمال الأطلسي الذي يعُد الحلف العسكري الرئيسي الذي يجمع الدول الغربية، و بالتالي فإن أي قرار أوروبي بالدخول في اي مواجهة عسكرية بواسطة الجيش الأوروبي الموحد سوف يكون لها تبعاتها على حلف شمال الأطلسي الذي يلزم الدول الأعضاء بالدفاع المباشر في حال تعرض اي من أعضائه للاعتداء المباشر او غير المباشر.

 
هل تشهد الفترة القادمة ولادة قوة عسكرية أوروبية؟ و ما هي العوائق التي تمنع تشكيل الجيش الأوروبي؟ :
ان الأوضاع الأمنية التي يشهدها العالم منذ بداية الأزمة الأوكرانية لم تترك لدى القادة الأوروبيين مجالاً للشك في ضرورة انشاء قوة عسكرية أوروبية مستقلة تكون قادرة على الدفاع عن الأمن الأوروبي بعيداً عن المظلة الأميركية، لا سيما بعد أن رأت الدول الأوروبية تساهل الولايات المتحدة الأمريكية مع روسيا عند غزوها لجورجيا في العام ٢٠٠٨ و غزوها لشبه جزيرة القرم الأوكرانية في العام ٢٠١٤ عدا عن ضآلة الدعم العسكري الأميركي نسبياً للقوات الأوكرانية و عدم اعتزام الولايات المتحدة الأمريكية خوض اي صراع عسكري مباشر للدفاع عن حلفائها، و قد تُرجمت هذه السياسات بانسحاب الولايات المتحدة الأمريكية من أفغانستان و عزمها على الانسحاب من العراق و تقليل انفاقها العسكري الخارجي بهدف الدفاع عن حلفائها، مما يعني أن سياسات الولايات المتحدة الأمريكية في الهادفة إلى الانعزال ضمن الأراضي الأمريكية و عدم لعب دور فاعل في الميدان العالمي عسكرياً وبطريقة مباشرة قد قلّل من ثقة أوروبا في مدى قدرة الولايات المتحدة الأمريكية على حماية الأمن الأوربي من اعتداء خارجي. 
و لكن بالرغم من ضرورة تشكيل قوة عسكرية أوروبية مستقلة للدفاع عن الأمن الأوروبي، فإن تشكيل مثل هذه القوة سوف يصطدم بالكثير من العقبات الداخلية و الخارجية التي قد يكون أبرزها:
أولاً: خلافات الدول الأوروبية على مسألة تحديد السياسات العسكرية و الدفاعية و الهجومية لهذا الجيش الجديد، لا سيما أن الدول الأوروبية لديها خلافات كثيرة في ما يتعلق بمسائل السياسات الخارجية و الدفاعية. 
ثانياً:  إشكالية التمويل، إذ أن إنشاء مثل هذه القوة العسكرية سوف يحتاج إلى رصد ميزانيات ضخمة من قبل الدول المؤلفة له، ما يمكن أن يسبب عبئاً اقتصادية على الاتحاد الأوروبي لا سيما في ظل حالة التضخم غير المسبوق التي تشهدها لأوروبا بسبب الحرب في أوكرانيا و نقص إمدادات الطاقة و ارتفاع أسعار النفط في الأسواق العالمية. 
ثالثاً: إشكالية مدى درجة استقلال الجيش الأوروبي في تحركاته العسكرية و سياساته الدفاعية لجهة كون القارة الأوروبية مكوناً رئيسياً لحلف شمال الأطلسي الذي يُلزم أعضائه بخضوع القطاعات العسكرية للتنسيق مع الحلف بشأن التحركات العسكرية. 
رابعاً: معارضة الولايات المتحدة الأمريكية لإنشاء مثل هذه القوة العسكرية التي ستجعل القارة الأوروبية مستقلة نسبياً عن الولايات المتحدة الأمريكية في مجال الأمن و الدفاع العسكري، ما يُنذر بإضعاف النفوذ الأميركي على أوروبا، لا سيما أن الولايات المتحدة الأمريكية قد أمضت عقوداً من الزمن في محاولات تثبيت نفوذها العسكري و الاقتصادي على الاتحاد الأوروبي. 
خامساً: معارضة روسيا لتكوين جيش أوروبي قد تكون إمكانياته موجهة ضدها بشكل مباشر، إذ أن عامل الخطر الروسي سيشكل معياراً رئيسياً العقيدة العسكرية للجيش الأوروبي، لا سيما بعد سلوك روسيا العدواني في شرق أوروبا و خصوصاً في أوكرانيا، ما يعني أن الاتحاد الأوروبي أصبح ينطُر إلى روسيا نظرة الغازي المحتمل و الذي يمكن أن يكرر سياساته تجاه أوكرانيا ضد دول أوروبية أخرى، ما يعني ضرورة توحد الأوروبيين ضد الخطر التوسعي الروسي. 
لقد كانت التداعيات التي واجهتها أوروبا في ظل الصراع العسكري في أوكرانيا و تصاعد التوتر العسكري و النووي في أوروبا الشرقية بالإضافة إلى أزمة الطاقة و الغذاء التي عانت منها دول الاتحاد الأوروبي بسبب العقوبات الاقتصادية التي فُرضت على روسيا سبباً رئيساً لتزعزع ثقة دول الاتحاد الأوروبي في قدرة الولايات المتحدة الأمريكية على تأمين الحماية لحلفائها في أوروبا بالإضافة إلى عدم تمكن الولايات المتحدة الأمريكية من تأمين بدائل لمصادر الطاقة الروسية من أجل القارة الأوروبية التي باتت اليوم معرضة لخطر التجمد من البرد بسبب قطع إمدادات الغاز الروسي عنها، فضلاً عن حالة الركود الاقتصادي التي تهدد اقتصاديات أوروبا بسبب نقص الطاقة و تساهل الولايات المتحدة الأمريكية في سياساتها العسكرية ضد روسيا التي باتت خطراً على الأمن الأوروبي. 
و بالتالي فإن كل هذه التطورات و التداعيات دفعت بأوروبا إلى العودة نحو النزعة الفردية و التفكير أكثر فأكثر من الخروج من تحت المظلة الأميركية التي بات الاوروبيون يعتقدون بأنها لم تعد فعالة كالسابق في حماية حلفائها من الأخطار التي تواجههم، فهل تكون الحرب الروسية على أوكرانيا هي القشة التي ستقسم ظهر التحالف الأوروبي الأميركي و النواة الأساسية لتشكيل قطب عالمي جديد يتمثل بالقارة الأوروبية بعيداً عن الارتباط بالولايات المتحدة الأمريكية و حلف شمال الأطلسي ؟!.