"حرب العقوبات".. والخسائر الاقتصاديّة
عدنان كريمة*
تختلف أرقام تقديرات أضرار العقوبات الغربيّة بقيادة الولايات المتّحدة ضدّ روسيا، والعقوبات الروسيّة المضادّة، مع خسائر الحرب الروسيّة ضدّ أوكرانيا، باختلاف مصادرها، وهي تتراوح بين 1.5 تريليون وتريليونَيْ دولار أميركيّ؛ وحتّى لو تفاوتت درجات الخسائر، فإنّ الجميع يكتوون بنار هذه الحرب التي دخلتْ شهرها التّاسع. ومع تذبْذُب الاقتصاد الأوكراني والعقوبات التي تخنق الصادرات الروسيّة والبيلاروسيّة، فإنّ "الصدمة الاقتصاديّة" ستنتشر على نطاقٍ واسعٍ مع تراكُم الأضرار وارتفاع حجْم الخسائر التي ستكون مدمّرة في بعض أجزاء العالَم بحلول نهاية العام الحاليّ. وذلك في ظلّ تراجُع نموّ الاقتصاد العالَميّ ومُعاناة نحو 49 مليوناً في 43 دولة من مخاطر "المجاعة"، وفي وقتٍ يُكافح فيه نحو 276 مليون شخص للعثور على الغذاء. الأمر الذي يُهدِّد الأمنَ الغذائيّ العالَميّ الذي سيكون مصدر القلق الأكبر في العام المُقبل، ويؤدّي إلى زعْزَعة الاستقرار وهجرةٍ جماعيّة. مع الإشارة الى حسابات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين التي تتوقَّع بعد انهيار إمدادات الحبوب، أن يفرّ الجائعون إلى أوروبا، بما يؤدّي الى زعْزَعة الاستقرارَ فيها، بتدفّقاتٍ جديدة من اللّاجئين، وتكثيف الضغط السياسيّ، حتّى تتخلّى الدولُ الغربيّة عن مَوقفها المُتشدِّد ضدّ روسيا.
لم يخضع اقتصادٌ في حجم روسيا منذ الثلاثينيّات لطائفةٍ واسعة من القيود التجاريّة كتلك التي تمَّ فرْضُها بسبب الغزو الروسي لأوكرانيا. ولكنْ على عكس إيطاليا واليابان في الثلاثينيّات، تُعَدّ روسيا حاليّاً من كبار مُصدّري النفط والغاز والحبوب، وتأتي في المرتبة الحادية عشرة ضمن أكبر اقتصادات العالَم. ونتيجةً لذلك أصبح للعقوبات تداعياتٌ اقتصاديّة أكبر كثيراً من السابق، ما ينبغي أن تكون مخاطر حجمها دافعاً لإعادة النظر في مفهومها، مع العلم أنّ العقوبات في العصر الحديث، لا تُشكِّل تهديداً مباشراً بقدر ما كان عليه الأمرُ في الثلاثينيّات، ما يحدّ من مخاطر التصعيد العسكري. ويبدو أنّ زيادة التكامُل بين الأسواق أفسحت المجال لانتشار الصدمات الناجمة عن العقوبات عبر مختلف أجزاء الاقتصاد العالَمي.
ويغدو حجْم العقوبات ضدّ روسيا أكثر وضوحاً بالنّظر إلى التاريخ الاقتصادي على مَدار القرن الماضي؛ فحتّى العقوبات الأكثر حدّة خلال فترة الحرب الباردة، مثل التي فَرَضَتها منظّمة الأُمم المتّحدة والبلدان الغربيّة ضدّ روديسيا (زمبابوي حاليّاً) وضدّ جنوب أفريقيا في عهد الفصل العنصري، أو العقوبات الأميركيّة على كوبا وإيران، لم تستهدف الاقتصادات الكبرى. حتّى أنّ بعض العقوبات المفروضة حاليّاً ضدّ إيران وكوريا الشماليّة وفنزويلّا، تُعَدّ أكثر صرامة مقارنةً بالعقوبات ضدّ روسيا، وإن كان وزن البلدان أقلّ كثيراً سواء في الاقتصاد العالَمي أم التجارة الدوليّة.
وبما أنّ روسيا تأتي في المرتبة الحادية عشرة ضمن أكبر اقتصادات العالَم، فإنّ تأثير العقوبات ضدّها، يُعَدّ من فئةٍ مُختلفة تماماً، كما أنّ دورها كأحد مُصدّري السلع الأوّليّة الرئيسيّين في مجموعة الأسواق الصاعدة، يضفي أهميّة هيكليّة على مركزها. علماً أنّ كلّ واحدة من ثلاث دول (الولايات المتّحدة وكندا وأستراليا) في مجموعة الاقتصادات المتقدّمة، هي التي تملك بصمةً مُماثلة في الاقتصاد العالَمي. وبفضل جهود تعزيز التكامُل خلال ما يزيد على عقدَيْن من الزمن، أصبحت روسيا من الاقتصادات شديدة الانفتاح، حيث سجَّلت نسبة التجارة إلى إجمالي النّاتج المحلّي لديها 46% وفق البيانات الصادرة عن البنك الدولي.
الاقتصاد الروسيّ
في نيسان (أبريل) الماضي، أي بعد شهرَين على الحرب الروسيّة ضدّ أوكرانيا، توقَّع صندوق النقد الدولي انكماشَ النّاتج المحلّي الإجمالي بنسبة 8.5%، ثمّ عدَّل مؤخّراً توقّعاته بأن يكون الانكماش بنسبة 6% خلال العام الحالي، وأن ينخفض في العام المُقبل إلى 3.5%. ووفقَ بيانٍ للبنك المركزي، سيتعمَّق الانكماش الاقتصادي في الربع الثالث من العام الحالي، بينما يتقلّص الفائض النقدي في حسابها الجاري، وهو المُحرِّك الرئيس لانتعاش الروبل في النصف الثاني من العام الحالي. ولكن بسبب الأزمة التي تواجهها سوق الصرف والمخاوف المتعلّقة بالنقد الأجنبي، تقرَّر تمديد القيود المفروضة على السحوبات النقديّة بالعملات الأجنبيّة لمدّة ستّة أشهر أخرى حتّى التاسع من آذار (مارس) 2023. وفي الوقت نفسه توقَّع أندريه كوستين رئيس بنك "في تي بي" وهو ثاني أكبر بنك في روسيا، أن تحتاج البنوك الروسيّة بين 7 الى 10 أعوام لشطب الخسائر الناتجة عن تجميد أصولها الأجنبيّة، مؤكِّداً أنّ 75% من قطاع البنوك الروسي تأثَّر بالعقوبات التي تمّ فرْضُها وأدَّت إلى تجميد مليارات الدولارات واليوروهات في بريطانيا وألمانيا وأميركا. وعلى الرّغم من أوهام الاكتفاء الذاتي وتعويض الواردات، رَسَمَ بعضُ الخبراء صورةً قاتمة بقولهم "توقَّف الإنتاجُ الروسي تماماً، وليست لديه القدرة على تعويض الشركات والمُنتجات والمهارات المفقودة". مع العِلم أنّ الشركات التي غادرت روسيا تُمثِّل نحو 40% من النّاتج المحلّي الإجمالي، ما أدّى إلى إلغاء كلّ الاستثمارات الأجنبيّة تقريباً. ووفق تحليلات هؤلاء الخبراء فإنّ "خروج الشركات والعقوبات يشلّ الاقتصاد الروسي على المَديَيْن القصير والطويل"، مع الإشارة إلى أنّ العقوبات الاقتصاديّة تمنع الكثير من الشركات والدول من الاستمرار في التجارة مع روسيا التي تجد صعوبة في الحصول على قطعِ غيارٍ وموادٍّ أوليّة أو تقنيّاتٍ أساسيّة معيّنة.
الاقتصاد العالَميّ
لقد أَجمع عددٌ من التقارير على أنّ الخسائر الاقتصاديّة للحرب الروسيّة على أوكرانيا قد تكون مدمِّرة لبعض أجزاء العالم قبل نهاية العام الحالي؛ ولعلّ أهمّها في مجال الطّاقة، حيث تُعَدّ روسيا ثالث أكبر مُنتجٍ للنفط والغاز الطبيعي في العالَم، وتُحاول دولٌ عدّة، وخصوصاً الدول الأوروبيّة، تقييدَ أو وقفَ مشتريات الطّاقة الروسيّة وحرمان موسكو من عائداتها التي تشتدّ الحاجة إليها. وفي ظلّ أفضل السيناريوهات قد يؤدّي ذلك إلى ارتفاع أسعار النفط وزيادة أسعار البنزين بشكلٍ دراماتيكي بما يُحدِث "صدمة طاقة كاملة"، ولاسيّما في أوروبا التي تستورد من روسيا أكثر من خمسة ملايين برميل يوميّاً من النفط ومنتوجاته.
ويأتي بعد الطّاقة "الأمنُ الغذائي"، إذ إنّ إغلاق روسيا موانيء جنوب أوكرانيا وعرْقلة صادرات الحبوب وغيرها من المُنتجات الزراعيّة، هو بمثابة "إعلان حرب على الأمن الغذائي العالَمي"، ويؤدّي إلى مجاعة وزعزعة الاستقرار وهجرة جماعيّة حول العالَم.
الخسائر الاقتصاديّة
لا يُمكن تحديد قيمة الخسائر الاقتصاديّة مع استمرار الحرب الروسيّة على أوكرانيا، وتصاعُد تطبيق العقوبات المُتبادَلة بين روسيا والدول الغربيّة بقيادة الولايات المتّحدة. ولكنّ التقدير المبدئي للخسائر الأوروبيّة، وهي الأكبر، يُشير إلى أنّها قد تصل إلى 1.5 ترليون دولار، وتشمل خسائر دول الاتّحاد جرّاء وقف صادراتها إلى روسيا والبالغة نحو 200 مليار دولار، وخسائر القطاع المالي والاستثمارات الروسيّة في الأسواق الأوروبيّة، وكذلك الاستثمارات الأوروبيّة في الاقتصاد الروسي، والشركات والمؤسّسات الماليّة الأوروبيّة المالكة لتلك الاستثمارات، وهي لا تقلّ عن 100 مليار يورو. إضافة إلى ذلك قطاعات الخدمات التي يَستثمر فيها رجال المال والأعمال الروس في دول الاتّحاد، وقيام السلطات الروسيّة بتأميم ومُصادَرة فروع الشركات الأوروبيّة والأميركيّة التي أَعلنت انسحابها من السوق الروسيّة، وكلّها معرَّضة للخسائر التي تُقارب 200 مليار يورو. أمّا خسائر ألمانيا التي قُدِّرت بنحو 260 مليار يورو، فقد حوَّلت أكبر اقتصاد أوروبي من "قاطرة للنموّ" إلى الركود التضخُّمي. وتستعدّ الحكومة الألمانيّة لرفْع سقف الشرائح الضريبيّة كوسيلة لتخفيف عبء ضريبة الدخل على المواطنين الألمان الذين يواجهون أعباءَ تبعيّات غلاء المعيشة بسبب ارتفاع أسعار الطّاقة والغذاء.
لا شكّ في أنّ الخسائر الاقتصاديّة المتوقَّعة على الاقتصاد الأميركي سوف تكون أقلّ شأناً من تلك التي تصيب الاقتصادات الأوروبيّة، وهي تشمل خسائر بعض الشركات الأميركيّة العاملة في السوق الروسيّة، ولاسيّما في قطاعَيْ الطاقة والصناعة، وكذلك الاستثمارات في سوق الأوراق الماليّة، إضافة إلى انخفاض المعروض من منتوجات النفط ومشتقّاته الوارد من روسيا والتي تتراوح بين 600 ألف و700 ألف برميل يوميّاً، وانعكاسات ذلك على زيادة الأسعار في السوق الأميركيّة، واكتواء المواطنين الأميركيّين من هذه الزيادة وما يُصاحبها عادةً من ارتفاع في تكلفة النقل، وتكاليف بعض السلع والخدمات.
التضخُّم.. والديون
حذَّرت المديرة العامّة لصندوق النقد الدولي كريستينا غورغييفا أنّ المشهد الاقتصادي العالَمي "ازداد قتامة" مع تدهورٍ أكثر بفعل الحرب في أوكرانيا والتضخُّم السريع الذي تسبَّبت به. كذلك حذَّرت غورغييفا من أزمة ديون عالَميّة، مع اتّجاه البنوك المركزيّة الرئيسة في العالَم إلى زيادة أسعار الفائدة لكبْح جماح التضخُّم، وهو ما يزيد أعباء خدمة الديون للدول ذات الأوضاع الماليّة السيّئة. وفي الولايات المتّحدة يُركِّز مجلس الاحتياط الفيدرالي على زيادة أسعار الفائدة بشدّة لكبْح أقوى مَوجة تضخُّم منذ أربعة عقود. ويتعامل المُستهلِكون الأميركيّون مع معدّلات تضخُّم هي الأعلى منذ 40 عاماً، وقد تجاوزت ديون الأسر الأميركيّة 16 تريليون دولار للمرّة الأولى في الربع الثاني من العام الحالي، ما أدّى إلى ارتفاع سعر الدولار. وفي الوقت نفسه جَمعت الدولُ النامية خلال السنوات الماضية قروضاً بنحو 250 مليار دولار، الأمر الذي يُهدِّد هذه الدولَ بسلسلة إفلاساتٍ تاريخيّة. لذلك يَعتبر مُعارضو رفع أسعار الفائدة، بأنّه يمثِّل استراتيجيّةً عالية المخاطر لعددٍ من البلدان وسط قلقٍ مُتزايدٍ في المَمْلَكة المتّحدة على سبيل المثال، من أنّ الزيادات الكبيرة في أسعار الفائدة من جانب بنك إنكلترا ستُغرق البلاد في الركود. كذلك تُواجِه دولُ الاتّحاد الأوروبي المعضلة ذاتها في وقتٍ تواجه أزمة طاقة مُحتمَلة في الشتاء المُقبل، إذا أوقفت روسيا (كما هو متوقَّع) إمدادات الغاز الطبيعي، بسبب مُعارَضة المجموعة الأوروبيّة لحرب الكريملين ضدّ أوكرانيا. أمّا على صعيد الدَّين العالَمي، فإنّ الصين والولايات المتّحدة تقودان ارتفاع حجْم هذا الدَّين، وهُما اقترضتا النسبة الأكبر مُقارنةً بالدول الأخرى، ما رَفَعَ حجمه إلى مستوىً قياسيّ فوق 305 تريليونات دولار، ويشكّل 348% من الناتج المحلّي الإجمالي، وفق معهد التمويل الدولي.
*كاتب ومُحلِّل اقتصادي من لبنان - مؤسسة الفكر العربي