سَنواتُ التّحوّلِ الكَبير.. كيفَ غيّرَت الأزمة الاقتصادية الطاحنة حياةَ اللبنانيين؟ و هل من سبيلٍ للإنقاذ؟


تقرير- مروة شاهين - بث:
لم يعُد لبنان جنّة، و "صار في أحلى من لبنان"، عبارات يُطلقها اللبنانيون منذ عام ٢٠١٩، لوصف ما تعرّضوا له من تغيير في الأوضاع الاجتماعية و السياسية و الاقتصادية، بعد الأزمة العاصفة التي ضربت لبنان منذ ما يقارب الثلاث سنوات، و التي دمّرت و – لا زالت- تُدمّر الاقتصاد و اللبناني، و تأخذُ بمواطنيه شيئاً فشيئاً نحو الهاوية.
و بطبيعة الحال، لم يعُد اللبنانيون يرددون مقولتهم المشهورة، "ما في أحلى من لبنان"، للدلالة على مدى حبهم و تعلقهم بتراب وطنهم، الذي لطالما اعتبرهُ القاصي و الداني قطعة من جنّة الأرض، بل أصبحت عبارات التذمر و الشكوى تسيطر على لسان حال اللبنانيين، بعدما ما أنهكتهم "جهنّم" الوطن، تلك ال "جهنم" التي تنبّأ بقدومها العديد من المسؤولين و القادة السياسيين في لبنان و على رأسهم رئيس البلاد ميشال عون، الذي قال بملأ الفمّ، أن "البلد ذاهبٌ إلى جهنم"، في رده على أحد الصحفيين خلال مؤتمر صحفي أُقيم في قصر الرئاسة منذ عدة أشهر.
و لا شك أن التنبّؤ بوقوع الكارثة قبل وقوعها، يُشكل عاملاً مساعداً على تفاديها أو تجنب حدوثها، أو مواجهتها بنجاح – وذلك أضعف الإيمان-، لكن هذا المعيار لا ينطبق على الحالة اللبنانية، فالقادة اللبنانيون اكتفوا بالتنّبؤ بالكارثة، دون أن يُكلف أحد نفسه عناء العمل بشكل صادق و جدّي للحؤول دون الوقوع في جهنم، بل حتى بعد وقوع البلاد في جهنم، لم يسعى أحدٌ لمنع البلاد من الوصول إلى قعرِها.
اقتصاد لبنان.. هبوطٌ حرٌ نحو الهاوية:
لم يكُن الاقتصاد اللبناني قبل العام ٢٠١٩ اقتصاداً قوياً متقدماً، أي لا مجال للمقارنة بين الاقتصاد اللبناني قبل الأزمة و بين الاقتصادات الصناعية المتقدمة، و لكن على الأقل، كان اقنصاداً متماسكاً قادراً على أقل تقدير، أن يؤمن بعض الرفاهية لشعبه، الذي كان يعيش إلى حد كبير، حياةً مرفّهة شبيهة بالرفاهية الأوروبية، مع فارق بسيط، أن الرفاهية التي كان يعيشها الشعب اللبناني قبل العام ٢٠١٩، لم تكُن تُمنح له من قِبب الدولة، بل كان الشعب قادراً على تأمينها من حسابه الخاص، الأمر الذي تغير كلياً و أصبح غير متوقر و بعيداً عن إمكانيات اللبنانيين، بعد ما سرقت المصارف ودائعهم و أكل التضخم قيمة رواتبهم و مدّخراتهم.
ووفقا لتحليل البنك الدولي، هوى إجمالي الناتج المحلي الاسمي من قرابة 52 مليار دولار أميركي في 2019 إلى مستوى متوقع قدره 21.8 مليار دولار أميركي في 2021، مسجلاً انكماشاً نسبته 58.1%. وواصل سعر الصرف تراجعه الشديد، متسبباً في دخول معدلات التضخم في خانة المئات. وقد أدَّت هذه الأزمات إلى تفاقم المصاعب الاجتماعية التي أثَّرت على الأسر الفقيرة والمحتاجة أكثر من غيرها، وزيادة الهوة وعدم المساواة بين الفئات المجتمعية.
و في ظل التقاعس السياسي، أحدثت الأزمات، التي لم يتم إيجاد الحلول لها، أضراراً طويلة الأمد في الاقتصاد والمجتمع في لبنان: فالخدمات العامة الأساسية تتهاوى، ومعدلات البطالة تزداد بشكل حاد، ورأس المال البشري يتعرض لاستنزاف شديد. ويعاني القطاع الخاص من معوقات جسيمة من جراء شلل النظام المالي. وقد أفضى انخفاض إنتاجية الشركات ومعدلات توليد الإيرادات إلى انتشار تسريح العمالة وحالات الإفلاس. وإذا استمر التقاعس في إصلاح السياسات، فمن المتوقع أن ينكمش إجمالي الناتج المحلي الحقيقي بنسبة 6.5% في 2022، بحسب تقرير عن الاقتصاد اللبناني صدر عن البنك الدولي في العام الحالي.
وتعليقاً على ذلك، قال ساروج كومار جاه، المدير الإقليمي لدائرة المشرق في البنك الدولي: "على الرغم من التحذيرات المبكرة، أضاع لبنان وقتاً ثميناً، والعديد من الفرص لتبنِّي مسار لإصلاح نظامه الاقتصادي والمالي. إن تكاليف التقاعس والتلكؤ هائلة، ليس فقط على الحياة اليومية للمواطنين، وإنما أيضاً على مستقبل الشعب اللبناني. وبعد مرور عامين ونصف على الأزمة، لم يشرع لبنان حتى هذا التاريخ في تطبيق برنامج شامل للإصلاح والتعافي يحول دون إنزلاق البلاد إلى مزيد من الغرق. وينطوي استمرار التأخير المتعمد في معالجة أسباب الأزمة على تهديد ليس على المستوى الاجتماعي والاقتصادي فحسب، وإنما أيضاً على خطر إخفاق منهجي لمؤسسات الدولة وتعريض السلم الاجتماعي الهش لمزيد من الضغوط".
الأزمة الاقتصادية تُهشّم موائد اللبنانيين.. و الأمن الغذائي على المحك:
على إثر الأزمة الاقتصادية القائمة، لم يعد المطبخ اللبناني، الذي طاع صيته في معظم دول العالم لغناه بالأطعمة الزكية و اللذيذة، في متناول العديد من اللبنانيين، فالمائدة اللبنانية المعروفة بمدى غناها و تنوعها كانت أول من تأثر بالأزمة الاقتصادية التي تآكلت بفضلها رواتب اللبنانيين و سُرقت ودائعهم، مما دفع بأسعار المواد الغذائية الأساسية إلى التحليق إلى أرقام و مستويات بعيدة عن القدرة الشرائية لرواتب الشعب اللبناني.
إذ أصبح متوسط الرواتب في لبنان بعد التضخم و انهيار العملة الوطنية، لا يكفي لسد احتياجات العائلة من الغذاء لمدة أسبوع، ما دفع الكثير من موظفي القطاع العام و العسكريين الى ترك الوظيفة العامة و الالتحاق بالقطاع الخاص أو امتهان مهنة حرة إلى جانب الوظيفة، سعياً إلى تأمين قوت عائلاتهم.
و إلى جانب الغلاء الغير مسبوق في أسعار الغذاء، و تدني قدرة اللبنانيين على إطعام عائلاتهم، أتت الحرب الروسية الأوكرانية لتزيد الأمر سوءًا، إذ فُقِدت الكثير من السلع الغذائية الرئيسية، لا سيما الطحين و الزيوت النباتية و الحبوب، مما أدى إلى دخول البلاد في أزمة "رغيف الخبز"، و حرمان العديد من العائلات اللبنانية من الخبز في أغلب الأحيان.
و لم يسلم الأمن الغذائي اللبناني من تداعيات انفجار مرفأ بيروت في الرابع من آب/أغسطس من العام ٢٠٢٠، إذ أدى انفجار المرفأ إلى انهيار الصوامع و الإهراءات التي كانت مخصصة لتخزين القمح و الحبوب، مما أدى إلى إتلاف المخزون الاستراتيجي اللبناني من الحبوب و المؤن الغذائية، و حتى اليوم لم تتمكن الحكومة اللبنانية من الوصول إلى حل فيما يخص ملف إعادة إعمار مرفأ بيروت، بما يسهل عملية استيراد المواد الغذائية و زيادة المخزونات الاستراتيجية اللبنانية من القمح و الحبوب.
الأزمة الاقتصادية تصِل إلى صحة اللبنانيين.. الدواء مفقود و الأطباء يُهاجرون:
بعد أن احتلّ لبنان في العام 2018 المركز الـ33 بين 195 دولة في العالم، والمركز الثالث في الشرق الأوسط، في مؤشّر الوصول إلى الجودة في الرعاية الصحّيّة، إذ لم تتقدم عليه سوى الدول الأوروبية و الولايات المتحدة و كندا و بعض دول الخليج العربي، أصبح المرضى بعد العام ٢٠١٩، يكافحون للحصول على علاجهم، إن استطاعوا.
إذ أدت الأزمة الاقتصادية إلى فقدان الكثير من الأدوية من رفوف الصيدليات، لا سيما أدوية الأمراض الخطيرة و المستعصية مما وضع حياة الكثيرين من المرضى في خطر كبير، و قد تحججت الصيدليات بعدم توفر التمويل اللازم لاستيراد الأدوية، إذ أن لبنان لا يصنع دوائه، و بالتالي فإن عملية استيراد الأدوية و العلاجات من الخارج تحتاج إلى العملة الصعبة و إلى تمويل من المصرف المركزي، الذي أصبح شبه خالٍ من الاحتياطات النقدية بالعملات الأجنبية.
كما حذّرت منظمة الصحة العالمية في وقت سابق، من أنّ القطاع الصحي في لبنان معرّض لخطر الانهيار لأسباب عدّة من أبرزها النقص في المختصّين الطبّيين الذي بلغ معدّلاً خطيراً. فما يقارب من 40% من الأطباء “المهرة” ونحو 30%من الممرّضات والممرضين تركوا لبنان إما بشكل دائم أو مؤقت.
بعد أن كان مهداً للحضارة..لبنان مهددٌ بانهيار القطاع التعليمي:
حتى القطاع التعليمي الذي يعتمد بالدرجة الأولى على رأس المال البشري، لم يسلم من تداعيات الأزمة، إذ لم تعد الغالبية العظمى من العائلات اللبنانية قادرة على تعليم أبنائها في مدارس القطاع الخاص بسبب ارتفاع الأقساط الدراسية، مما دفع العديد من أولياء الأمور إلى التوجه بأبنائهم إلى المدارس الحكومية، التي لم تعد قادرة على استيعاب الأعداد الهائلة من الطلاب القادمين من القطاع الخاص، ناهيك عن أن المدرسين في المدارس الحكومية يعلنون الإضراب تلوَ الآخر، بسبب تدني الرواتب و تآكلها بسبب التضخم و انهيار العملة الوطنية.
و في هذا الإطار، صدر عن البنك الدولي تقرير يفيد أن الأزمات المتعددة وما نتج عنها من زيادة معدلات الفقر تأثيراً مباشراً على الطلب على خدمات التعليم ومعدلات التسرب المدرسي، حيث بات أكثر من نصف السكان على الأرجح دون خط الفقر الوطني، فمع الانكماش الاقتصادي، وتدنِّي القوى الشرائية، والتدهور الحاد في ظروف المعيشة، و لذلك من المتوقع أن يتّجه المزيد من الآباء والأمهات إلى نقل أطفالهم من المدارس الخاصة إلى المدارس الحكومية في السنوات القادمة، وأن تزداد كذلك نسب تسرّب الأطفال من المدارس، لاسيما ضمن الأسر المُهمَّشة.
جامعة الطبقة المتوسطة.. الجامعة الحكومية الوحيدة في لبنان في طريقها للانهيار:
أما عن الجامعة اللبنانية، الجامعة الحكومية الوحيدة في لبنان، و التي يدرس بها أبناء الطبقة المتوسطة و الفقيرة من أبناء الشعب اللبناني، فهي موقوفة الحال منذ أشهر، على إثر إعلان المدرسين و المدربين الجامعيين الإضراب المفتوح بسبب تدني الرواتب و انعدام قدرة موظفي الجامعة على الاستقرار.
و في هذا الصدد، قال رئيس رابطة الأساتذة المتفرغين عامر حلواني إنّ "الإضراب يشمل كلّ الكليّات والفروع، ويشكّل صرخة لتحصيل حقوق الأساتذة والدفاع عن الجامعة اللبنانية المتعثّرة" ، و يضيف أن المطلوب اليوم تحسين الوضع المادي ورواتب الأساتذة، لكن للأسف لا حياة لمن تنادي، فالدولة غائبة وما من تحرّكٍ جدّي لتذليل العقبات، ويبقى بالتالي مصير 80 ألف طالب مجهولاً.
ويوضح أنّ "تأخّر إنجاز العام الجامعي انعكس سلباً على الطلاب الراغبين بمتابعة دراساتهم العليا خارج البلاد"، مشيراً إلى أن "الجامعة متجهة نحو انهيارٍ كاملٍ لو أنّنا لم نطلق هذه الصرخة".
الخطة الشاملة للإصلاح الإقتصادي.. ضرورة حتمية لإنقاذ ما تبقّى من رُفات الاقتصاد:
على الرغم من الوضع الغير مسبوق الذي وصل اليه الاقتصاد اللبناني جراء الأزمة التي عصفت به و سببت انهياره بشكل دراماتيكي على مدار ثلاث سنوات – وحتى الآن-، إلا أن أبواب الإصلاح و الإنقاذ لا تزال مفتوحة أمام لبنان، شرط توفر إرادة سياسية حقيقية للقيام بإصلاحات تسمح بإنقاذ ما تبقّى من الاقتصاد اللبناني، و يقع على عاتق القيادات السياسية و الحكومة اللبنانية تنفيذ الشروط التي يطالب بها المجتمع الدولي و الجهات المانحة، لكي يستطيع لبنان الحصول على مساعدات خارجية تعينه على الخروج من الأزمة التي يعيشها.
إذ دعا البنك الدولي منذ انطلاق الأزمة الاقتصادية في لبنان في العام ٢٠١٩ إلى ضرورة مسارعة الحكومة اللبنانية في وضع خطة شاملة لتعافي الاقتصاد، فبحسب البنك، إنه من الضروري أن يسارع لبنان في المرحلة المقبلة إلى اعتماد خطة ذات مصداقية لتعافٍ شامل ومنصف لتحقيق الاستقرار المالي الكلي، وتسريع وتيرة تنفيذها لتفادي دماراً كاملاً لشبكاته الاجتماعية والاقتصادية، وإيقاف الخسائر التي لا يمكن تعويضها في رأس المال البشري. وكما هو مُبيَّن تقرير المرصد الاقتصادي للبنان، على هذه الإستراتيجية أن ترتكز على:
١- إطار جديد للسياسة النقدية يكفل استعادة الثقة والاستقرار في سعر الصرف.
٢-برنامج لإعادة هيكلة الديون من أجل تحقيق حيز للإنفاق في إطار المالية العامة في الأمد القصير والقدرة على الاستمرار في تحمل أعباء الدين في الأمد المتوسط.
٣- إعادة هيكلة شاملة للقطاع المالي من أجل استعادة قدرة القطاع المصرفي على الوفاء بالالتزامات.
٤- ضبط أوضاع المالية العامة على نحو تدريجي منصف من أجل استعادة الثقة في السياسة المالية العامة.
٥-إصلاحات تهدف إلى تعزيز النمو
٦- تعزيز سبل الحماية الاجتماعية.
و هكذا، فقد أصبح واضحاً مدى التغيّر الذي طرأ على حياة المجتمع اللبناني إثر تداعيات الأزمة الاقتصادية الأصعب في تاريخ لبنان، إذ لم يمر لبنان منذ استقلاله بمثل هذه الأزمة في صعوبتها و تعقيدها حتى خلال الحرب الأهلية اللبنانية، فلا شيئ في لبنان بقي كالسابق، فالأزمة الطاحنة لم تُعفي شيئاً، و لم تُبقِ قطاعاً أو مجالاً لم تطله تداعياتها، و رغم هذا، لا تزال الطبقة السياسية اللبنانية غير قادرة على تشكيل فريق حكومي يستطيع النهوض بالبلاد و الصعود بها من قعر جهنم إلى برّ الأمان.
فبالنسبة إلى هذه الطبقة السياسية التي تحكم لبنان، تأتي المصالح الشخصية و الطائفية و المناطقية قبل المصلحة العامة، و يتقدم الولاء الخارجي على الولاء للوطن، و لا اهتمام بسيادة الدولة و استقلالها و حرية قرارها، إذ لا يزال قرار الإصلاح من عدمه مرتبطاً بقرارات خارجية، ليبقى إنقاذ ما تبقّى من هذا الوطن، رهينة إشارة خارجية، بعيداً عن أي إرادة داخلية للشعب اللبناني، الذي أصبح يُدرك أن طوق نجاته موجود في الخارج لا في لبنان، و أصبح ينتظر العطف من الفاعلين الكبار، عسى أن يُتخَّذ قرار انتشال لبنان من الغرق في جهنم الأزمة، يوماً ما..