تهميش بعض حقوق المُجتمعات في الوطن العربيّ والعالَم

د. محمود الذوّادي*
ممّا لا شكّ فيه أنّ شعار "حقوق الإنسان" أصبح شعاراً مُعَوْلَماً في نهاية القرن الماضي ومطلع القرن الحادي والعشرين ويُحتفل سنويّاً بيوم حقوق الإنسان في 10 كانون الأوّل (ديسمبر). وفي المقابل لا يكاد يوجَد شِعارَا "واجبات الإنسان" أو "حقوق المُجتمع" في بلدان القارّات الخمس. وهو أمر يحتاج إلى الفَهم والتفسير.
بدأ انتشار شعار "حقوق الإنسان" في المُجتمعات الغربيّة أكثر من غيرها بسبب اتّصاف تلك المجتمعات بفرديّة متغوّلة تطلب دائماً المزيد من حقوق الفرد وإهمال ما يُنادي بهما الشعاران الآخران المذكوران. لكنّ بعض المجتمعات الغربيّة بدات تضيق ذرعاً بالانعكاسات الخطيرة لظاهرة الفرديّة على التضامُن الاجتماعي كحقٍّ للمُجتمع. فكثُرت المناقشات حول مشكلات الوِحْدة والانتحار، بخاصّة بين الشباب، وتزايُد انخفاض السكّان وتفشّي الانحراف والجريمة والأمراض الجنسيّة وفي طليعتها مرض الأيدز. وكلّها أعراض مَرَضيّة اجتماعيّة تربط هذه القضايا وشبيهاتها بمعضلة الفرديّة من قريب أو بعيد.
تبرُّمٌ من ضُعف حضور حقوق المُجتمع
على سبيل المثال، يرى مؤلِّفو كتاب "عوائد القلب Habits of the Heart" أنّ التحوّلات التحديثيّة التي عاشها ويعيشها المُجتمع الأميركي منذ أوائل القرن العشرين كان لها آثار سلبيّة على: (أ) البيئة الطبيعيّة التي طالما نجدها مهدَّدة من عمليّات التصنيع بأنواعها المُختلفة. (ب) الإيكولوجيا الاجتماعيّة Social Ecology، أي أنّ النسيج الاجتماعي في المُجتمع الأميركي أصبح مُهدَّداً هو الآخر من جرّاء تفشّي ظاهرة الفرديّة الأنانيّة وتجذُّرها فيه. فهذا الكتاب يُمثِّل دعوةً ونداءً من باحثين وعُلماء أميركيّين في العلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة لتوعية الأميركيّين بحقّ مُجتمعهم عليهم في إنقاذه من الإيكولوجيا الاجتماعيّة المتردّية.
تهميش الحقوق اللّغويّة لمُجتمعاتٍ عربيّة
تفيد الملاحظات الواسعة والمتكرّرة بأنّ الكثير من المُجتمعات العربيّة تفقد تدريجيّاً العلاقة الطبيعيّة مع اللّغة العربيّة، لغتها الوطنيّة، على المستويَيْن الشفوي والكتابي. تأتي مُجتمعات الخليج العربي في الصدارة. أمّا بالنسبة إلى المغرب العربي، وعن المُجتمع التونسي بعد الثورة فحدِّث ولا حرج بالنسبة إلى رفْع شعار حقوق الإنسان. وهي ظاهرة مشروعة بعد ظروف الحُكم السلطوي والرأي الواحد التي عرفها التونسيّون منذ الاستقلال تحت حُكم النّخب السياسيّة والفكريّة "الحداثيّة" بقيادة الرئيس بورقيبة. وبسبب فقدان تلك النّخب لما نسمّيه الحجْر اللّغوي (استعمال اللّغة العربيّة فقط في كلّ شيء بما فيها الدراسة، وهو أمر طبيعي في علاقات الناس والمُجتمعات بلغاتهم) وبالتالي هَيمنة الاستعمار الفرنسي اللّغوي والفكري عليها، تبنَّتْ تلك النّخب سياساتٍ لغويّة تَحرم المُجتمع التونسي من حقّه في استعمال لغته الوطنيّة/ العربيّة استعمالاً كاملاً وطبيعيّاً في تسيير شؤون الناس والمؤسّسات في هذا المُجتمع "المستقلّ" منذ العام 1956. وكنتيجة لسلب المُجتمع التونسي من حقّه في استعمال لغته العربيّة بالكامل، بَرزتْ في هذا المجتمع ظواهر لغويّة تؤكِّد استمرار حرمانه من حقّه بعلاقةٍ طبيعيّة سليمة مع لغته الوطنيّة. نقتصر على ذكر ثلاث منها:
1- الثنائيّة اللّغويّة الأمّارة
إنّها تلك الثنائيّة اللّغويّة التي لا تكون فيها للّغة الأم/ الوطنيّة في صلب مُجتمعها المكانة الأولى لدى الأفراد ومؤسّسات المجتمع، بحيث لا نجدهما متحمّسيْن كثيراً للذود عن لغتهما الأم/ الوطنيّة. ومن ثمّ، يكون الناس غير مُبالين إزاء عدم استعمالها في شؤونهم الشخصيّة وفي ما بينهم في أُسرهم ومؤسّساتهم فتُصبح اللّغة الوطنيّة عندهم وبينهم في حالات عديدة لغةً ثانية أو ثالثة أو غائبة تماماً شفويّاً وكتابيّاً من الاستعمال. فهذه الثنائيّة اللّغويّة تحمل معها، إذن، الكثير من التآمر على حقّ المُجتمع في استعمال اللّغة الوطنيّة وفي وجود علاقة طبيعيّة بين مُواطنيه ولغتهم. ومن السهل على الباحث في المسألة اللّغويّة في المجتمع التونسي قبل الثورة وبعدها أن يُلاحظ هَيمنة الثنائيّة اللّغويّة الأمّارة على التونسيّات والتونسيّين ومؤسّساتهم. فالحضور القوي لها بعد أكثر من ستّين سنة من الاستقلال يجسِّم تنكّراً وإجهاضاً لحقّ المُجتمع في استعمال لغته وحمايتها وتطويرها بعد رحيل الاستعمار.
2- فقدان المُجتمع التونسيّ حقّه في التعريب النفسيّ
يعتقد خطأً الكثيرُ من التونسيّات والتونسيّين بأنّ عمليّة التعريب بعد الاستقلال تتمثّل في مجرّد تبديل استعمال لغة المُستعمِر الفرنسيّة باللّغة العربيّة في الكتابة والحديث في القطاعات المُختلفة في المُجتمع. لكنّ التعمُّق في الأمر يُشير إلى أنّ عمليّة التعريب الناجحة لا تقتصر على مجرّد استعمال اللّغة العربيّة في الحديث والكتابة. بل هناك جانب آخر لمسألة التعريب لا تكاد تُدركه أغلبيّة التونسيّات والتونسيّين حتّى يومنا هذا. إنّه فقدان ما نودُّ تسميته التعريب النفسي المتمثّل في وجود علاقة حميمة بينهم مع اللّغة العربيّة تجعلها عندهم صاحبة المكانة الأولى بحيث يلجأون عفويّاً وبتحمّس وافتخار إلى استعمالها في شؤون حياتهم الشخصيّة والاجتماعيّة قبل أيّ لغة أخرى. فهذا الحقّ المُجتمعي ضعيف أو شبه مفقود في نفوس معظم التونسيّات والتونسيّين المُثقّفين والمتعلّمين على الخصوص. فمعظمهم لم يُطبِّعوا نفسيّاً علاقاتهم مع اللّغة العربيّة، ما أدّى إلى احتقارها والسخرية منها عند البعض.فهؤلاء يتعجّبون من التونسي الذي لا يمزج حديثه اليومي بكلمات وعبارات فرنسيّة أو يكتب صكوكه المصرفيّة بحروفٍ عربيّة. بل قد يذهبون إلى حدّ وصفه بالانحراف. كلّ تلك السمات النفسيّة والسلوكات اللّغويّة لدى الأفراد والمؤسّسات في القطر التونسي تشير بوضوح إلى أعراض خسارة المُجتمع التونسي حقّه في استعمال لغته وحمايتها.
وهكذا، فحال علاقة التونسيّات والتونسيّين بلغتهم الوطنيّة ليس بالأمر الطبيعي بين المُجتمع ولغته. فحقّ ذلك المُجتمع في لغته مهدور من طَرَفِ كثيرٍ من "مواطنيه". يُمثِّل هذا الوضع مأزقاً للطرفَين يصعب الوعي به وبالتالي الخروج منه. إنّه مأزق ما نسمّيه التخلُّف الآخر. أي ذلك التخلُّف المَنسيّ والمسكوت عنه في المُجتمع التونسي. فهذا الحقّ اللّغوي المسلوب من هذا المُجتمع قادته أغلبيّة النّخب التونسيّة الفاقدة للحَجْر اللّغوي.. يُلخِّص تشخيص العلوم الاجتماعيّة لهذا المأزق في عرضَين: انفصام في الشخصيّة وضُعف في التأهُّل لصفة المُواطنة بسبب التفاف تلك النُّخب على تمكين المُجتمع التونسي من استرجاع حقّه في استعماله بالكامل للّغة العربيّة/ الوطنيّة ومُمارسته. ويجوز تعميم هذا الوضع بدرجاتٍ مختلفة ليس على بقيّة المجتمعات المغاربيّة فحسب، وإنّما أيضاً على كثير من المُجتمعات العربيّة الأخرى، وبخاصّة في الخليج العربي.
3ـ الثنائيّة اللّغويّة اللّوّامة
نتيجةً لـ 1و2 فُقدتْ في المُجتمع التونسي ما نسمّيها ظاهرةُ الثنائيّة اللّغويّة اللّوّامة. تحرص هذه الثنائيّة كلّ الحرص وبحماسٍ كبير على المُحافظة على مناعة اللّغة العربيّة/ الوطنيّة وتطوّرها ونموّها مُتّخذة من أجل ذلك كلّ السبل الضروريّة من أجل توعية مجتمعيّة كاملة وشاملة باللّغة الوطنيّة كرمزٍ وطني مقدَّس أكثر من عَلَم البلاد نفسه. ومن ثمّ، تُطالِب بتبنّي سياساتٍ لغويّة تصون تلك اللّغة من انحدار مكانتها نفسيّاً واجتماعيّاً إلى المرتبة الثانية أو الثالثة بين أهلها وذويها. ترفع الثنائيّة اللّوّامة عالياً شِعار حقّ المُجتمع الكامل في استعمال لغته واحترامها والذّود عنها في أيِّ نزاعٍ أو صراع مع لغاتٍ أخرى وافدة. إنّ حضور هذه الثنائيّة بعد الاستقلال هو حضورٌ ضعيف، بخاصّة بين معظم "الحداثيّين" الفاقدين للحَجْر اللّغوي الذين لا يكادون يعترفون بأنّ استعمال اللّغة العربيّة هو حقّ مقدَّس للمُجتمع التونسي الذي يُعلن دستوره أنّ اللّغة العربيّة هي اللّغة الرسميّة الوحيدة للبلاد.
تُشير المَعالِم 1و2و3 إلى أعراضِ اغترابٍ لغوي لدى أغلبيّة النُّخب التونسيّة "الحداثيّة". وهي ظاهرة لا يصعب تفسير جذورها بمنهجيّةٍ مُقارنة بسيطة. فالنُّخب الزيتونيّة - المُمثِّلة للحجْر اللّغوي بالكامل - لا تشكو لا من الثنائيّة اللّغويّة الأمّارة ولا من ضُعف التعريب النفسي ولا من فُتور الثنائيّة اللّغويّة اللّوامة، كما هو الحال لدى جلّ النّخب التونسيّة "الحداثيّة" الفاقدة للحجْر اللّغوي.
الحجْر اللّغويّ وما أدراك
فالتكوين اللّغوي لهذَين الصنفَيْن من النخب هو العامل الحاسم الذي أدّى إلى الفرق بينهما في الأبعاد 1و2و3. فمن جهة، يُدافع خرّيجو التعليم الزيتوني بشدّة عن حقّ المُجتمع التونسي في استعمال لغته العربيّة وعدم السماح للّغات الأجنبيّة بمُنافستها على أرضها. ومن جهة ثانية، يتّصف "الحداثيّون" بموقفٍ متذبذب نحو مُنافسة اللّغة الفرنسيّة للّغة العربيّة في المُجتمع التونسي. وبالتالي، فهُم لا يكادون يؤمنون ويتصرّفون لصالح حقّ المجتمع التونسي الكامل في استعمال لغته الوطنيّة/ العربيّة فقط. وللشفافيّة العلميّة ولتسمية الأشياء بأسمائها يجب القول إنّ التجربة التونسيّة في تعلّم لغة المُستعمِر في عهدَيْ الاحتلال والاستقلال تُبيّن بما لا يدع مجالاً للشكّ أنّها عاملُ تشويشٍ في أحسن الأحوال واستلاب في حالات أخرى كثيرة على اللّغة العربيّة لدى عديد من المتعلّمين وبين معظم المثقّفين الفاقدين للحجْر اللّغوي.
حقّ المُجتمع في الثنائيّة اللّغويّة اللّوّامة
تَسمح مُقارنة المجتمعات المتقدّمة بالمُجتمعات التابعة بخصوص الثنائيّة اللّغويّة، بالقول إنّ الأولى تسود فيها الثنائيّة اللّغويّة اللّوّامة بينما تنتشر في الثانية ظاهرة الثنائيّة اللّغويّة الأمّارة. فعلى سبيل المثال، إنّ مُواطني المُجتمعات صاحبة السيادة اللّغويّة الكاملة لا يستعملون بينهم إلّا لغاتهم الوطنيّة على المستويَيْن الكتابي والشفوي لأنّ أخلاقيّات الثنائيّة اللّغويّة اللّوّامة لا تقبل غير ذلك السلوك اللّغوي الطبيعي. وفي المقابل، فالمُجتمعات الفاقدة للسيادة اللّغويّة التامّة يَجنح مواطنوها بسهولة إلى استعمال لغة المُستعمر تحديداً في ما بينهم، شفويّاً وكتابيّاً. أفلا تَكتب اليوم الأغلبيّة الساحقة من مواطنات ومواطني تونس والمغرب والجزائر صكوكهم/ شيكاتهم المصرفيّة بحروفٍ لاتينيّة عوضاً عن الحروف العربيّة؟ ويعود ذلك في المقام الأوّل إلى الحضور القوي القاهر للثنائيّة اللّغويّة الأمّارة التي تسكن في الشخصيّة القاعديّة للإناث والذكور في تلك المُجتمعات وذلك بسبب فقدان الحجْر اللّغوي.
*عالِم اجتماع من تونس - مؤسسة الفكر العربي