في تقارُب تركيا مع مصر والسعوديّة

ياسر هلال*
تتعامل مصر والسعوديّة والإمارات مع المساعي التركيّة للمُصالَحة بقدرٍ كبيرٍ من الاقتناع بضرورة حلّ الخلافات والتقارُب، ولكنْ بقدرٍ أكبر من الحَذَرِ والتريّث، وذلك بانتظار التأكُّد من أنّ هذه المساعي تعكس تغييراً فعليّاً في السياسة الخارجيّة الصداميّة التي اعتمدتها تركيا منذ "الربيع العربيّ"، والقائمة على التدخُّل في الشؤون الداخليّة للدول العربيّة، ودعْم جماعات الإسلام السياسيّ في مصر وسوريا والعراق وليبيا، و"دبلوماسيّة البوارج" في شرق المتوسّط. وتجلّى ذلك في استقبال مصر والسعوديّة لوفودٍ تركيّة رفيعة المستوى لبدء مُحادثات حول القضايا العالقة، ولكن مع التشديد على أنّ عودة العلاقات إلى طبيعتها تتوقّف على تطوُّر المَوقف التركيّ.
يبدو أنّ التغيُّرات الجيوساسيّة المُتسارِعة في المنطقة تَفرض حدوثَ تغييرٍ جدّي وجذريّ في السياسة الخارجيّة التركيّة؛ كما تَفرض موضوعيّاً حدوثَ تقارُبٍ بين مصر وتركيا والسعوديّة، بخاصّة في ظلّ النجاح المُتوقَّع لمُفاوضات فيينّا بشأن الاتّفاق النووي الإيراني. ويبدو أيضاً أنّ القوى العظمى، وخصوصاً أميركا وروسيا، تُحبِّذ وتُشجِّع مثل هذا التقارُب الذي يسمح بإيجاد حالة توازُن ومُواجَهة مع نفوذ إيران. وهو ما تجلّى في مُبارَكةِ أميركا وروسيا للتدخُّل المصري في وقْفِ العدوان الإسرائيلي على غزّة ودعمهما مساعي مصر في بلْورةِ تسويةٍ طويلة الأمد. كما تجلّى في انفتاح فرنسا على تركيا واستقبالها وزير الخارجيّة بعد قطيعةٍ طويلة.
ومن دون التسرُّع في الاستنتاجات، هناك جملة عوامل ودوافع سياسيّة واقتصاديّة تسمح بتوقُّع حصول تقارُب وتفاهُم مصري تركي في المدى القريب في بعض الملفّات ذات الطابع الملحّ مع استمرار الخلاف في ملفّاتٍ أخرى، بخاصّة في الملفّ اللّيبي. ولكن مع ملاحظة أنّ طابع الإلحاح في ملفّات علاقة مصر وتركيا لا ينطبق على ملفّات الخلاف بين السعوديّة وتركيا إلّا في إطار "ورشة التفاهُمات والحوارات" القائمة في المنطقة حاليّاً، والتي تُشجِّعها وتنخرط فيها السعوديّة، ما يعني أنّ التقارب التركي السعودي قد يأخذ طابع التدرُّج والتريُّث.
عوامل دافِعة للتقارُب
بالنسبة إلى تركيا، تتمثّل أبرز العوامل التي تَدفع باتّجاه التقارُب مع مصر والسعوديّة في ما يلي:
دوافع مصر والسعوديّة.
قد تكون الدوافع المصريّة للتقارُب أكثر وضوحاً وإلحاحاً من السعوديّة والإمارات، بسبب حساسيّة الملفّات والقضايا المُشترَكة بين مصر وتركيا وأهميّتها، والتي يُمكن إيجازها في وضْعِ حدٍّ نهائي لدعْم تركيا لجماعة الإخوان المُسلمين، بخاصّة المصريّين منهم، أوّلاً. وثانياً دعْم الحلّ السياسي في ليبيا وتقليص التدخُّل التركي، بما يكفل عدم تحوُّل ليبيا إلى حاضنةٍ لجماعات الإسلام السياسي وصراع القوى الدوليّة، ما يُهدِّد الأمن القومي المصري، وثالثاَ إيجاد حلّ لنزاعات الحدود البحريّة في شرق المُتوسّط، ما يُسهِم في توسيع مشروعات النفط والغاز ويُعزِّز فُرص مصر بأن تكون المَركزَ الإقليمي للغاز.
يضاف إلى ذلك عاملٌ مُستجِدّ، وهو إمكانيّة تعاوُن تركيا مع مصر في إعادة ترتيب البيت الفلسطيني وإنهاء حالة الصراع بين حماس وفتح، ناهيك بإمكانيّة قيام تركيا بدَورٍ إيجابي في ملفّ سدّ النهضة.
أمّا بالنسبة إلى المَملكة العربيّة السعوديّة، فالملفّات العالقة مع تركيا ليست ذات أولويّة، فمن المرجّح أن تُواصل الرياض مُقارَبةَ العلاقات مع تركيا على قاعدة التريُّث والحَذَر والتدرُّج، والبناء على تحقيقِ تقدُّمٍ ملموسٍ ومُستدام في العلاقات التركيّة المصريّة أوّلاً، وفي ملفّ التدخُّل التركي في الدول العربيّة عموماً والبَيت الخليجي تحديداً ثانياً؛ وهذه المُقارَبة المُتحفِّظة والحَذرِة، بَدت واضحةً في طريقة التعامُل مع زيارة وزير خارجيّة تركيا مولود جاويش أوغلو إلى الرياض منتصف شهر أيّار/ مايو الماضي. وهي طريقة اتّسمت بقدرٍ كبيرٍ من "الصراحة وكرم الضيافة" كما صرَّح الوزير أوغلو، ولكن بقدرٍ مُماثلٍ من التحفُّظ. فمع أنّ السياسة الخارجيّة السعوديّة تتّسم عموماً بالرصانة، وخصوصاً على مستوى التغطية الإعلاميّة، إلّا أنّه كان لافتاً اقتصار التصريحات بعد الزيارة على أوغلو نفسه من دون عقْد مؤتمرٍ صحافيٍّ مُشتركٍ مع وزير الخارجيّة السعودي فيصل بن فرحان.
ويبدو أنّ دولة الإمارات العربيّة المُتّحدة تَعتمد مُقارَبةً مُشابِهة للمُقارَبة السعوديّة، فهي تتجاوب بحَذَرٍ ورويّة مع مَساعي التقارُب التركيّة، وكان آخرها اتّصال الوزير جاويش أوغلو مع وزير الخارجيّة الإماراتي الشيخ عبد الله بن زايد للتهنئة بشهر رمضان وكان الاتّصال الأوّل بينهما منذ العام 2017.
*كاتب وإعلامي اقتصادي من لبنان - مؤسسة الفكر العربي