الشرط الإنسانيّ في لَوحات بول غيراغوسيان

news image

فراس حميّة*

وُلِد الفنّان بول غيراغوسيان في القدس في العام 1926 من والدَين أرمنيَّين نجيا من الإبادة الأرمنيّة على يد الأتراك في العام 1915. بَدَأَ الرَّسمَ في سنّ السابعة من عمره، وأَكملَ تعليمَه التكميليّ في رهْبنة "دون بوسكو" في بَيت لحم. وفي العام 1942 دَرَسَ الرّسمَ في استوديو "ياركون" في يافا، ثمّ استقرّ في بيروت وتحديداً في منطقة برج حمّود ذات الوجود الأرمنيّ الكبير، وذلك بعدما تمّ ترحيله مع عائلته من يافا من قِبَلِ السلطة البريطانيّة إثر العدوان الصهيونيّ عام 1948 كما هي حال العديد من اللّاجئين الفلسطينيّين.

تابَعَ غيراغوسيان تدريباً فنّياً بعد حصوله على منحة دراسيّة في إيطاليا من معهد الفنون في فلورنسا في العام 1956، حيث مكثَ هناك ثلاث سنوات، ومن ثمّ درسَ في فرنسا عام 1962، حيث تمكَّن طيلة هذه السنوات من التعرُّف إلى أعمال فنّاني النهضة الأوروبيّة أمثال دوناتيللو ومايكل أنجلو وبول سيزان وليوناردو دافنشي وغيرهم. وقد استطاع غيراغوسيان في عشر سنوات أن يُثبت نفسه كشخصيّة رئيسة في حركة الفنّ التشكيلي الحديث في لبنان.

مُتعدّد الانتماءات كان غيراغوسيان، فأصله الأرمني جعله أرمنيّاً، وولادته في فلسطين جعلته فلسطينيّاً، ومن ثمّ حصوله على الجنسيّة اللبنانيّة في أوائل خمسينيّات القرن الفائت جعله لبنانيّاً. لكنّ الانتماء الكَوني العالَمي كان الأساس بالنسبة إليه، فهو يقول "أنا كنتُ بمُغامَرة، حياتي كانت المُغامرة، لأنّني حين كنتُ أبلغ من العمر أربع سنوات تربّيت عند الراهبات، وفي عمر سبع سنوات تربّيت عند الخوارنة، والطفل حين يُربّى بعيداً عن منزله وعن أمّه وعائلته يكون هو تلقائيّاً المُغامَرة".

ويضيف: "بدايةً كنتُ أريد أن أجد نفسي: مَن أنا؟ ماذا أريد؟ مع مَن يجب أن أكون؟"، وكنتُ طفلاً ضائعاً لا يعرف في أيّ جهة عليه أن يتوجّه، ولم يكُن هناك من أحد ليثبتني إلى حدود ما، فقد ضاع من طفولتي مليون سنة ومهما حاولت لن أستطيع استرجاعها. هذا هو سبب دخولي إلى الفنّ، أو بالأحرى هذه هي القوّة الدافعة إلى الفنّ: أنني إنسان يبحث عن وجوده".

همومه عالميّة، وفي هذا الصدد يُعبِّر بالقول "إذا تعرَّضت الهند لمَجاعة أشعر بالجوع، وإذا صار في الصومال أو أميركا ضجّة حول قضيّةٍ ما فإنّني أوّل شخص يتأثّر بالقضيّة، فلم يكُن الأمر يمثل أيّ فَرْقٍ عندي سواء كنتُ عربيّاً أم أوروبيّاً أم مُسلماً أم أرمنيّاً أم غيره".

عن العلاقة المتوتّرة باللَّون

يُروى أنّه في أحد الأيّام عرضَ صاحبُ إحدى المَكتبات على غيراغوسيان كِتاباً فنيّاً عن الرسّام العالَمي "فان غوخ"، إلّا أنّ غيراغوسيان في البداية كَرِهَ أعماله واعتبرها غير فنيّة. لكنّ البائع أصرّ على غيراغوسيان بقراءة سيرة حياة "فان غوخ" بتمعّنٍ، ما أدّى إلى تأثّره بشخصيّته وفنّه وبدأ بتقليده في مَلابسه وتصرّفاته ورسوماته عن الطبيعة والفقراء، ولازمته هذه الحالة الفنيّة الاندماجيّة لفترة محدَّدة ثمّ ما لبث أن وجد طريقاً ذاتيّة له في الفنّ.

نشأت علاقة متوتّرة بينه وبين اللّون، ففي بداياته رسمَ لوحاته بلَونٍ واحدٍ، حيث شعر بالخوف من اختلاط ألوان الأزرق والأحمر والأخضر وتشابُكها الكيميائي ونتائج هذا التشابك اللَّوني. وقد تطلَّب منه الأمر سنوات لبناء علاقة مع ألوان غير الأسود والأبيض والبنّي والرمادي.

رسمَ بالألوان الأرضيّة التي ترمز إلى التعب والأرض والشعب والعذاب، وكان يَفترِض أنّ مزاجه غير قابلٍ أو مؤهّلٍ لاستخدام الألوان الفرحة؛ لكنْ مع الوقت صارت علاقته بالألوان الفرحة أقوى وبمثابة صرخة ضدّ الحرب والعنف. لوحاته تمثِّل شخوصاً بشريّة بشكلٍ مُستقيم، فقد كان لديه تعلُّق كبير بالشكل البشري وبالظروف والأوضاع الإنسانيّة وانعكس ذلك في أعماله.

تأثَّر غيراغوسيان بالفنّ الغربي وبالمدرسة الانطباعيّة ومَدارس عصر النهضة والثورة في أوروبا ثمّ تأثَّر بشكلٍ أكبر بالفنّ الشرقي كالفنّ الفرعوني والسومري والأشوري. ويُشير غيراغوسيان إلى أنّ هناك فَرقاً "بين التقليد وبين التأثُّر، فقد كنتُ آخذ ما يشبه الغذاء من روح المدرسة الفنيّة التي أتأثّر بها وأضع من ذاتي عليها لأعبِّر عن عذابي الداخلي".

فنّان شعبيّ

كان بول غيراغوسيان قريباً من البيئات الشعبيّة. ذات يومٍ وفي أثناء تفقّده منزله الذي تخلخل بفعل الحرب، صادفَ مجموعة من النساء والأطفال، وهُم جيرانه في الطابق السفلي، وكانت إحداهنّ تحمل بيدها طفلة رضيعة، فاستوقفه الأمر وأَخرج قلماً وورقة وبدأ يرسم المَشهد.

وفي الطريق، كان يرسم وجوه الأطفال الفرحة والأطفال العاملين وماسحي الأحذية والأمّهات يشبكن أيديهنّ بأيدي أطفالهنّ ويَعبرن الشارع وكلّ تفاصيل الأحياء الشعبيّة المكتظّة، وذلك على شكل كروكيات ورقيّة باللّون الأسود. فكان كلّ ما هو شعبي وحَي وإنساني وكلّ ما يضجّ بالحياة وكلّ ما يعبِّر عن "الحالة الإنسانيّة" ينقله في رسوماته.

كما قام بتصوير العُمّال ومَشاهِد العمل والأسرة والمرأة وتعابير الوجوه والعلاقات الإنسانيّة واليأس والبؤس وطقوس الإيمان عند الناس وأحزانهم في المآتم وأفراحهم في الاحتفالات والهجرة والنزوح والحرب الأهليّة والمُشكلات الاقتصاديّة والمعيشيّة واليوميّة وكلّ ما يمتّ بصلة إلى الوجود الإنساني.

الشرط الإنسانيّ

انطلق بول غيراغوسيان من ذاته الخاصّة للتعبير عن مُعاناة الإنسان العامّة كونه عاشَ الحرمان واختبر المآسي المُختلفة. فقد كان نصف يتيم ودرسَ في مدرسة داخليّة وانتمى إلى شعوبٍ مقهورة. وقد أثَّرت تجربته الشخصيّة كلاجئ في وعيه الخاصّ بالجسد وأدركَ الآثار الجسديّة والنفسيّة للنفي المادّي والمعنوي.

تكشف أعماله عن صورة المنطقة والمدينة، وكذلك عن القلق والحالات الفيزيولوجيّة والعاطفيّة للناس، وقد انعكس ذلك في جماليّة أسلوبه وتصاويره لجوهر المَظهر الإنساني. واكتسبت علاقة الأمّ بطفلها حيّزاً خاصّاً ومُميّزاً في أعماله حيث ينظر إلى هذه العلاقة على أنّها صورة رمزيّة للأمل والسلام. ويعتبر بول غيراغوسيان أنّ العمل الفنّي يمتصّ المكان والزمان الذي خلق فيه ويبقى إلى الأبد، فالأعمال الفنيّة شهادات على وجود الإنسان.

ابنته، رئيسة جمعيّة بول غيراغوسيان، الفنّانة مانويلا غيراغوسيان، تقول إنّ أهمّ صفة في والدها هي "التواضُع". بينما يقول المفكّر اللّبناني كريم مروّة عنه "بول لا يفكّر بقضيّة شعبه فقط، لكنّه يفكّر بآخر وأبعد قضيّة إنسانيّة في العالَم، وكان فنّاناً مهموماً بالإنسان وقضاياه وبأنّ هذا الإنسان يستحقّ الحياة بكلّ معانيها ولذلك رسمَ حالات البشر بمختلف الأشكال والصيَغ".

مآسٍ عديدة

مانويلّا غيراغوسيان تَشرح في حديثٍ خاصّ معها: "تأثَّر والدي بالإبادة الأرمنيّة، فرسمَ لوحةً بعنوان "دير الزور" عام 1965 في الذكرى الخمسين للمجزرة الأرمنيّة". وتضيف أنّ "اللّوحة تمثِّل المأساة في صحراء دير الزور، بخاصّة أنّ أمّه الناجية من الموت كانت تحدّثه وتَصف له هول ما حدث للأرمن بشكلٍ عامّ ولأقاربه بشكلٍ خاصّ الذين قضوا حتفهم في تلك المجزرة المُرعبة".

ترك غيراغوسيان لوحاته التي رسمها في فلسطين في صغره، ويشير إلى تلك اللّحظة "ضحكوا علينا وقالوا لنا عشرة أيّام وراجعين!". ونجد في كِتاب الشاعر محمود درويش "أنا الموقِّع أدناه" الصادر عن دار الساقي، حواراً جرى بينه وبين بول غيراغوسيان نقلته الإعلاميّة إيفانا مرشليان، حيث تسأله: أنت وبول، تتشابهان؟

يجيب درويش "ما نحنا طلعنا من المكان نفسه، وعشنا المأساة نفسها، ولمّا التقيتُ بول أخبرته هالكلام". ثمّ يُقاطِع درويش مُحاورته بالإشارة إلى أنّ "آخر لوحة اشتريتها كانت للفنّان بول غيراغوسيان، من معرضه الباريسي الأخير، وضعتها في صدر الدار، وأتأمّلها كلّ يوم!".

وكان جواب بول غيراغوسيان حينها بالعاميّة "يا محمود، ما حدا بالعالَم بيفهم إللّي عملناه وعم نعملو، إلّا ناسنا المُشتركين. إللّي عشناه كان أكبر من إنّو نقدر نشرحو لناس مرتاحين ما عرفوا الاضطّهاد والنفي والحروب بحياتن".

ويصف غيراغوسيان مَشاعره تجاه لبنان بكلماتٍ تشبه القصيدة إذ يقول "لبنان حبيبتي، مريضة على فراش الموت، لذا يجب أن نبقى إلى جانبها ولن نسمح لها بالموت وهذا الوقوف يتطلّب القوّة، والحرب أمدّتني بهذه القوّة".

ويضيف "لم أكُن أريد أن أرى لبنان يحترق، لبنان كزهرة الربيع الحمراء يقومون بدعْسِها بالأحذية بكلّ وحشيّة. ثمّ مَن دَعَسَ على هذه الزهرة صار يدّعي الإنسانيّة ومُحارَبة الفقر والمجاعات. هناك أكاذيب وادّعاءات حول الحضارة، لكنّهم فعليّاً لم يتعلّموا شيئاً؛ لذلك فالفنّان في لوحته يكون نظيفاً وبطلاً وسْط هؤلاء الوحوش في الغابة".

يشرح غيراغوسيان أنّ المؤسّسات الفنيّة الغربيّة تنشر لوحات مُبدعيها وفنونهم، بينما هناك عزلة لوصول الفنّ العربي إلى الغرب. لذا يجب أن يتكاتف العالَم العربي ويصنع عالَماً لنفسه وبالتأكيد سيشكِّل صدمةً تُجبر الغرب على الاعتراف بالفنّ العربي، وليس إظهار العالَم العربي كمنطقة نفطيّة لا غير. وقد كانت له آراء جديدة طرحها حول الفنّ الغربي، حيث اعتبر أنّه صار أكثر تجاريّة بفعل الرأسماليّة وانغماس الفنّ في التجارة.

توفّي الفنّان بول غيراغوسيان في بيروت في العام 1993 وقد صار واحداً من الفنّانين المُحتفَى بهم في الشرق الأوسط وأوروبا، حيث حَصَدَ عشرات الجوائز، وتمّ اقتناء لوحاته من عددٍ من المَعارض والمَتاحف الفنيّة، وتمّ تأليف كُتبٍ عدّة عن حياته وأعماله. في العام 2011 أَنشأت زوجته وأبناؤه الخمسة "جمعيّة بول غيراغوسيان" لحفْظ الموادّ المتعلِّقة بفنّه وبمَسيرته المهنيّة وأرشفتها.

*كاتب من لبنان - مؤسسة الفكر العربي