دفاعاً عن الحداثة.. دفاعاً عن السوسيولوجيا

news image

في مُقابل التناسُل المُتهافِت لنَزعات ما بعد الحداثة التي تقول بمُجاوَزة الحداثة وهدمها، نجِد عالِم الاجتماع الفرنسيّ المُعَاصِر ألان تورين من خلال كِتابه الموسوم بـ: “دفاعاً عن الحداثة” يُدافع عن الحداثة كما يُبيِّن ذلك عنوان الكِتاب نفسه.

يبقى السؤال ها هنا هو: لماذا العَودة إلى الحداثة في ظلّ عصر يتنفَّس من نَزعات تقول بمُجاوزتها إلى ما يُسمّى بما بعد الحداثة، ومن ثمّ مُجاوَزة الحقيقة السوسيولوجيّة عَينها التي تُعَدّ بمثابة تأويلٍ حداثيّ للحداثة نفسها؟ أو بالأحرى، هل هي عَودة كرونولوجيّة إلى الحداثة المعهودة أم هي دعوة صريحة إلى إعادة بناء حداثة مُغايرة، ضدّاً في النزعات الاقتصاديّة المتوحِّشة وعَولمة الاقتصاد التي تنخر المُجتمعات المُعاصِرة التي بُنيت على أنقاض المُجتمع الصناعيّ القديم؟

إنّنا أمام دعوة صريحة إلى هدْم الحداثة المعهودة المُتعالِقة بالمُجتمع الصناعي الحديث وإعادة صياغتها في ضوء المُجتمع الجديد الذي نحن بصدد الدخول إليه: المُجتمع ما فوق الحديث la société hypermoderne المُطابِق للحظة الحداثة الفائقة l’hypermodenité. لهذا كان لزاماً علينا إعادة تشْيِيد بُنيان العلوم الاجتماعيّة بعامَّة والسوسيولوجيا بخاصّة على أُسسٍ جديدة تتوافق مع اللّحظة المُجتمعيّة الجديدة: فاعلون جُدد، وحركات اجتماعيّة جديدة، بل وتشكيلة مُجتمعيّة اقتصاديّة جديدة. دفاعاً عن الحداثة، بما هو دِفاع مزدوج؛ دفاعاً عن الحداثة كمُمارَسةٍ وتأويل؛ دفاعاً عن الحداثة والسوسيولوجيا.

دفاعاً عن الحداثة

لعلّ الشعار الأكثر تعبيراً عن الحداثة التي يُدافِع عنها آلان تورين والحالة هذه هو: “أيّها الإنسان إخلق ذاتك بذاتك”. إنّ الكائن الحديث هو كائن خلاَّق ومُبدِع في الدرجة الأولى، يُنتج ويُبدع ويصيغ ويهدم ذاته وتاريخه باستمرار بوصفه ذاتاً تاريخيّة متفرِّدة. بهذا المعنى يكون الإنسان الحديث كائناً تاريخيّاً في المقام الأوّل. هذه هي الفكرة التي جعلت من الإنسان ليس مجرّد مخلوقٍ طبيعيّ. ولأنّ الحداثة مُمارسات وتأويلات، فإنّها بالإضافة إلى كونها تُعرَّف وتُحدَّد انطلاقاً من القُدرة على الإبداع، والتحْويل، وصياغة التاريخ، فإنّها تُحدَّد أيضاً بالوعي الخلاَّق: وعي الإنسان بكونه منتوجاً لفعله هو نفسه. إنّها مُمارَسة لأنّها فعلٌ خلاّق، خلْق ماذا؟ خلق مزدوج: خلقاً للذَّات من خلال الشغل، وخلقاً لحقوق الإنسان من خلال معارك وصراعات التحرُّر والتحرير. وتأويل لأنّها تَفَكُّرٌ في فعْل الخلق نفسه؛ الوعي بكينونة الكائن البشري.. خالق الوعي.

بعيداً عن التعريفات المعهودة للحداثة، سواء تعلَّق الأمر بعقْلنتها أم مأْسستها، يُقدِّم لنا تورين الحداثة اليوم بوصفها “تجربة ذاتيّة تاريخيّة متفرِّدة”. يُقدِّم الحداثة بوصفها “تَذْوِيتاً” أو سيرورة تذويتيّة la subjectivation، ضدّاً في كلّ “سيرورة مضادّة و هادمة للتذويت” la désubjectivation. باعتبار التذويت “سيرورة يتملّك الفرد أو المجموعة من خلالها وعيه بذاته كذاتٍ بشريّة فاعِلة” Sujet humain، وليس كموضوع كما هو شأن التنشئة الاجتماعيّة أو أيّ منظومة اجتماعيّة، جزئيّة كانت أم كليّة، كما هو حال المُجتمع في حدّ ذاته: “لا ينبغي تصوُّر المُجتمع ما فوق الحديث.. بوصفه مُجتمعاً تقنيّاً، تجاريّاً و تواصليّاً، كمجتمعٍ للموضوعات فحسب، وإنّما ينبغي تصوُّره كمُجتمعٍ للذَّوات البشريّة الفاعلة”.

إنّ التذويت هو ما يُمكِّن الإنسان فرداً أو مجموعة من الوعي بحقوقه الأساسيّة (الحريّة، المساواة و الكرامة) ذات الطابع الكونيّ التي تضفي نَوعاً من الكونيّة على الذات البشريّة الفاعلة؛ الأمر الذي يتطلّب بلْورةً سياسة جديدة للدفاع عن حقوق الإنسان، كفيلة بتأهيلنا طبيعيّاً إلى الديموقراطيّة، بما هي اعتراف بحقوق الإنسان بغية مُواجَهة الأخطار التي تُهدِّد مُجتمعاتنا الرّاهنة من المنطق النيوليبرالي المتوحّش إلى الجماعات الهوياتيّة المتطرّفة كالقاعدة أو داعش على سبيل المثال لا الحصر، أمام تشكّل أشكالٍ جديدة من التحرُّر تتعلّق بمعرفة الذّات والعالَم. هذه هي الحداثة التي يُدافع عنها سوسيولوجيّ الحداثة.

دفاعاً عن الحداثة، ضدّاً في الإمبراطوريّات الجديدة من ناحية وضدّاً في الجماعات الهويّاتيّة المُتطرِّفة الجديدة من ناحية ثانية، التي تهدِّد فاعليّة الإنسان التاريخيّة ووجود العلوم الاجتماعيّة. تنطلق فكرة الحداثة هذه من الدعوة إلى إعادة التفكير في عصرنا؛ فالدّفاع عن الحداثة هو بمثابة دفاع عن فاعليّة الإنسان التاريخيّة والإبداعيّة. من هذا المنطلق، يدعونا ألان تورين إلى إعادة صياغة الأهداف المركزيّة للتحليل السوسيولوجيّ ومَعرفة العالَم من أجل إحياء حركات التحرُّر والتحرير: الحركات الاجتماعيّة الجديدة التي أضحت ثقافيّة وأخلاقيّة اليوم، أكثر منها اقتصاديّة واجتماعيّة، كما هو الشأن في المُجتمع الصناعي، وبالتالي سياسيّة وديموقراطيّة أكثر فأكثر.

دفاعاً عن السوسيولوجيا

لعلّ تصوُّر تورين للحداثة ليس جزيرة معزولة عن مَتنه السُّوسيولوجيّ بعامّة، وإنّما هو سيرورة معرفيّة للدَّرب السوسيولوجي نفسه الذي رَسَمَ مَعالِمه باستمرار في كلّ عَمل مِن أعماله. فمنذ أبحاثه الأولى عن العُمَّال والحركات الاجتماعيّة وصولاً إلى “دفاعاً عن الحداثة”، يَعمل تورين في الدَّرب نفسه: سوسيولوجيا تاريخانيّة.

تاريخانيّة، منظوراً إليها، لا كما النزعات التاريخيّة المعهودة التي تشترط الوجود البشري والمُجتمعي بشروط ومحدّدات تاريخيّة تطوريّة حتميّة، ولا كما تُقدِّمها فلسفات التاريخ والفكر الاجتماعي والسياسي عموماً، وإنّما منظوراً إليها، باعتبارها “النماذج الثقافيّة التي يُنتج بها مُجتمعٌ ما ذاته”، منظوراً إليها بوصفها “إبداعاً لتجربة تاريخيّة بعَينها”.

تجدر الإشارة في هذا المقام إلى المجرى الإبيستيمولوجي للتحليل السوسيولوجي: من الإبدال الاجتماعي إلى الإبدال الثقافي، أي الانتقال من تفسير الاجتماعي بالاجتماعي إلى تحليل الاجتماعي بالثقافي، في ضوء المُجتمع الحالي، المجتمع ما فوق الحديث، باعتباره مُجتمعاً تواصليّاً معلوماتيّاً؛ حيث صار الصراع الاجتماعي اليوم بمثابة صراع ثقافي وديموقراطي، بعدما كان في المُجتمع الصناعي صراعاً اجتماعيّاً واقتصاديّاً إلى حدٍّ ما. وعلى هذا الأساس، يقول تورين بنهاية المُجتمعات.. نهاية المُجتمعات الصناعيّة وتحلُّلها.

لا تُحدِّد تاريخانيّة مفكِّرنا المُجتمعَ إلّا بقدرته على الفعل في ذاته من خلال الصراع؛ ذلك الصراع الذي يقع اليوم في المُجتمع ما فوق الحديث بين سيرورتَيْ التذويت وهدْم التذويت، بعدما كان يقع في المُجتمع الصناعي بين الرأسماليّة والاشتراكيّة، وفي المُجتمع القانوني - السياسي قبله بين المَلَكيّة المطلقة والمُواطَنة. وعلى هذا النحو انتقلنا من عالَم المواطنِين، مروراً بعالَم العُمَّال، وصولاً إلى عالَم الذّوات الفاعلة أو بشكل أكثر تمسرحاً عالَم التذويت وهدْم التذويت. لهذا، فإنّ معركة المُجتمع الجديد هي معركة من أجل الذّات البشريّة الفاعلة من أجل الدِّفاع عن حقوق الإنسان المركزيّة الآنفة الذكر. وهل الحداثة شيء آخر غير هذا المجرى؟

بأيّ معنى يكون الدفاع عن الحداثة دفاعاً عن السوسيولوجيا أو عن سوسيولوجيا بعَينها؟ تبدأ اللّحظة السوسيولوجيّة عندما يعي المُجتمع أو مُجتمعٌ ما ذاته باعتباره نِتاجاً لفعله هو في حدّ ذاته. هذه قاعدة ومسلّمة من أهمّ القواعد والمسلّمات المركزيّة لإمكانيّة الشرط السوسيولوجيّ. وهي تشكِّل في الوقت نفسه أسّاً مركزيّاً من الأُسس الثلاثة للحداثة كما صاغها تورين. يتعلّق الأمر بالتأويل الثقافيّ لفعل الخلْق؛ القدرة على الخلق الذّاتي l’autocréation، والتحوّل الذاتيّ l’autotransformation والهدم الذاتيّ l’autodestruction. أيْ الوعي الذّاتيّ الخلاّق، الوعي الذّاتي بتاريخانيّة الذّات والمُجتمع، بمعرفة الذّات والعالَم. هنا بالضبط تكمن المهمّة التأويليّة للسوسيولوجيا التاريخانيّة التي يُدافع عنها تورين. بغضّ النظر عن كون الحداثة حضارة ماديّة أو تجربة أنثروبولوجيّة، وصراعاً اجتماعيّاً، فإنّها تبقى في المقام الأوّل تأويلاً ثقافيّاً لفاعليّة الإنسان الحديث منه وما فوق الحديث: إنسان الحداثة الفائقة. من هنا تستمدّ الفكرة التي تقول: إنّ السوسيولوجيا بنت الحداثة، أصالتها.

مهمّة السوسيولوجيا اليوم

مُجمل القول إنّ الدفاع عن الحداثة هو بشكل أو بآخر دفاعٌ عن المعرفة السوسيولوجيّة. أوَ ليست السوسيولوجيا بنت الحداثة كما قيل؟ إنّ الإنسان في نهاية المطاف هو منتوج لفعله هو عَينه، أو لنقُلْ إنّه مفعولٌ لتجربته التاريخيّة المتفرّدة. ومن هذا المنطلق، فإنّ السوسيولوجيا ليست شيئاً آخر أكثر من التفكير والتفكُّر في هذه التجربة التاريخيّة، وإبراز دَور الفاعلين الاجتماعيّين في إبداعهم ومُحاولتهم المُستمرّة للتحرُّر من قبضة المنظومة، بل إنّ مهمّة السوسيولوجيا اليوم هي الإسهام في إبداع هذه التجربة ذاتها ومُساعَدة الفاعلين الاجتماعيّين الجُدد على التحرُّر.

بهذا المعنى يكون الدفاع عن الحداثة بمثابة دفاع عن السوسيولوجيا.. دفاعاً عن أيّة سوسيولوجيا؟ دفاعاً عن سوسيولوجيا تاريخانيّة تنتصر للفاعل على حساب المنظومة، أيْ دفاعاً عن سوسيولوجيا لتاريخانيّة الفاعلِين أو بالأحرى سوسيولوجيا لتاريخانيّة الذّوات البشريّة الفاعلة، سوسيولوجيا مُغايِرة تأخذ بعَين الاعتبار الفاعليّة التاريخيّة للفاعلين في ضوء العصر الذي نعيشه، بدلاً من سوسيولوجيا تنتصر للمُجتمع ككليّة مفقودة على حساب تهميش الفاعليِن. سوسيولوجيا للحداثة وفاعلِيها، تُدافع عن الذّات البشريّة الفاعلة وتُسهِم بشكل أو بآخر في فاعليّتها؛ سوسيولوجيا مُغايِرة لحداثةٍ مُغايِرة كفيلة بمُقاوَمة المَخاطِر التي تتهدّد المُجتمعات الجديدة، إنْ لم يكُن تحريرها.

عثمان لكعشمي / كاتب من المغرب - مؤسسة الفكر العربي