«الاندفاع الترامبي»… سرعة القرارات بين التكتيك المدروس والتخبّط المحسوب

تحليل – BETH | مايو 2025
مقدّمة
منذ دخوله البيت الأبيض، وقَّع الرئيس الأميركي دونالد ترامب عدداً غير مسبوق من الأوامر التنفيذية وأطلق سيلاً من التصريحات المتلاحقة. هذا الاندفاع—الذي وصفه مراقبون في واشنطن بـ«الإندفاع الترامبي»—أحدث انقساماً داخلياً حادّاً، وارتباكاً لدى الحلفاء، وفضولاً لدى الخصوم الذين يتلمّسون حدود الخطوط الحمراء الجديدة. لكن السؤال الجوهري يبقى: هل هي قرارات مرتجلة بلا بوصلة، أم تكتيك تفاوضي محسوب يرمي إلى خلق «صدمة» تُرغم الآخرين على تقديم تنازلات؟
خارطة ردود الفعل
داخل الولايات المتحدة نشهد ثلاثة مستويات من التباين:
المؤسّسات الفدرالية تبدو كأنّها تلاحق أحداثاً تتغيّر أسرع من آلياتها البيروقراطية. بعض الوكالات تُسرّب تحفظاتها، بينما أخرى تسعى لتكييف لوائحها مع الأوامر الجديدة في سباق مع الزمن.
الكونغرس يعيش انقساماً حزبياً حادّاً؛ الجمهوريون يتأرجحون بين احتضان قرارات الرئيس والحذر من أثمانها، أما الديمقراطيون فيلوّحون بسيل من التحقيقات وعرقلة التشريعات.
الرأي العام ينقسم بدوره إلى معسكر يرى في السرعة دليلاً على الحزم والوفاء بالوعود، وآخر يعُدّها تهديداً للمؤسّسات وسمعة البلاد.
وعلى الضفة الدولية لا تقل التباينات حدّةً: حلفاء واشنطن التقليديون—أوروبا تحديداً—يعبرون عن قلقهم من صعوبة التنبؤ بخطوات الإدارة، بينما تتريث عواصم أخرى حتى تتضح المعالم.. في المقابل، تغتنم موسكو وبكين الفراغ الناتج عن التسرع لتقديم مبادرات موازية في الأمن والطاقة.
لماذا هذا التباين؟
سرعة غير معهودة: القرارات تصدر أحياناً من دائرة ضيّقة قبل التشاور الموسّع، فتبقى بلا إطار تفسيري متماسك.
أسلوب صدمة-تراجع: ترامب يرمي أقصى مطالبه أولاً ثمّ يتراجع جزئياً، فيربك الخصوم والحلفاء معاً.
تعدّد مراكز النفوذ في البيت الأبيض: مستشارو الأمن القومي والاقتصاد يتبادلون التأثير، فتخرج الرسائل متضاربة.
استقطاب داخلي: كل خطوة تُفسَّر من منظور حزبي بحت، ويغيب التوافق حول المصلحة الوطنية.
توقيت انتخابي: الرئيس يراهن على زخم قاعدته الشعبية، ويعتبر السرعة علامة وفاء لـ«اتفاقه» مع الناخبين.
ارتجال أم دراسة؟
ثمّة ملفات خضعت فعلاً لدراسات حملة 2024؛ الضرائب والهجرة مثالان على أوراق كان الفريق الانتخابي قد أعدّها مسبقاً. في المقابل، تُظهر مسودّات مسرّبة لأوامر تخصّ إيران والناتو أنّ تعديلات حاسمة أُدخلت في اللحظات الأخيرة، وهو ما يعكس مزيجاً من التكتيك والاندفاع. ما يبدو ارتجالياً أحياناً هو جزء من أسلوب تفاوضي يهدف إلى رفع سقف التوقّعات لتحقيق صفقة «مخفَّضة» لاحقاً.
هل يتراجع ترامب؟ أم يمضي قُدماً؟
التاريخ القريب يقترح سيناريوين واقعيين:
التعديل تحت الضغط. القضاء الفدرالي أو الكونغرس قادران على فرملة إجراءات معينة، فيما قد تدفع كلفة اقتصادية باهظة البيت الأبيض إلى إعادة النظر. التراجع سيُعرّض الرئيس لاتهامات «التخبّط»، لكنه قد يجنّب أزمة مؤسّسية كبرى.
المضيّ قُدماً. ترامب قد يفضّل تثبيت صورته كزعيم «يحطم القوالب» وينتزع تنازلات، خصوصاً إذا لمس دعماً متجدّداً. هذا المسار يكسبه نقاطاً على المدى القصير، لكنه ينطوي على مخاطر عزلة دبلوماسية وتأزّم داخلي أطول أمداً.
الأشهر الاثنا عشر المقبلة
صفقة جزئية مع إيران تبقى احتمالاً قائماً؛ تجميد للتخصيب مقابل تخفيف انتقائي للعقوبات—نجاحها يمنح الرئيس «نصراً دبلوماسياً» ويخفف الضغط الإسرائيلي.
مواجهة تجارية أوروبية واردة إذا أخفقت إعادة التفاوض على الرسوم الجمركية.
معارك موازنة داخلية قد تؤدي إلى تعطيل حكومي إن اشتدّ الخلاف الحزبي مع اقتراب انتخابات التجديد النصفي 2026.
تهدئة اضطرارية محتملة كلما اقتربت الاستحقاقات الانتخابية—فالشارع الأميركي يملك حساسية عالية تجاه الأزمات الاقتصادية الممتدّة.
خاتمة
وصف الإعلام الأميركي حالة الرئيس بـ«الاندفاع الترامبي»، لكنّ السرعة وحدها ليست معيار نجاح أو فشل. العبرة في قدرة الإدارة على ترجمة الزخم اللحظي إلى مؤسساتية مستدامة ومردود حقيقي على مصالح واشنطن. إن تحوّل الاندفاع إلى استراتيجيات متماسكة، فسيُسجل في خانة «التكتيك البارع»؛ أما إذا بقي كموجات متقطعة من القرارات والتغريدات، فسيُدوَّن لاحقاً كمرحلة ارتجال عبثت بمفاصل الداخل وأربكت حسابات الخارج. الزمن هو الحكم—والشهور المقبلة ستكون مختبراً حاسماً لنعرف: هل «الإسهال الترامبي» ظاهرة وقتيّة أم حيلة تفاوض طويلة النفس؟