مبضع التشريح: كيف نقرأ وعي وذائقة المجتمع؟

news image

✍️  عبدالله العميره  

 

هل يمكن الحكم على درجة وعي وذائقة مجتمع كامل من مسلسل درامي؟

قبل الإجابة، لنتوقف خطوة إلى الوراء: هل يجوز أن نختصر المشهد الفني لأي دولة في عمل واحد؟ هل حفلة غنائية جماهيرية تكشف لنا ذائقة شعب؟ وهل معرض كتاب مزدحم كفيل بأن يُقنعنا أن الثقافة في هذا البلد بخير؟

الجواب العلمي والعميق: لا. لكننا أيضًا لا نستطيع تجاهل هذه المؤشرات تمامًا.

الفن، الحفلات، المعارض، وحتى المسلسلات، ما هي إلا مرآة جزئية، تعكس جوانب من المجتمع، لكنها لا تقول كل شيء.

السؤال الجوهري: كيف نقيس الوعي والذائقة والثقافة في مجتمع ما؟

هنا ننتقل من العواطف إلى التحليل العلمي.

لفهم أي مجتمع نحتاج إلى أدوات، تمامًا كما يحتاج الطبيب إلى أجهزة دقيقة قبل أن يُشخص المرض. مبضع التشريح الاجتماعي قد يكون مؤلمًا، لكنه ضروري للشفاء والنهوض.

 

أدوات تشريح وعي المجتمع:

اللغة السائدة في الخطاب العام:

كيف يتحدث الناس؟ ما المفردات الأكثر تداولاً؟ هل تسود لغة التهكم، أم الحوار؟ هل تُستخدم المصطلحات الفكرية، أم لغة التسطيح؟

 

المحتوى الأكثر رواجًا:

ما أكثر ما يُشاهد ويُتداول؟ هل هي قضايا عميقة، أم ترندات تافهة؟ هل يتفاعل الناس مع وثائقي عن الفضاء؟ أم مع شجار في برنامج تافه؟

 

أنماط الاستهلاك الثقافي:

كم عدد المبيعات في معارض الكتب؟ وما الكتب الأكثر مبيعًا؟ كم عدد حضور المسرحيات؟ وهل الأفلام المنتشرة ذات جودة فكرية أم تجارية خالصة؟

 

ردود الفعل على الانتقادات:

كيف يتعامل المجتمع مع من ينتقده؟ هل يعتبره خائنًا؟ أم يستمع له ويفكر؟

 

المزاج العام على وسائل التواصل:

من هم المؤثرون؟ وعلى ماذا يؤثرون؟ هل ينتشر النُصح والتفكير؟ أم الجهل والتهريج؟

 

سلوكيات الناس في الشارع:

كيف يتعامل الناس مع بعضهم؟ هل توجد روح احترام؟ أم عنف لفظي ومادي؟

 

تعاطي المجتمع مع القوانين والأنظمة:

هل يُحترم القانون؟ أم يُلتف عليه؟

 

الوعي التاريخي والجغرافي والسياسي:

هل يعرف الناس شيئًا عن بلدانهم؟ عن تاريخهم؟ عن العالم؟ أم يعيشون في فقاعة محلية؟

 

متى نقول: هذا مجتمع واعٍ؟

عندما يُميّز بين التافه والثمين.

عندما يُفضّل العقل على الصراخ.

عندما يفرّق بين الفن والابتذال.

عندما يعرف أن النقد علاج، لا عداء.

عندما يطرح الأسئلة، لا يعيش على الإجابات الجاهزة.

تفاهة المحتوى لا تأتي من فراغ

 

في المجتمعات ذات الوعي المنخفض:

ينتشر من يملكون تأثيرًا على العواطف لا على العقول.

ويُصنع "النجوم" من صُنّاع التفاهة، لأنهم ببساطة يُشبعون الرغبات اللحظية.

يفرّ الجمهور إلى الملهيات، لا إلى المعاني.

 

وهنا مكمن الخطر:

من يُسيطر على الذوق… يُشكّل العقول.

جان جاك روسو… بعد 200 عام

حين غضب منه مجتمعه، قال عبارته الشهيرة: "ستفهمون ما أقوله اليوم بعد 200 عام"… ربما لم يحتج الأمر إلى قرنين، فقط نحتاج إلى شجاعة البداية، وأن نبدأ برنامجًا وطنيًا لرفع الذائقة والوعي.

بالمبضع… لا بالزيف.

ولأننا نؤمن أن الألم بداية الشفاء، فنحن في BETH لا نُجامل الغفلة، ولا نُعادي الحقيقة، بل نطرح الأسئلة الكبرى: كيف نُشخّص؟ ثم: كيف نرتقي؟

الجمهور بين القلب والعقل… تجربة "شارع الأعشى"

في لقاء قصير مع أحد ممثلي مسلسل "شارع الأعشى"، كشف أن كثيرين وجّهوا له السباب والتهديد فقط لأنه في أحد المشاهد "ضرب فتاة" في إطار الدور التمثيلي.

هذه الانفعالات، رغم سطحيتها، تكشف بُعدًا عميقًا: يتابع الناس بأعصابهم، لا بعقولهم.

المشاعر تأخذهم أكثر من التحليل. يتعاطفون مع المظلومة إلى حد البكاء، ويحنّون إلى الماضي الذي صوّره المسلسل كقصة غرامية حالمة. هذا الانفعال العاطفي قد يبدو إيجابيًا من حيث "طيبة الشعب"، لكنه في الإعلام يُصنّف ضمن الجمهور المتردد.

و"المترددون" – بحسب تقسيمات العقول في الإعلام – هم الشريحة الذهبية التي تُستهدف لجلب الأموال، لا لتوعيتها.

يقابلهم:

القائد: من يصنع التأثير.

المسرنِم: من يتبع دون تفكير.

المحايد: من لا يُعير شيئًا اهتمامًا.

لكن أخطرهم… هم المترددون: يتذبذبون بين الوعي واللاوعي، بين الحُكم والتعاطف، وهم من تُصبّ عليهم صناعات الإعلام الرابحة.

فمن يربح المتردد… يربح السوق.

🎯 في إعلام BETH… التشريح ليس لإيذاء المجتمع، بل لاستنهاضه،

والتنوير يبدأ حين نواجه الحقيقة، لا حين نخفيها.

 

لكن ..

نحب ما كان… ولا نسكنه

الحنين إلى الماضي هو شعور عاطفي عميق بالاشتياق لأوقات سابقة في حياة الإنسان، غالبًا ما تكون مرتبطة بلحظات جميلة أو بسيطة، أو بشعور بالأمان والطمأنينة. هو ليس مجرد تذكّر، بل حالة وجدانية يعيش فيها الإنسان لحظات الماضي وكأنها أجمل مما كانت، حتى لو كانت بسيطة أو عادية في وقتها.

يمكن أن يكون الحنين إلى الماضي:

هروبًا من واقع مرهق، أو بحثًا عن الراحة النفسية في الذكريات.

تعبيرًا عن خوف من المستقبل أو عدم الرضا بالحاضر.

أو نوعًا من الوفاء للذكريات التي شكّلت وجدان الإنسان.

في العمق، هو محاولة لاستعادة شيء فقدناه: طمأنينة، براءة، حب، أو حتى أنفسنا كما كنا.

تقدر تقول باختصار:

"الحنين هو ذاكرة القلب… وليس فقط ذاكرة العقل."

لكن رغم عذوبته، فإن الحنين لا يُفقد الوعي… بل يُوقظه أحيانًا.

هو تلك الارتعاشة الخفيفة في القلب حين تمرّ صورة، أو صوت، أو لحظة. شعور يُولد من عمق الوعي، لا من غيابه. لكنه إن طغى، إن صار ملاذًا دائمًا، تحوّل من نعمة الشعور إلى عبء الهروب.

الوعي الحقيقي لا يُعادي الحنين، بل يضعه في مكانه الصحيح: خلفنا لا أمامنا…

فمن عاش داخل الذاكرة أكثر مما يعيش في الواقع، بدأ يفقد البوصلة التي تقوده لما يجب أن يكون.

وقد يُصبح الماضي، بكل جماله، سجنًا ناعمًا يمنع التقدّم.

فالحكمة ليست في كبت الحنين، بل في تهذيبه…

أن نستلهم من الماضي لا أن نسكنه، أن نحب ما كان، دون أن نُفرّط فيما هو آت.