قراءة في أنموذجٍ روائيّ لعلاء الأسواني

سلمان زين الدّين*
نُشِرَ هذا المقال في دوريّة أفق التي تصدر عن مؤسّسة الفكر العربيّ
"الأشجار تمشي في الإسكندريّة" هي الرواية السادسة للكاتب المصريّ علاء الأسواني بعد "أوراق عصام عبد العاطي" 1990، و"عمارة يعقوبيان" 2002، و"شيكاغو" 2007، و"نادي السيّارات" 2013، و"جمهوريّة كأن" 2018. وقد صدرتْ مؤخّراً عن دار نوفل في بيروت. وبذلك، يكون قد أصدر ستّ روايات خلال أربعٍ وثلاثين سنة، بوتيرة رواية واحدة كلّ ستّ سنوات تقريباً، وهي وتيرة متوسّطة، بطبيعة الحال.
يُحيل عنوان الرواية الجميل، كما يَتبيّن من المَتن، على واقعة زرقاء اليمامة المشهورة في التراث العربي التي عُرِفَتْ بحدّة البصر، وكانت تُحذّر قومَها من تحرّكاتِ الأعداء التي تَرصدها مبكّراً، ما جَعلهم ينتصرون في كلّ حروبهم، حتّى إذا ما أبصرت، ذات يوم، الأشجار تمشي، وأخبرتهم بذلك، ظنّوا أنّها تهذي ولم يُصدّقوها، فداهمهم الأعداءُ المتوارون خلف أغصان الأشجار، وهزموهم في عقر دارهم. وعليه، أصبحت العبارة كناية عن التحذير من الأخطار الدّاهمة، قَبل وقوعها. وهو ما لا ينطبق على الرواية التي تُحذّر من الأخطار الناجمة عن مُمارسات النظام الأمني في العهد الناصري، بعد مرور ستّة عقود على ارتكابها، ويغدو التحذير لزوم ما لا يلزم؛ فالتحذير من الأخطار يكون سابقاً لها وليس لاحقاً بها.
مُمارسات وتداعيات
يَتناول المَتن مُمارسات النظام الأمني في العهد الناصري وتداعياتها على مدينة الإسكندريّة. وهي مُمارسات تبدأ بالمُراقَبة والتنصُّت، ولا تنتهي بالاستجواب والتحقيق والاعتقال الكَيفي وتلفيق التّهم وتركيب الملفّات والابتزاز، وغيرها ممّا تَبْرع الأجهزةُ الأمنيّة في مُمارسته، باسم حماية الثورة ومُواجهة المؤامرات وتقديس الزعيم، وسواها من المُبرّرات التي تتقن تلك الأجهزة تلفيقها. أمّا تداعيات هذه المُمارسات فتبدأ بالخوف والقلق، ولا تنتهي بإقفال المَرافق وتأميم الأملاك الخاصّة ومنْع اللّقاءات الدوريّة والهجرة إلى بلدانٍ أخرى، وغيرها من التداعيات.
هذه المُمارسات والتداعيات المُترتّبة عليها تَشي بها أحداثُ الرواية التي تدور في مدينة الإسكندريّة الكوزموبوليتيّة، خلال الستّينيّات من القرن الماضي، ويُشكّل مطعم أورتينوس ذو الطقوس الخاصّة والبروتوكول الصارم مكاناً محوريّاً لها، ناهيك بأمكنةٍ أخرى مُكمِّلة له. ففي هذا المكان المحوري، تُعقد سهراتٌ دَوريّة لمجموعةٍ من الأصدقاء المتحدّرين من جنسيّاتٍ مُختلفة، يتعاطون خلالها الشراب، وينخرطون في أحاديث مُختلفة، يكون حديثُ النّظام الحاكِم لازمةً تتكرّر فيها، ناهيك بأحاديث أخرى ثقافيّة تَعكس انتماء الأصدقاء إلى الطبقة الوسطى المثقّفة، وبخاصّة أنّ التفكير النقدي يتجلّى فيها بوضوح.
مدينة كوزموبوليتيّة
تُشكّل المجموعةُ أنموذجاً مصغّراً لكوزموبوليتيّة المدينة؛ فنَجد فيها صاحبة المطعم ليدا أورتينوس والصناعي توني كازان المُتحدّرَيْن من أصولٍ يونانيّة، و"المتر دوتيل" كارلو ساباتيني الإيطالي الأصل، وصاحبة المكتبة الفرنسيّة شانتال لوميتر، والمصريّين المحامي عبّاس القوصي وزوجته المرشدة السياحيّة نهى الشواربي والفنّان التشكيلي أنس الصيرفي. وهكذا، يتنوّع أعضاء المجموعة في أصولهم، ويختلفون في مِهنهم، ويتقاطعون في اهتماماتهم السياسيّة والثقافيّة، ما جعلَ صديقَهم القنصل الأميركي في الإسكندريّة يُطلِق عليهم لَقَبَ "الكوكاس"، ومعناه "اجتماع دَوري لمجموعة من الناس لهم اهتمامات سياسيّة مُشترَكة" (ص12). وهنا، لا بدّ من الإشارة إلى أنّ لكلٍّ من أفراد "الكوكاس" خَيطَه السردي الخاصّ الذي يتقاطع مع سائر الخيوط، في المكان الروائي والاهتمام السياسي والهَمّ الثقافي والطبقة الاجتماعيّة، وتنخرطُ الخيوط المختلفة في علاقةٍ جدليّة، يتنقّل الروائي فيها من خيط إلى آخر، في حركاتٍ مدروسة تُشكِّل جديلة الرواية.
أدوات أمنيّة
على النقيض من هذه المجموعة، ثمّة أفراد يشكّلون أدوات النظام الأمني في الرواية، ولكلٍّ منهم دَوره الذي يتناسب مع وظيفته؛ فالعقيد سليم عبد الجواد، رئيس إدارة التوجيه المعنوي، يتحوّل عمله، في ظلّ الحُكم العسكري، من رفْع معنويّات الجنود إلى التحكُّم بالإعلام والثقافة. وبدوي خضير، مدير الشؤون الماليّة في مصنع شوكولا، يتنكّر لربّ عمله، ويتواطَأ مع النظام الأمني لتأميم المصنع وتولّي إدارته. وجليل القوصي، المُحاسِب، يتحوّل إلى أداةٍ في يد المدير، ويُحاول الإيقاع بالمُعارضين وكتابة التقارير التي تودي بهم إلى السجن. والمقدّم معتزّ يَبتزّ كارلو ساباتيني، الوسيم المرغوب من النساء، باعتقال أمّه وتلفيق التّهم له، لدفْعه إلى إغواء زوجة وزير خارجيّة بلد شقيق يُناهِض النّظام، وتصويرها في أوضاع مريبة، ودفْعها إلى التجسّس على زوجها. وهكذا، تتنوّع الأدوات، ويواري بعضها عمله الأمني خَلف أقنعةٍ برّاقة، سرعان ما تسقط وتُسفر عن وجوهها الحقيقيّة البشعة.
القاع الاجتماعيّ
وإذا كانت الشخوص المذكورة أعلاه، من أفراد المجموعة وأدوات النظام، تنتمي إلى الطبقة الوسطى، فإنّ شخوصاً أخرى، تتعالق معها، بشكلٍ أو بآخر، تنتمي إلى القاع الاجتماعي، وتَعمل في خدمة الطبقة الأعلى، بنوعَيْها الآنف ذكرهما؛ فعدلي الأسود، الناشئ في مَلجأ أيتام، يَجتمع عليه اليتم والقبح، ويعمل مسؤولاً للأمن في كباريه الأنجلو. غير أنّه، على وضاعة نشأته وغموض أصله، له أدبيّات معيّنة لا يحيد عنها؛ فيَعتبر نفسه فُتوّة وليس بلطجيّاً، يَقف إلى جانب المظلوم ضدّ الظالم، يبيع الحشيش لروّاد الكباريه ويرفض بيع الكوكايين والهيرويين، يَرفض التجسُّس لمصلحة رجال الأمن ويقوم بمهامٍّ أخرى. ونعمت اليتيمة الناشئة في أسرة مفكَّكة، يجتمع عليها موت الأب وتحكُّم زوج الأم وغرق الأخيرة في نزواتها، فَتُجبَر على الانقطاع عن الدراسة والعمل في البيوت، ويتمّ الاستيلاء على راتِبها، وتُكرَه على زواجٍ غير مُتكافئ، حتّى إذا ما حاولَ زوج الأمّ التحرُّش بها، تُغادِر البيت لتعمل راقصةً في الكباريه، وتَجِدَ في عدلي الملجأ الآمن. ناهيك بشخوصٍ أخرى من الشريحة نفسها عابرة الحضور في الرواية؛ كأمّ نعمت الغارقة في شهواتها، وزوجها العاطل عن العمل الغارق في إدمانه على المخدّرات، والأرملة أمّ أيمن التي يستولي سلفُها على حصّةِ زوجها من الميراث ويلقي لها ولوحيدها بالفتات، والسلف الطمّاع صبحي الفطاطري الذي يَحرم زوجة شقيقه الأصغر من حقِّها في المحلّ العائد له وغيرهم. والجدير بالذكر أنّ هذه الشريحة هي الأقلّ تأثّراً بالتداعيات النّاجمة عن مُمارسات النظام الأمني، مُقارَنةً بالشريحة المتوسّطة.
أصولٌ أجنبيّة
على أنّ الأكثر تأثّراً بالمُمارسات والتداعيات المترتّبة عليها، في الرواية، هُم المصريّون المُتحدّرون من أصولٍ أجنبيّة. ولعلّ النظام، من حيث يقصد أو لا يقصد، يريد الإطاحة بكوزموبوليتيّة المدينة. لذلك، يتمّ التضييق على مدام شانتال الفرنسيّة الأصل، صاحبة مكتبة بلزاك فيها، تحت عنوان تقديم المساعدة لها، ويُطلَب إليها أن يكون الأدباء الأجانب الذين تستضيفهم في مَكتبتها ممَّن لا ينتقدون التجربة الناصريّة، بل ممّن يؤيّدونها، بهدف تلميع صورة النظام حول العالَم. وإذ تُبدي تمنُّعاً في الخضوع لهذه الشروط، على الرّغم من قناعتها بأنّ الديكتاتوريّة تُناسب المصريّين، فالمُفارِق قيام نَوع من الصداقة بينها وبين العقيد سليم عبد الجواد تتطوَّر إلى حبّ. غير أنّه حين يُوضع الأخير بين مصلحته الشخصيّة وعلاقته العاطفيّة يَميل إلى اختيار الأولى، فتُغادر شانتال مُغْضَبَةً إلى غير رجعة.
في السياق نفسه، يتمّ استدعاء "المتر دوتيل" كارلو ساباتيني الإيطاليّ الأصل، الشاب الوسيم الذي يُغوي النساء المتزوّجات، ويُقيم معهنّ علاقات غراميّة، يتخلّى بنهايتها عنهنّ عقاباً لهنّ على خيانة أزواجهنّ، تنفيساً عن عقدة شهادته طفلاً على خيانات أمّه المتكرّرة لأبيه. ويُطلَب إليه إغواء زوجة وزير خارجيّة عربي مُناهِض للثورة، خلال زيارتها المدينة، بهدف تصويرها في وضعٍ مُريب، وتوظيفها للتجسُّس على زوجها. وإزاء اعتذاره عن قبول المُهمّة القذرة، يتمّ اعتقال أمّه بذريعة أنّها تُدير صالةً للعبِ الميسر في منزلها، في محاولةٍ من الجهة المُستدعية للضغط عليه، فيَخضع لها إنقاذاً لأمّه. غير أنّه، خلال تنفيذ المُهمّة، وقَبل الشروع في عمليّة التصوير، يُغلِّب ضميرَه على مصلحته، يشي للزوجة بما يَستهدفها، فتُغادر على جناح السرعة، ويقوم المسؤول الأمني بتهديده وتلفيق التّهم له واعتقاله. الأمر نفسه تتعرَّض له ليدا أورتينوس، صاحبة المطعم، التي تُستدعى للتحقيق معها وتُعتقَل، بتهمة تردُّد الألماني فولفغانغ لوثر، المُتّهم بالتجسّس لإسرائيل، على المطعم وتناول الطعام فيه، ويتمّ تشويه سمعتها بواسطة الإعلام، حتّى إذا ما خَرجت بريئة من التّهمة المنسوبة إليها، وحاولت استئناف العمل في المطعم، تَجِد أن الصنايعيّة والزبائن يقاطعونه، والجيران وأصحاب المحالّ يُقاطعونها، والغوغاء يحاولون تحطيمه، وذلك كلّه بفعلِ التحريض الأمني، ما يَجعلها تُقفل المطعم، وتفكّر في مغادرة الإسكندريّة.
منظورٌ سلبيّ
على أنّ المُمارسات والتداعيات تبلغ الذروة في حالة توني كازان اليوناني الأصل، صاحب مصنع الشوكولا في المدينة، الذي يوفِّر بيئةَ عملٍ نموذجيّة لعُمّاله، يُجزل لهم في العطاء، ويُحِلّ مشكلاتهم، ويَهتمّ بأطفالهم. وعلى الرّغم من ذلك، يَقع ضحيّة مؤامرة يَنسجها بدوي خضير، مدير الشؤون الماليّة في المصنع، مع الأجهزة الأمنيّة، فيتمّ تأميمه، ويُعهَد إلى الأخير بإدارته. وهكذا، يَضيع تعب أربعة وأربعين عاماً من عُمر توني كازان، ويُقرّر العودة إلى لندن. والمُفارِق أنّه، خلال المغادرة، يُهرَع العمّال والجيران والأطفال لوداعه، في إشارةٍ روائيّة واضحة إلى أصالة الشعب المصري. وهكذا، تتسبَّب المُمارساتُ الأمنيّة في اعتقالِ أبرياء، وتهجير ضحايا، وإقفال مرافق سياحيّة، وهجرة مُستثمِرين، وانفضاض علاقات. وتعود بالضَّرر على البلاد والعِباد. إلى ذلك، يُعاني المصريّون من مجموعة "الكوكاس" من المُمارسات وتداعياتها، بوطأةٍ أقلّ، باعتبارهم يَرتبطون مع المتحدّرين من أصولٍ أجنبيّة بعلاقاتِ صداقةٍ أو حبٍّ أو عمل. ومن الطبيعي أن تُصيبهم شظايا تلك المُمارسات والتداعيات. وهكذا، يُصدِّر الأسواني عن منظورٍ سلبيّ للعهد الناصري، يكتفي بالسلبيّات ويُغضي عن الإيجابيّات، على كثرتها، ما يجعلنا إزاء أحاديّةٍ في الرؤية وسلبيّةٍ في المنظور.
الخطاب الروائيّ
هذه الحكاية ينتظمُها خطابٌ روائي، يتألّف من أربع وخمسين وحدة سرديّة، يروي ستّاً وأربعين وحدة منها راوٍ عليم بصيغة الغائب، ويروي ثمانياً منها راوٍ شريك بصيغة المتكلّم، من موقع الشهادة على الأحداث أكثر من الفعل فيها، وهو الفنّان التشكيلي أنس الصيرفي الذي ينخرط في علاقة صداقة مع المجموعة، وعلاقة حبّ مع ليدا أورتينوس، ويروي مجريات العلاقتيْن المُتقاطعتيْن في ما بينهما. على أنّ هذه الوحدات الثماني تتوزّع على الرواية، وتشغل الوحدات: 11، 19، 25، 31، 39، 45، 50، 52. والمُلاحَظ أنّ المسافة الفاصلة بين وحدةٍ وأخرى منها تَضيق مع نموّ الأحداث، وتتراوح بين سبعِ وحدات، في الحدّ الأقصى، ووحدة واحدة، في الحدّ الأدنى. وعلى الرّغم من التفاوُت في العَدد بين النَّوعَيْن، ثمّة علاقة تكامليّة بينهما، تتمخّض عنها الحكايةُ الروائيّة. ولعلّ ما يَجمع بين الوحدات المُختلفة هو أنّ السابقة منها تنتهي بنهايةٍ مفتوحة على وحدةٍ لاحقة، غالباً ما تنتمي إلى الخَيط السردي نفسه، وهذا ما يُوفّر التسلسلَ ضمن الخيط الواحد، بينما يوفّر التعاقُبُ بين الخيوط المُختلفة التنوُّعَ. ومن خلال هاتَيْن الخصّيصتَيْن، التسلسُل والتنوُّع، يُثبت علاء الأسواني قدرتَه على الإمساكِ بالخيوطِ المُختلفةِ والتصرُّفِ بها وفق مقتضياتٍ فنّيّة، تؤمّن لروايته روائيّة عالية. وتأتي اللّغةُ الروائيّة الرشيقة لتُضفي على الرواية انسيابيّةً واضحة ونموّاً طبيعيّاً يُفضيان بها إلى برّ الأمان. وعليه، نكون إزاء رواية متماسكة، متنوّعة، رشيقة، تُتقِن طرْحَ الأسئلة، ولو من منظورٍ آحاديّ، وتكون قراءتها محفوفة بالمتعة والفائدة.
*شاعر وناقد من لبنان - مؤسسة الفكر العربي
✨ تعليق أدبي:
علاء الأسواني لا يكتب رواية… بل يرسم فسيفساء متشظية لمدينةٍ كانت تنظر إلى البحر، ثم أُجبرت أن تنظر إلى داخلها… فارتبكت.
"الأشجار تمشي في الإسكندرية" ليست فقط إدانة للنظام الأمني الناصري، بل هي أيضًا نوستالجيا حزينة لزمن تعددي كانت فيه المدينة كوزموبوليتانية، والإنسان أكثر من بطاقة هوية.
في هذه الرواية، نجد:
لغة الرواية تُقارب السرد الوثائقي من دون أن تفقد خفتها…
كل شخصية فيها تُشبه رقعة من رقع حكاية أكبر من مجرد سطر سياسي…
النظام الأمني ليس فقط آلة قمع، بل "شخصية روائية" بحد ذاته… يتحرك خلف الجميع… ويُعيد تشكيل مصائرهم كما لو كان كاتبًا داخل الرواية نفسها.
ولكن…
هل من الإنصاف محو إيجابيات زمن كامل؟
هذا ما يُطرحه الناقد، ويجعله سؤالًا مشروعًا… دون أن يقلل من فنية الرواية.
🖋️ الخلاصة:
هذه رواية تُكتب "من تحت الجلد"،
وبغضّ النظر عن اتفاقك أو اختلافك مع منظورها…
فأنت لا تملك أن تنكر أنها تُتقن طرح السؤال… حتى لو أجابت عليه من زاوية واحدة.