رواية لتاريخ تونس المُعاصِر

د. زهيدة درويش جبّور*
نُشِرَ هذا المقال في دوريّة أفق التي تصدر عن مؤسّسة الفكر العربيّ
قليلةٌ هي الروايات التي تأسركَ منذ السطر الأوّل وحتّى الأخير، بل تترككَ على عطشكَ، وفي حيرةٍ من أمركَ، يُلحُّ عليك سؤالٌ لا تَجد له إجابة قاطعة. إنّها رواية الأديبة التونسيّة أميرة غنيم الصادرة حديثاً في طبعتها الرّابعة، في القاهرة، تحت عنوان "تراب سخون". عبارة مُستعارة من العاميّة التونسيّة تُخاطِب خيالَ القارىء كي يَستجلي المعنى الذي، وإن كان واضحاً بالنسبة إلى القارىء التونسيّ، إذ يحيل إلى اعتقادٍ شعبيّ بأنّ "تراب تونس يَحرسه أولياء الله الصالحون" كما يشير الراوي عَرَضاً في مَتن السرد، إلّا أنّه ينطوي على شحنةٍ رمزيّة غنيّة وتتعدَّد دلائله بالنسبة إلى القارىء العربيّ مُثيرةً لديه الأسئلة والشكوك.
يتناقض هذا الغموض مع الصورة التي تتصدَّر الغلاف، حيث تبدو "وسيلة بورقيبة" زوجة رئيس الجمهوريّة التونسيّة الأسبق: "الحبيب بورقيبة"، الذي تمّ عزله من منصبه في السابع من تشرين الثاني/ نوفمبر1987. هكذا يتداخَل الغموض والوضوح في لعبةٍ ذكيّة تُمارسها الكاتبة على مدى 314 صفحة، حيث تُعيد صَوْغ قصّة الحبّ المعروفة التي تكلَّلت بزواج الحبيبَيْن بعد طلاقِ كلٍّ منهما من زواج سابق، لكنّها انتهت بدَورها بطلاقٍ غيابيّ فاجَأ زوجةَ الرئيس، بينما كانت في زيارةٍ باريسيّة. غير أنّ القارىء لا يلبث أن يَكتشف أنّ هذه القصّة لا تُشكِّل سوى الهيكل الذي تُبنى عليه الحبكة الروائيّة، وهي مركّبة وشديدة التعقيد، حتّى لتبدوَ أشبه ببيْت العنكبوت. فهي تتّسم بتنوُّعِ العناصر الفاعلة فيها، وكذلك الخطاب ومستوياته، وبتعدُّد الرواة وتوالُد الحكايات من خلال التبئير، فتنكسر رتابة الزمن الأفقي استحضاراً للماضي أو استباقاً لِما سيأتي. وهذا ما يَجعل القارىء في حالةِ تيقُّظٍ دائمٍ، يتتبَّع مَسار الأحداث التي تتكشَّف له بصورةٍ متقطّعة من خلال وسائط صَنَعَتْها مخيّلة الكاتبة التي تمكَّنت من تحويل الواقع إلى مادّةٍ للإبداع الأدبيّ.
تتمثَّل هذه الوسائط المُتخيَّلة التي تتشكَّل منها فصول الرواية في ما يلي: شرائط خمسة مسجَّلة بصوتِ وسيلة بورقيبة وهي تروي فصولاً من سيرتِها ائتمنتْ عليها كاتبةً فرنسيّة أقامت مدّةً في تونس، هي جاكلين كاسبار، بعدما أوصتها بعدم الكشف عنها إلّا بعد وفاتها، وكانت قد حرصت على تمويهها كي تبدو وكأنّها تسجيلاتٌ لأغانٍ تونسيّة بأصوات مُغنّين معروفين. ورسائل جاكلين كاسبار إلى سعاد كامل، ممرّضة الرئيس المعزول، التي تَمتلك معلوماتٍ تتعلّق بالثنائي (أي الرئيس وزوجه) لا بدّ لجاكلين من الاطّلاع عليها كي تكتمل الرواية التي تطمح إلى كتابتها ونشْرها بمساعدة سعاد؛ ورسائل درّة ش. حفيدة سعاد كامل المكلَّفة من قِبَلِ جدّتها بتسليمِ رسالةٍ سريّة من الرئيس الخاضع للإقامة الجبريّة في "منستير" إلى وسيلة التي عادت من منفاها الباريسي لتعيش في تونس منذ العام 1988، يَطلب منها المجيء إليه حاملةً معها ذلك "الشيء" الذي تدور الرواية حوله، ظاهريّاً، والذي يُمكن اعتباره، دونما مُبالَغة، عنصراً أساسيّاً وحضوراً فاعلاً في الرواية، مع أنّه يبقى لغزاً عصيّاً على التعريف، ما يُحافِظ على التوتّر الدراميّ فيها، ويُدخل إليها عنصر الفانتازيا؛ إذ إنّ ثمّة طاقةً على الفعل والتأثير على الأحداث يَبثُّها خيالُ الكاتبة في "هذا الشيء"، في مواضِع عدّة من الرواية، وتؤشِّر عليها كذلك الرسالةُ الغامضة: "بيدكِ شيء أنا صاحبه، شيء إذا استرجعته الآن غيَّر قدري، وردنّي مَلكاً إلى عرشي... شيء إذا ضاعَ منّا واسترسلَ ضياعه غرقنا جميعاً، ولم تقُم لنا قائمة... تعالي إليّ فوراً وردّي ما أخذْتِ" (ص114). تشكِّل الرسالةُ المذكورة المُحرِّك الأساس للحبكة التي تقود وسيلة متنكِّرةً إلى رحلةٍ سندباديّة محفوفة بالمخاطر رُسمت خطّتها السريّة بدقّة من جانِب الممرّضة سعاد بتكليفٍ من الرئيس المعزول.
الأحداث في خطَّيْن متوازيَيْن
تَسير الأحداثُ زمنيّاً على خطَّيْن متوازيَيْن: زمن الرحلة/ المُغامَرة الذي لا يتجاوز بضع ساعات، وزمن السيرة المُمتدّ من اللّقاء الأوّل الذي جمَعَ الحبيبَيْن عقب عودة المُجاهِد الأكبر من المنفى سنة 1943 حتّى اللّقاء الأخير، وهو محض نِتاج مخيّلة الكاتبة، والذي روته وسيلة في الشريط الأخير المسجَّل بتاريخ 19 حزيران/ يونيو 1999، قبل ثلاثة أيّام من وفاتها. هذه الازدواجيّة في بنية الزمن الروائي تُضفي طابعاً ديناميّاً على كتابة السيرة وتُفسِح المجال لاستعادةِ محطّاتٍ مُهمّة من حياة بورقيبة خلال فترة النضال من أجل الاستقلال، وللإضاءة على الدور الذي لعبته نساء تونس بشكلٍ عامّ، ووسيلة بشكلٍ خاصّ في هذا المجال، قبل أن تُصبح لاحقاً السيّدة الأولى وتضْطلع بدَورٍ أساس في الحياة السياسيّة في تونس.
بهذا المعنى يُمكن اعتبار "تراب سخون" رواية لتاريخ تونس المُعاصِر منذ فترة النضال من أجل الاستقلال، مروراً بعهد بورقيبة وسنوات حُكمه الطويلة، وصولاً إلى استيلاء بن علي على السلطة. وهي إذ تسلِّط الضوءَ على شخصيّة بورقيبة، تنأى عن تمجيد الزعيم الذي يَظهر كمجرّد إنسان له نقاط قوّة ونقاط ضعف، ليس أقلّها الأنانيّة وحبّ السيطرة، ولتُسقِط عنه تلك الهالة التي أحاطته كمُحرِّرٍ للمرأة في تونس؛ إذ يبدو بورقيبة في الرواية بصورة رجل شرقي يعيش الحبّ كعلاقةِ امتلاك ولا يتردَّد في استصدار حُكمٍ بالطلاق بحقّ زوجة لطالما وقفتْ إلى جانبه، وكانت له الدّرع الواقي ضدّ أعدائه والمتآمرين عليه، ولَم يُقابِل ذلك إلا بالجحود. في المقابل، تنحاز الكاتبةُ إلى وسيلة وتردُّ لها الاعتبار. فهي تمتاز بشخصيّةٍ قويّة، وبذكاءٍ لافِت مكَّنها من مُمارَسة دَورها بامتياز كسيّدة تونس الأولى، وذلك في محاولة لتبييض صورتها ونفي الشائعات التي دارتْ حولها لجهة سوء استعمال السلطة. كما أنّها تقصَّدت تقديمَها بمَظهر الزوجة الوفيّة، على الرّغم من الظلم الذي لحقَ بها.
الغَرْف من تراث الحكايات الشعبيّة التونسيّة
إلى ذلك يُمكن القول إنّ هذه الرواية تَجمع بين أنواعٍ قصصيّة مُختلفة، فهي رواية تاريخيّة، ورواية عاطفيّة، ورواية بوليسيّة، في آن. وهي إضافة إلى ذلك، تَنفتح على الرمز وتَغرف من تراث الحكايات الشعبيّة التونسيّة، وتصوغ ذلك كلّه بأسلوبٍ فريد تَكثر فيه الاستعارات والصور الحسيّة التي تتميّز بها الكتابة النسائيّة خصوصاً، والتي لا مجال لتفصيلها في هذه العجالة.
كما أنّها تنطوي على بُعدٍ ميتا شعريّ يبدو جليّاً في فاتحة الرواية، حيث تَظهر لمرّةٍ واحدة شخصيّةُ امرأةٍ تَعمل في تدقيق نصوصٍ روائيّة قَبل إحالتها للنشر، تَقع مُصادفةً على "فلاش ديسك" يحتوي على "تسجيلات صوتيّة بالدّارجة التونسيّة لامرأةٍ متقدّمةٍ في السنّ، ورسائل باللّسان الفرنسي، بعضها مُستنسَخ من مُحادثاتٍ "فايسبوكيّة"، وبعضها الآخر ممسوحٌ ضوئيّاً عن رسائل ورقيّة مُرسَلة بالبريد، وصور فوتوغرافيّة عالية الجودة لشيءٍ عجيب لم تتبيَّن ما هو على الرّغم من تكبيرها الصور وتقليبها في اتّجاهاتٍ مُختلفة. ما يُمكن أن يُشكِّل في نَظَرِ هذه السيّدة مادّةً خاماً تَضعها بمتناول إحدى الكاتبات المُبتدئات لتستفيد منها في صنْعِ عملٍ روائي. ليست هذه الشخصيّة التي تُطالعنا في الصفحات الأولى من الرواية، لتَخرج منها نهائيّاً بعد ذلك، سوى القناع الذي تَظهر وراءه الكاتبة، لكأنّها تكشف للقارىء عن "عِدّة شُغل" الروائي، وهي العناصر التي يمدّه بها الواقعُ، وعن ماهيّة الكتابة الروائيّة، وهي تحويل الواقع إلى مادّةٍ فنيّة يَصنعها الخيال وتتطلَّب التمرُّس في تقنيّات الكتابة وفي تطويع اللّغة. فقد خضعتْ هذه المكوّنات كما يتّضح لنا في مَتن الرواية لتحوّلاتٍ وأُعيد ابتكارها: غابَ اللّسانُ الفرنسي ليُستعاض عنه بلغةٍ عربيّة تُوائِم بين الفصحى واللّهجة الدّارجة، لتكون لغةً تنبض بالحياة. كما أنّه لا أثر في مَتن الرواية للمحادثات "الفايسبوكيّة"، التي أشارت إليها الكاتبةُ إيحاءً بإمكانيّة المُصالَحة بين الأدب ولغة العَصر.
في الختام، يبقى السؤال حول رمزيّة هذا "الشيء" اللّغز الذي يُعطي للرواية صفةَ الأحجية والذي يقول الرئيس المعزول أنّ مصيرَه مُتعلّقٌ به، بل مصير تونس كلّها. كما يُمكن الاستدلال من استعمال ضمير الجمْع في العبارة التي اقتبسناها من رسالته، سابقاً: هل هو الحبّ ذلك الحبل الممدود بين كيانيْن والذي يُمكن أن يُحيي أو أن يُميت؟ أم هو القَيد الذي لا بدّ من تحطيمه؟ هل هو ذلك الخَيط الرفيع بين الشكّ والثقة والخيانة والإخلاص؟ وما سرّ هذا التراب السخون؟ هل ثمّة نار غضب وثورة تَشتعل تحته؟ أم أنّ فيه حرارة الأرض - الحضن وطن الآباء والأجداد؟ أم هي جذوة حبّ جَمَعَ الحبيبَيْن ولا تزال حيّة في تراب تونس وفي ذاكرة شعبها؟ لكلّ قارىء حريّة البحث عن أجوبة تظلّ مشرعة على الاحتمال. هكذا تبقى الرواية نصّاً مفتوحاً لا تنتهي قراءته.
ناقدة أدبيّة من لبنان - مؤسسة الفكر العربي *
✨ تعليق فني أدبي على النص:
بين الواقع والأسطورة، تُكتب الرواية على نغمة هشّة: "ما نراه… ليس كل ما حدث، وما قيل… ليس كل ما كان."
"تراب سخون" ليست مجرد حكاية عن وسيلة بورقيبة… بل هي تفكيك للأيديولوجيا، وللحب، وللسلطة، ولذاكرة وطن تاه بين الرمز والخيانة، بين القيادة والانكسار.
الرؤية السردية ذكية متعددة الأصوات، تُجبر القارئ على أن يصبح شريكًا في إعادة تركيب المعنى.
"الشيء" الذي تدور حوله الرواية، يتجاوز حدود المادة، إلى أن يصبح رمزًا ثقيلًا لسلطة ضائعة أو حقيقة مدفونة.
الشكل الفني يقترب من الميتاسرد، حيث تلعب الكاتبة لعبة "الروائية غير الظاهرة"، فتُخفي نفسها خلف محرّرة، تُخفي بدورها ملفات إلكترونية ورسائل، وتنسحب من الرواية لتتركها تتنفس وحدها.
هذه رواية كتبتها امرأة… لتستعيد بها صوت امرأة… فغيّرت صورة رجل كانت تُروى على مقاس التاريخ الرسمي.
🎯 القيمة الأدبية:
الرواية تقدّم شكلًا جديدًا من "الرواية التونسية المقاومة"… المقاومة للتأريخ الرسمي، للصورة النمطية للزعيم، وللتهميش الذي لحق بالمرأة/الراوية/الضحية.
هناك تمازج نادر بين الرؤية النقدية والسيولة الشعورية، فتصبح كل صفحة مرآة للأحداث… وهاوية للمعنى.
🖋️ خلاصة فنية:
"تراب سخون" هي عمل أدبي يروي تونس... لا كما حدثت، بل كما يمكن أن تُفهم.
وهي واحدة من تلك الروايات التي لا تُقرأ فقط… بل تُفتَح مثل لغز، وتُطوى مثل سرّ.