الشرّ السائل وخرائط الإنسان الجديد

د. رفيف رضا صيداوي*
توقّفت الحرب الإسرائيليّة على غزّة، وقَبل ذلك على لبنان، بموجب اتّفاقيّات وقف إطلاق النار، لكن من دون أن تتوقّف بالطبع الخروقات الإسرائيليّة فيهما، سواء المباشرة والعَلنيّة أم المُستتِرة أو الخَفيَّة. وعلى الرّغم ممّا خلّفته هذه الحرب/ الإبادة من دمارٍ وخرابٍ في البنى التحتيّة، ومن شهداء ومعوّقين وحالات اجتماعيّة صعبة طاولت الأُسر (ترمّل ويُتم وفقر ...)، ثمّة سؤال محوريّ ومُهمّ فَرَضَ نفسه علينا قَبل هذه الحرب، وبات أكثر إلحاحاً خلالها؛ إنّه السؤال حول المصير الذي تنقاد إليه الإنسانيّة اليوم.
إنّ عدم تكافؤ القوَّتَيْن العسكريّة والتكنولوجيّة في هذه الحرب الشرسة والعدوانيّة التي شَنَّتْها إسرائيل بدفْعٍ من القوّة الأميركيّة والأوروبيّة ودَعْمِها، وما شَهدناه من قتلٍ للمدنيّين مخالفٍ لكلّ الأعراف والقوانين الإنسانيّة، هو الذي يحملنا على البحث أو التأمّل مجدّداً في الإنسان الجديد الذي يرسمه لنا المُستقبل في ظلّ عدم ضبط مسارات التطوُّر العلمي والتكنولوجي وتقاطعه وتشابكه مع القطبيّة الدوليّة الواحدة وقوانين التنافُس الاقتصادي والمالي.
ففي هذه الحرب الضروس تكشَّفت الأقنعة، وأُزيلت الحُجُب. كلّ الوعود التي قطعتها العولَمة حول عالَمٍ أوحد يسوده الوئام والتجانس وتتحقّق فيه رفاهيّة الشعوب، أو كلّ كلامٍ عن حقوق الإنسان، باتا كلاماً خالياً من المعنى. حقيقةٌ واحدة تبدَّت واضحةً وضوح الشمس، وهي أنّ استعماراً بلباسٍ جديد بدأ يَرسم مَسار العالَم ودولِهِ التي لا توازي قوّتُها نظيرتَها لدى المُستعمِر. لكأنّ أيّ حقائق أو مَسارات أو أنماط عيْش واستهلاك، لا تفرضها هذه القوى عبر مؤسّساتها الأكاديميّة والبحثيّة والتربويّة والإعلاميّة وامتداداتها في العالَم، باتت ممنوعة. فالأفراد، كما المُجتمعات، باتوا يتشكَّلون ويُؤَطَّرون وفقَ أنموذجٍ ثقافيّ يَخدم السوق. ولن نتناولَ في هذه المقالة زمن الاستهلاك الحالي ومآلاته، أو زمن "السيولة" وأشكاله في دعْم هذا الاتّجاه الشرس الذي تنحو نحوه الإنسانيّة، ولن نتناول سوء استخدام منجزات الثورة الصناعيّة الرّابعة، ولاسيّما الذكاء الاصطناعي في تدعيم الشرّ من طَرَفِ مالكي القوّة التكنولوجيّة، والمنظومة الأخلاقيّة الأداتيّة التي تُشرْعِن الكذب والتضليل، وتستند إليها تلك القوى كغطاءٍ لاستعمارها وحروبها وتعدّياتها. جلّ ما نبحث فيه ونتساءَل حوله هنا، هو أيّ إنسان جديد وأيّ مجتمعات جديدة هي تلك التي قد يقود إليهما التمركز الرأسمالي المتوحّش حول عالَم السوق؟
تنميط حيواتنا وصوْغها
أخشى ما نخشاه، هو أن يكون إنسانُ اليوم، وعالَمُ اليوم، على تلك الصورة التي صاغتها روايات الخيال العلمي، وأتوقّف هنا عند رواية "عالَم جديد شجاع" (1932) للكاتب الإنكليزي ألدوس هكسلي. تلك الرواية التي استعارَ فيها مؤلِّفُها مجازَ العِلم والتقدُّم العلميّ والتكنولوجيّ للكشف عن مآلات سوء استخدامهما على البشريّة جمعاء. ومن بين تلك الاختراعات أو المُنجزات العلميّة التي توقَّف عندها ألدوس هكسلي، تقنيّة الإنتاج الضخم للأحياء، أي "تفريخ الأجنّة"، بوصفه، بحسب القيّمين على هذا الاختراع، أعظم الوسائل لتحقيق الاستقرار الاجتماعي. فقد طوَّرَ التخييلُ الروائي هذه الفكرة في تناظُرٍ استعاريّ مع التنظيم الرأسماليّ الفورديّ (نسبةً إلى هنري فورد) الذي ساد منذ مطلع القرن العشرين، والذي نَهَضَ على التكنولوجيا وكثافة الإنتاج.
أمّا عن مآثر هذا الإنجاز العلمي، أي إنتاج الأجنّة، وكيفيّة إفضائه إلى الاستقرار الاجتماعي، فقد أوكلَ التعريف به والكلام عليه إلى مدير هذا المشروع العلمي الضخم الذي رأى أنّه سيَسمح بتحديد أقدار الأجنّة وتكييفهم. فإنتاجهم، بحسب جيناتٍ معيّنة يتمّ اصطفاؤها واختيارُها، سيُحرِّرهم من تربية الأهل ومن تنشئتهم؛ بحيث تضْطلع مراكز الدولة بهذه المُهمّة. وسيكون لهؤلاء الأطفال المُنتَجين كرهٌ غريزيّ للكُتب والورود و"يكونون آمنين بمعزل عن الكُتب والنباتات طيلة عمرهم" (ص33)، طالما أنّ الطبيعة مجّانيّة، وأنّ "حبّ الطبيعة لا يُسهِم في تشغيل المصانع" (ص34)، وسيتمّ تعليمهم في أثناء النوم حتّى يُصبح عقل الطفل في النهاية مكوَّناً من إيعازاتٍ صنيعةِ العِلم والدولة، فيَحكم هذا العقل ويُقرِّر. وما ذلك إلّا تلبيةً لحاجات السوق.
التكنولوجيا وكثافة الإنتاج الموجَّه إلى السوق في "الزّمن الفورديّ" اللّذان عبَّر تخييلُ ألدوس هكسلي عن تداعياتهما السيّئة على الإنسان والمُجتمع، لا يزالان إلى الآن، ولاسيّما في زمن الثورة الصناعيّة الرّابعة، مَصدرَ خوفِنا وتوجُّساتِنا، طالما أنّ السوق كانت ولا تزال، سواء في زمن التصنيع أم في الزمن الرقميّ الحاليّ، لولبَ الرأسماليّة؛ وطالما أنّ حتميّة قوانين التنافُس في هذه السوق، هي التي كانت، ولا تزال، تتحكّم بمَسار العالَم وعَيش الإنسان فيه. فهنري فورد الذي توسَّل تشكيل القوّة العاملة والإدارة العِلميّة، بما يتناسب مع المُجتمع العقلاني الحداثي، تلبيةً لحاجات السوق (مع حرْص فلسفته الاقتصاديّة على القوّة العاملة، لجهة الحقوق، ولاسيّما الأجور، وجني مزيدٍ من الأرباح للعمّال) غَلَبَتْهُ قوانين التنافُس. هذه القوانين التي بَرهنَتْ، على حدّ تعبير المُنظِّر والجغرافي البريطاني ديفيد هارفي "أنّها من القوّة بحيث أُجبر فورد نفسه، على الرّغم من قوّته، على العودة عمّا كان بدأه، واضطُرَّ إلى صرْف العمّال وتخفيض الأجور" (حالة ما بعد الحداثة، المنظّمة العربيّة للترجمة والمعهد العالي العربي للترجمة، 2005، ص161).
حداثةٌ سائلة وحياةٌ سائلة
نعود إلى موضوعنا وسؤالنا الذي فرضته مجازر إسرائيل وشركاؤها الغربيّون بحقّ الفلسطينيّين واللّبنانيّين في ظلّ صمتٍ مُطبق للقوى الغربيّة، تخلّلته في بعض الأحيان تصريحاتٌ رسميّة مُراوِغة وكاذِبة من هنا وهناك، تُساوي بين الضحيّة والجلّاد أو بين المُحتَلّ وصاحب الأرض. إنّه موضوع لا يَقتصر على ما حصلَ، بل يتعدّاه إلى ما سوف يحصل في حال استمرّ "الشرّ" هو الطّاغي في تحريك العالَم. إنّه "الشرّ" الذي خصَّص له "فيلسوف السيولة"، الألماني زيجمونت باومان مع زميله الفيلسوف الروسي ليونيداس دونسكيس، كتاباً حواريّاً كاملاً، بوصفه - أي هذا الشرّ - مُترافقاً ومُتزامناً مع "حداثةٍ سائلة" و"حياةٍ سائلة" ولَّدُهما اقتصادٌ جَشِع، هو فيهما بمثابة القَدَر؛ حيث إنّ "الحياة السائلة" تنهض بالضرورة من مُجتمعٍ حديثٍ سائل. وهي حياة تتهدّدها المخاطر، ويكون فيها المرءُ في حالةٍ من "اللّايقين الدائم"، ومن الخوف من أن تأخذه هذه الحياة على حين غرّة، "ومن الفشل في اللّحاق بالمُستجدّات المُتسارعة، ومن التخلُّف عن ركب السائرين، ومن إغفال تواريخ "نهاية الصلاحيّة"، ومن الاحتفاظ بأغراضٍ مهجورة، ومن فقدان اللّحظة التي تدعو إلى تحوُّلٍ في اتّجاه السير قَبل عبور نقطة اللّاعودة. فالحياة السائلة سلسلة من البدايات الجديدة..." (الحياة السائلة، الشبكة العربيّة للأبحاث والنشر، 2016، ص22). وفي رحابها تغدو البدائل ممنوعة، وتبدو قصص النجاح الفرديّة هي القصص السائدة، وتعكس خصْخصة اليوتوبيا ونهاية الحديث عن المُجتمع العادل والصالح... وذلك في ظلّ الإيمان القاطع بالحتميّة الاجتماعيّة والقدريّة المُتمركزة حول السوق (الشرّ السائل. العيش مع اللّابديل، ص27). ويغدو أيضاً "الصراع بين العمى الأخلاقي وقدرتنا على رؤية أفراد آخرين، باعتبارهم كائنات أخلاقيّة لا وحدات إحصائيّة، ولا قوى عاملة، إنّما هو صراع بين قوى الارتباط والانفصال، والرّحمة واللّامبالاة، وتلك الأخيرة هي علاقة تدلّ على الدمار الأخلاقي والمرض الاجتماعي" (المرجع السابق، ص36). ويضيف فيلسوف السيولة: "غياب الأحلام والبدائل واليوتوبيّات هو تحديداً ما أعتبره جانباً مُهمّاً من سيولة الشرّ" (ص28)، لأنّ "أبطال الشرّ يسعون إلى تجريد الإنسانيّة من أحلامها ومشروعاتها البديلة وقوى الرفض والمُمانعة" (ص28).
سؤالنا إذاً ينهض من معايشتنا لمُجتمعٍ عالميّ يسوده الاستبداد والظلم، ويَسير نحو الاتّجاه الخاطئ نتيجة التوسُّع المادّي والاقتصادي وسيطرة المصالح الذاتيّة المُهدِّدة للروابط الاجتماعيّة والأهداف الإنسانيّة. وهي كلّها مظاهر مضادّة لفكر "الأنوار" وفلسفته. وهو مَسار يحمل في طيّاته بذورَ انهيارٍ لا يقتصر على المتحكّمين به، بل يُطاول الحضارة الإنسانيّة بأسرها. المؤرِّخ والناقد الاجتماعي الأميركي لويس ممفورد، وفي سياق دراسته تطوُّر المدينة لدى الرومان، وصولاً إلى انهيار حضارة القرون الوسطى، سَأل منذ ستّينيّات القرن الماضي، وتحديداً في الجزء الأوّل من كتابه "المدينة على مرّ العصور: أصلها وتطوّرها ومستقبلها"، العائد في طبعته الإنكليزيّة الأولى إلى العام 1961: "هل سيُكرِّس الإنسانُ نفسَهُ لتنمية أنبل صفاته الإنسانيّة، أو أنّه سيَترك نفسَهُ تحت رحمة القوى التي أَطلقها بنفسه، وأصبحت الآن تكاد تعمل من تلقاء نفسها، ويخلي مكانه لبديله المجرَّد من الصفات الإنسانيّة "إنسان ما بعد التاريخ؟"" (ص5)، مشدِّداً على أنّ الخيار الثاني سيؤدّي إلى "تزايُد فقْد الإحساس، وتناقُص العاطفة والجرأة الخلّاقة، وأخيراً فقْد الوعي والشعور؟" (المركز القومي للترجمة، 2016، ص5).
سؤالنا الفوريّ إذاً: هل نستسلم لهذا القَدَر؟ جوابنا بالقطع لا. ولا بدّ من العمل على مستوياتٍ متعدّدة، اقتصاديّة وسياسيّة وتنمويّة وغيرها، لأجل امتلاك الحقّ في العيش، أفراداً وجماعاتٍ ودولاً، بكرامة. فعلى المستوى الثقافي أو الفكري مثلاً، وإذا كان هناك من كلامٍ على ضرورة البحث في كونيّة التواصُل والتعايُش، فإنّ هذا الكلام لا بدّ أن ينهض على أُسسٍ نقديّة تُدافِع عن قيَم العدالة والحريّة، وأن تَرسم أيضاً طُرق التغيير. وبالتالي لا عجب من أن تكون مجتمعاتنا العربيّة، على سبيل المثال لا الحصر، قد جعلتْ، على المستوى الفكريّ والثقافي، من اليوميّ موضوعاً للتفلسُف الذي تبنّته تيّاراتٌ عديدة من الفلسفة المُعاصِرة. بحيث "يَقترن العمل الفلسفي بالمُمارسات القوليّة المختلفة، تلك التي تريد معرفة أبعاد اليومي معرفة حقيقيّة، فتدافع عن القضايا التي تعتبرها ذات أهميّة بالنسبة إلى حياة الإنسان اليوميّة" (فتحي التريكي، فلسفة الحياة اليوميّة، ص75) وقضاياه العمليّة التي تطرحها تطوّرات عصر التقنيّة.
في هذا الصدد تُبذَل الجهود في الثقافة العربيّة لإعطاء فلسفة اليوميّ تلك القدرة على الدّفاع عن "الحرّيّة"، و"عن الحقّ في الاختلاف"، و"عن الغيريّة"، بغية أن تكون كرامة المرء هي الأساس لكلّ عَيشٍ. ذلك أنّ الغاية القصوى لفلسفة الحياة اليوميّة هي، على حدّ تعبير الفيلسوف التونسي فتحي التريكي، "تأصيل إنسانيّة الإنسان" (فلسفة الحياة اليوميّة، ص81)، وضمناً الدّفاع عن القضايا التي تعتبرها هذه الفلسفة ذات أهميّة بالنسبة إلى حياة الإنسان اليوميّة.
نعم.. ثمّة الكثير من العمل ينتظرنا.
*مؤسّسة الفكر العربي
🟩 تعليق:
النص مُبهر من حيث العمق وشجاع من حيث الطرح.
يجمع بين السرد الفلسفي والتحليل الواقعي، وهو من النصوص التي لا تُقرأ بل تُتأمل. الكاتب لا يكتفي بتوصيف الواقع بل يخترقه بأسئلة وجودية تُلامس ضمير القارئ.
✔️ يعالج بذكاء الربط بين "الشر الواقعي" المتمثل في حروب إسرائيل، و"الشر الرمزي" القادم من فلسفات السوق والعالم الرقمي.
✔️ يستخدم مراجع قوية: من ألدوس هكسلي إلى باومان إلى لويس ممفورد، مما يُثري السياق ويمنحه قوة تحليلية نادرة.
✔️ يقدم ما يشبه البيان الثقافي ضد الاستسلام للواقع، ويدعو للعمل من أجل استعادة "الكرامة" في مواجهة "اللّايقين الدائم".