تفسير الوعي بين العِلم والفلسفة

د. صلاح إسماعيل*
كان ذلك في العام 1998، بعد إلقاء محاضرات في مؤتمرٍ حول الوعي، جلسَ شابّان في حانةٍ في بريمن، شمال ألمانيا، أحدهما عالِم أعصاب هو كريستوف كوخ، والآخر فيلسوف هو ديفيد تشالمرز. اقترحَ كوخ رهاناً على صندوقٍ من المشروبات أنّه في غضون الـ 25 عاماً المُقبلة، سيَكتشف الباحثون مُتلازماً عصبيّاً للوعي، وقَبِلَ تشالمرز الرّهان، وقال إنّ ذلك لن يحدث.
ثمَّ مضتِ الأيّام، وفي المؤتمر السنوي السادس والعشرين لجمعيّة الدراسة العلميّة للوعي في نيويورك، التقى كوخ وتشالمرز في 23 حزيران/ يونيو 2023 لتسوية رهانِهما، وصَعدا معاً على المسرح أمام قاعةٍ مُزدحمةٍ في جامعة نيويورك. لقد اتَّفقا على أنّه لكي يفوز كوخ، يجب أن يكون الدليلُ على التوقيع العصبي للوعي "واضحاً". خَرَجَ كوخ من المسرح وعادَ معلناً خسارته حاملاً صندوق المشروبات، في حين كان الجمهور يَضحك ويُصفِّق.
لُغز الوعي
يواجه الإنسانُ أسئلةً صعبة من قَبيل مَن أنا؟ وما الحياة؟ وما الكَون؟ ويلتمَّسُ الإجابةَ من الدّين والعِلم والفلسفة. وفي إطار البحث عن الذّات، يَظهر سؤالُ الوعي الذي أَربك أعظم العقول، من الشبح في الآلة إلى صعود عِلم النَّفس التجريبي إلى عصر الوعي. تُعالِج الفلسفةُ المشكلةَ الصعبة، ويُحاول عِلمُ الأعصاب العثورَ على الأساس العصبي للوعي، ويَنظر عِلمُ الكمبيوتر إلى أجهزةِ الكمبيوتر على أنّها أمخاخٌ ويبحث في الآلات الواعية، وتحاول فيزياء الكمّ اكتشافَ الدَّور الأساس للوعي في العالَم المادّي. وعلى الرّغم من ذلك، يبدو تفسير طبيعة الوعي أمراً بَعيد المنال.
ما أن يَخرج الإنسان من بطن أمّه حتّى تأتيه المُثيرات من كلِّ جانب، أضواء ساطعة وأصوات عالية ونحو ذلك؛ ثمّ تَمضي به الحياة الواعية، باستثاء النوم العميق أو التخدير، إلى أن يُواجِه الموت. يقول الماديّون إنّ الموت هو نهاية الوعي. أمّا أصحاب الإيمان الدّيني فيُسلّمون بحياةٍ أخرى للنَفس. فكيف يَحدث الوعي؟ وما علاقته بالفيزياء والبيولوجيا؟ هل الحيوانات واعية لها؟ هل الكلاب مجرّد آلات، كما قال ديكارت، أم أنّها تَختبر العالم؟ وماذا عن النباتات؟ هل يُمكن أن تكون أجهزةُ الكمبيوتر واعية؟ هل يُمكن للتكنولوجيا المتقدّمة أن تُنقِذ عقلكَ وتحوّله إلى وسيطٍ هندسي عن طريق تحميل عقلكَ على السحابة؟ وقَبل كلّ أمر، ما عساه أن يكون الوعي هذا؟
الوعي خبرة. وتستطيع أن تضيف أنّه خبرة داخليّة، وذاتيّة، وظاهراتيّة. وربما تقول مع كوخ في كتاب "الشعور بالحياة نفسها" (2019) إنّ هذه الصفات زائدة عن الحاجة. يدلّ الوعي على حالات الإحساس والإدراك التي تَبدأ عندما نستيقظ من نومٍ بلا أحلام وتستمرّ حتّى نذهب إلى النوم مرّة أخرى أو نَقَع في سباتٍ أو نُصبح غير واعين بطريقةٍ أخرى. وتأتي الخبرات الواعية في صورٍ منوّعة بصريّة وسمعيّة ولمسيّة وذوقيّة، وتخيُّلات، وانفعالات، ونحو ذلك. نحن نُدرك العالَم من خلال عدسةِ وعيِنا. ويَعتمد التسويغُ المَعرفي على الوعي. زدْ على ذلك أنّ الوعي هو الذي يَمنح الكائنَ الحيَّ مكانةً أخلاقيّة على نحوٍ يَجعل وجوده مكرَّماً ولا يتعرَّض للأذى، وعلى أساس الوعي أيضاً يتحمَّل المرءُ تبعةَ أفعاله عندما يكون حرّاً.
المُتلازمات العصبيّة للوعي
ربّما كان محور عِلم الوعي الحديث هو البحث عن المُتلازمات العصبيّة للوعي: ما مناطق المخّ الأكثر نشاطاً عندما يكون لديكَ خبرة واعية مثل الشعور بالقلق في موقفٍ عصيب؟ المُتلازمات العصبيّة للوعي هي الأحداث التي تَقَع في المخّ وتُلازِم الخبراتِ الذاتيّة أو تَرتبط بها، وإن شئتَ تعريفاً دقيقاً فقُلْ هي آليّات عصبيّة عند الحدّ الأدنى كافية بالاشتراك معاً لأيّ خبرة واعية.
في آب/ أغسطس من العام 1953، التقى عشرون عالِماً، من بينهم إدغار أدريان، ودونالد هيب، وكارل لاشلي، ووايلدر بنفيلد، في شاليه في كيبيك الكنديّة لحضور ندوة مدّتها خمسة أيّام حول آليّات المخّ والوعي. وقد هَيْمَن على الاجتماع التقدُّمُ الذي حقَّقه هوراس" تيد" ماجون قَبل أربع سنوات، حيث قام بإثارة كهربائيّة لجِذع المخّ. ومع ذلك، أَدرك ماجون أنَّ البحثَ عن الأساس العصبي للوعي مشكلة لن تُحلّ بسرعة. وبعد أكثر من سبعين عاماً، وعلى الرّغم من التقدُّم التكنولوجي الدّاعم لدراسات الوعي، لا يزال العُلماء في جهادٍ شاقّ تجاه فَهْم المسألتَيْن المطروحتَيْن في اجتماع كيبيك: النشاط المُتمركِز مقابل النشاط الموزَّع في المخّ، وأهميّة المتلازمات العصبيّة للوعي.
رهان المدرسة الفيزيائيّة
بعدما اكتشفَ فرانسيس كريك مع جيمس واطسون التركيبَ الحلزونيّ المزدوج للحمض النووي (دنا)، وهو جزيء الوراثة، غادر كريك في العام1976 ، وهو في الستّين من عمره، مختبر البيولوجيا الجزيئيّة في جامعة كامبريدج لدراسة عِلم الأعصاب في معهد سالك في كاليفورنيا. أَخذ يطوِّر طريقةً للتعامُل مع الوعي، وهي اختيار جانبٍ محدَّد بوضوح، ثمّ البحث عن أساسه العصبي، واجتناب السؤال حول ماهيّة الوعي. كانت الثمرة الأولى لطريقة كريك هي هذه المقالة الرائدة "نحو نظريّة بيولوجيّة عصبية للوعي" (1990)، بالتعاون مع كريستوف كوخ، وهو تعاونٌ استمرَّ حتّى وفاة كريك في العام .2004 أيَّد كريك وكوخ الفرضَ بأنّ ما يُميِّز الخلايا التي تَصنع الوعي عن تلك التي لا تَفعل ذلك، هو التردُّد الذي تَنطلق فيه الخلايا المُنتِجة للوعي بين 35 و 70هرتز، أو 40 هرتز على سبيل الاختصار.
في الوقت نفسه تقريباً الذي كان فيه كريك وكوخ يفترضان التذبذبات العصبيّة بوصفها المتلازم للوعي، افترض جيرالد إيدلمان في العام 1989 أنَّ الوعيَ يتحدَّد في الجهاز المهادي القشري والجهاز الحوفي. وبعد عشر سنوات، أي في العام1999 ، وفي سياقٍ مُماثل، زعَمَ أنطونيو داماسيو أنّ الوعي موجود في الرابطة الجبهيّة الحوفيّة. وفي الوقت الحالي يؤكِّد أنيل سيث، الذي كان مساعداً لإيدلمان، على ضرورة البحث العصبي للوعي، ولكنّه يرى أنّ مشكلة الوعي لن تُحَلّ بالطريقة نفسها التي فُكَّ بها تشفير الجينوم البشري.
كان الرهان متجذِّراً في المدرسة الفيزيائيّة التي ترى أنّ الوعي ظاهرة حقيقيّة يُمكن الكشف عن أصولها الفيزيائيّة. في عمله على الحمض النووي (دنا)، ردَّ كريك لغزَ قابليّة التوريث البيولوجي إلى عددٍ قليلٍ من الخصائص الجوهريّة لمجموعةٍ صغيرة من الجُزيئات. وقد هَمَّ كريك وكوخ أن يَسلكا هذه الطريق نفسها بالنسبة إلى تفسير الوعي، بل لم يَسلكا إلّا هذه الطريق. قدَّمتْ تقنيّاتُ تصوير المخّ أدواتٍ يُمكن للباحثين من خلالها النَّظر في أنشطةِ المخّ في أثناء أداء المهامّ المُختلفة، على أمل العثور على توقيعاتٍ فيزيائيّة لخبراتٍ واعية محدَّدة.
كانت إحدى المفاجآت المبكّرة هي أنّ المُخَيخ، وهو نَوع من المخّ المصغَّر يتدلّى من الجزء الخلفي من قشرة مُخّكَ يحتوي على حوالى ثلاثة أرباع 86 مليار خليّة عصبيّة غريبة في المخّ، يبدو أنّه لا علاقة له بالوعي. أحد أسباب معرفتنا بذلك هو أنّ بعض الأشخاص يولدون من دون مُخيخٍ يَعمل، وفي حين يعانون من بعض المشكلات، فإنّ نقص الوعي ليس واحدة منها.
على أنّ المُخيِّب للأمل هو أنّ ملاحظاتٍ مُماثِلة قوَّضتْ معظم الاقتراحات حول مركز الوعي داخل المخّ. خُذ الفكرة التي فضَّلها كوخ وكريك لفترةٍ من الوقت، وهي أنّ البنية الشبيهة بالصفيحة أسفل القشرة المخّيّة تُسمّى العائق، ضروريّة للوعي. كان هناك سبب يدعو للتفاؤل: أظهرتْ دراسةُ حالةٍ في العام 2014 أنّ الاثارة الكهربائيّة لهذه البنية في مخّ امرأة جَعَلَها تُحدِّق للأمام بهدوء، فاقدةً للوعي على ما يبدو، حتّى توقَّفتِ الإثارة. لكنّ دراسةً أخرى وَصفتْ شخصاً ظلَّ واعياً تماماً بعدما دمَّر التهابُ المخّ عائقه، ما قوَّضَ هذه الفكرة. تَشترك مناطق كثيرة من المخّ في جوانب من خبرتنا الواعية، ما يعني أنّ البحثَ عن مركزٍ واحد للوعي لم يكُن مُثمِراً إلى الآن.
والأمر الذي ساعَد في النهاية على حسْم الرّهان هو دراسة تَختبر فرضَيْن رئيسَيْن حول الأساس العصبي للوعي، وأُعلنت نتائج المرحلة الأولى من هذه الدراسة في مؤتمر العام 2023 المُشار إليه. وهذان الفرْضان هُما: نظريّة المعلومات المتكاملة ونظريّة مساحة العمل الشاملة. تَقترح نظريّة المعلومات المتكاملة أنّ الوعي "بِنية" في المخّ يتكوَّن من نَوعٍ معيّن من الاتّصال العصبي الذي يكون نَشطاً طوال فترة حدوث خبرة معيّنة، مثل النظر إلى صورةٍ ما. ويَعتقد أنّ هذه البِنية موجودة في القشرة الخلفيّة، في الجزء الخلفيّ من المخّ. على النقيض من ذلك، تُشير نظريّة مساحة العمل الشاملة إلى أنّ الوعي ينشأ عندما تُبَثّ المعلومات إلى مناطق المخّ من خلال شبكةٍ مُترابطة. ويَحدث البثّ في بداية الخبرة ونهايتها، ويَشمل القشرة الأماميّة الجبهيّة، في الجزء الأمامي من المخّ. وتَبيَّن بعد اختبار النظريّتَيْن أنّهما في حاجةٍ إلى مُراجَعة.
تقول عالِمة الأعصاب المُشارِكة في الاختبار الإيطاليّة لوسيا ميلوني: "في ما يتعلّق بـنظريّة المعلومات المتكاملة، ما لاحظناه هو أنّ المناطق الموجودة في القشرة الخلفيّة تحتوي بالفعل على معلوماتٍ بطريقةٍ مستمرّة"، وأنّ النتائج تُشير على ما يبدو إلى أنّ "البِنية" التي تَفترضها النظريّة تتمّ مُلاحظتُها. لكنّ الباحثين لم يَجدوا دليلاً على التزامُن المُستمرّ بين مناطق المخّ، كما كان متوقَّعاً.
وفي ما يخصّ نظريّة مساحة العمل الشاملة، وَجَدَ الباحثون أنّ بعض جوانب الوعي، وليس كلّها، يُمكن تحديدها في القشرة الأماميّة الجَبهيّة. علاوةً على ذلك، وَجدتِ التجارب دليلاً على البثّ الذي افترضه المُدافعون عن النظريّة، لكنْ في بداية التجربة فقط، وليس في نهايتها، كما كان متوقَّعاً. لذلك كان أداء نظريّة مساحة العمل الشاملة أسوأ قليلاً من نظريّة المعلومات المتكاملة في أثناء التجربة. لكنّ هذا لا يعني أنّ نظريّة المعلومات المتكاملة صحيحة، وأنّ نظريّة مساحة العمل الشاملة ليست كذلك. وإنّما يَعني أنّ أنصارَ النظريّتَيْن في حاجةٍ إلى إعادة التفكير في الآليّات التي اقترحوها في ضوء الأدلّة الجديدة.
خلاصة القول إنّه بَعد اختبار النظريّتَيْن، تبيَّن أنّهما في حاجةٍ إلى مُراجَعة، ولم تُحسَم المُنافَسة بينهما، ومن ثمّ خَسِرَ كوخ الرّهان. ومع أنّ كوخ قد ضاقَ بهذه الخسارة، فقد دَفعه الأمل إلى أن يُضاعف من رهانه خمسةً وعشرين عاماً، بدايةً من شهر حزيران/ يونيو 2023. قَبِلَ تشالمرز الرّهان وصافَح كوخ قائلاً: "آمل أن أخسر، لكن أظنّ أنّني سأفوز".
*أكاديمي ومفكّر من مصر
✍️ تعليق وكالة BETH
في معترك البحث عن جوهر الوعي، لا تقل أهمية قصة رهان كريستوف كوخ وديفيد تشالمرز عن جدل العلماء والفلاسفة على مدى أكثر من ربع قرن. فالعلوم المعاصرة تختبر اليوم نظريتي المعلومات المتكاملة ومساحة العمل الشاملة، من دون أن تحسم نهائيًّا أسرار “الذات المدركة”.
هذا المقال يذكّرنا بأنّ الوعي ليس لغزًا يُحسم بالمعادلات وحدها، ولا بنقاشات فلسفيةٍ منعزلة عن علم الأعصاب. بل هو نقطة التقاء بين مسارات متفرعة: من رحلة الكهرباء في العقد القشري إلى عمق التأمّل الفلسفي في طبيعته.
معلومة للذاكرات
1998: وُضع الرهان في بريمن، 2023: خسر كوخ الرهان… ليجدد التحدي 25 عامًا أخرى.
لا مركز واحد للوعي: بل آليات عصبية موزّعة تتطلب إعادة قراءة دائمة للنظريات.
رؤى BETH
التكامل ضروري
لا يكفي رصد التذبذبات أو تحديد مناطق الدماغ النشطة؛ فالوعي يتداخل مع الخبرات الذاتية والظواهر النفسية، ويحتاج إلى مقاربة تجمع بين البيانات التجريبية والتحليل الفلسفي.
رهان كوخ وتشالمرز رمز للتواضع العلمي
إخفاق كوخ لا يقلل من قيمة إنجازه؛ بل يذكّرنا أن العلم يفتح أسئلة أعمق بدلاً من تقديم إجابات نهائية.
الوعي مساحة أخلاقية وإنسانية
حين نفهم الوعي كمصدر للمسؤولية الأخلاقية، ندرك أهمية احترام الحياة الأخرى والنظر بعين إنسانية إلى علاقتنا مع الحيوانات والنباتات وحتى الذكاء الاصطناعي.
في الختام، النقاش حول طبيعة الوعي أكثر من مسعى علمي أو فلسفي؛ إنه رحلة مفتوحة عبر أبعاد العقل والذات والتجربة الإنسانية. وكلما تلاقى العلم مع الفلسفة والشعر والفن، نزداد قربًا من تقريب هذا “اللغز” إلى عالم إدراكنا اليومي.