جيل دولوز.. مائة عام على ولادته

حسّونة المصباحي*
في الرّابع عشر من شهر نوفمبر - تشرين الثاني 1995، ألقى الفيلسوفُ الفرنسيّ الكبير جيل دولوز نفسَه من نافذة شقّته الكائنة في الدائرة السابعة عشرة في باريس، مُنْهياً بذلك عذابَ سنواتٍ طويلة من المرض. وكان آنذاك في السبعين من عمره. وقد علَّق جاك دريدا على ذلك الانتحار الفاجع بالقول: "جيل دولوز مُفكّر بالدرجة الأولى. مفكِّر الحَدَث. ودائماً هذا الحدث. وقد ظلَّ ثابتاً في موقفه هذا من البداية وحتّى النهاية (...) منذ البداية لم تكُن كتبه بالنسبة إليّ تحريضاً قويّاً على التفكير فقط، وإنّما كانت أيضاً دالّة على تقارُبِ تَجاربنا".
أمّا فرانسوا رينو فقد قال: "الفيلسوف الكبير هو الذي يُقنع قرّاءه والمُستمعين إليه بأن يعيشوا مُستقبلاً حياةً فلسفيّة. وجيل دولوز يُقْنعهم بذلك. وليس مُهمّاً أن يتوصّل جميعهم إلى هذه النتيجة. يكفي أن يتلمّسَ الذين يقرؤونه، أو يستمعون إليه أنّ الحياة مفتوحة بالنسبة إليهم".
وقد وُلد جيل دولوز في باريس في الثّامن من شهر كانون الثاني/ يناير 1925. وفي فترة شبابه، وهو يدرسُ الفلسفة في جامعة السّربون، تعرّف إلى كتّاب وفلاسفة سيكون لهم تأثير على مساره الفكري، والفلسفي. من بين هؤلاء يمكن أن نذكر جان هيبولت، وميشال بيتور، وميشال تورنييه، وفرانسوا شاتليه الذي سيخصّص له في ما بعد كتاباً يعرِّف بفلسفته العقلانيّة، والتي علَّق عليها فرانسوا إيفالد قائلاً: "يقول فرانسوا شاتليه إنّه عقلانيّ. والعقل عنده ضرورة قَبل كلّ شيء: مرور من القوّة إلى الفعل الذي يَمنع الفوضى، ويُبعد شبحَ اليأس، ويَسمح بعلاقاتٍ إنسانيّة لا تَترك أحداً ضحيّةً للسّلبيّة، لكنّها تَسمح له بأن يُجدِّد قوَّتَهُ. لهذا السّبب في العلاقة مع الآخر، يكون العقلُ لياقةً وطيبة. لياقة لأنّه شرط المساواة الحقيقيّة مع الآخرين، وطيبة لأنّه يمتلك القدرة التي تساعد الإنسان على للخروج من نَفَقِ اليأس، ويَهِبه فرصةَ تجديد القوّة التي فيه".
وفي مطلع الخمسينيّات من القرن الماضي، عمل جيل دولوز أستاذاً للفلسفة في المعاهد الثانويّة، ثمّ أستاذاً مساعداً في جامعة "السّربون"، ثمّ باحثاً في "مركز البحوث والدراسات الاجتماعيّة" الذي ظلّ فيه حتّى العام 1964. وفي العام 1962، تعرَّف إلى ميشال فوكو الذي قال عنه بعدما أصدر مؤلّفَيْه "الاختلاف والتّكرار" و"منطق المعنى"، ما مفاده أنّ القرن العشرين سيكون "قرناً ديولوزيّاً" (نسبة إلى دولوز). وانطلاقاً من الستيّنيّات من القرن الماضي، لَمَعَ اسم دولوز في مجال الفلسفة، وذلك بعدما أصدر كتاباً عن نيتشه مُثيراً للجَدل، وفيه كتبَ: "نحن قرّاء نيتشه، علينا أن نتجنّب أربعة تفاسير خاطئة مُحتمَلة:
1: حول إرادة القوّة (الاعتقاد بأنّ إرادة القوّة تعني "الرّغبة في الهَيْمَنة"، أو "الرّغبة في القوّة").
2: حول الضّعفاء والأقوياء (الاعتقاد بأنّ الأكثر "قوّة" في نظام اجتماعي هُم "أقوياء" بالضّرورة).
3: بشأن العود الأبدي (الاعتقاد بأنّ الأمر يتعلّق بفكرة قديمة، مستعارة من قدماء اليونانييّن، ومن الهنود، ومن البابليّين؛ الاعتقاد بأنّ الأمر يتعلّق بدَورة، أو بعودة "الشيء ذاته").
4: بشأن الأعمال الأخيرة (الاعتقاد بأنّ تلك الأعمال مُبالغٌ فيها، أو هي مجرّدة من القيمة بسبب الجنون).
في العام 1969، تعرّف جيل دولوز إلى فيليكس غيتاري، ومعاً سيعملان على مدى سنواتٍ طويلة. وعن ذلك علَّق قائلاً: "فيليكس غيتاري وأنا لم نتعاون مثلما يتعاون شخصان. كنّا بالأحرى مثل جدولَيْن يلتقيان ليكوِّنا معاً جدولاً ثالثاً الذي هو نحن!".
وظيفة الفلسفة
مع فيليكس غيتاري، أنجز دولوز العديد من الأبحاث، ومعه ألَّف كُتباً مُهمّة مثل "نقيض أوديب" الذي يرى ميشال فوكو أنّه يقاوم تهديداتٍ خطيرة على مستوى الفكر. وتتمثّل هذه التّهديدات في نسّاك السياسة، وفي المُناضلين المُقطّبين والكئيبين، وفي إرهابيّي النّظريّات، الذين يريدون المحافظة على النّظام الصّرف للسياسة، وللخطاب السياسي وبيروقراطيّي الثورة، وموظّفي الحقيقة.
كما تتمثّل التهديدات في تقنيّي الرغبة المُثيرين للشفقة، أي عُلماء النَّفس، وعُلماء السيميولوجيا الذين يسجّلون كلّ إشارة، وكلّ ظاهرة مَرَضيّة، والذين يريدون أن يُقلِّصوا التنظيمَ المتعدّد بهدف إخضاعه للقانون الثنائيّ للتركيبة، ولِما هو ناقص أو مُنعدم.
وأمّا العدوّ الثالث الأساسي والاستراتيجي فهو الفاشيّة. لكن ليست فاشيّة موسوليني أو هتلر وحدهما، والتي عَرفت كيف تَحشد الجماهير، وكيف تَستغلّ رغباتها الظّاهرة والمخفيّة، وإنّما الفاشيّة الكامنة فينا جميعاً، والتي تدهم فكرنا وسلوكيّاتنا اليوميّة. الفاشيّة التي تجعلنا نحبّ السّلطة، ونرغب في الشيء ذاته الذي يُهيمن علينا، ويستغلّنا".
في العام 1977، أصدر جيل دولوز كتاباً آخر عن سبينوزا؛ وقد علَّق عليه بالقول: "حول سبينوزا عملتُ بجدّيّة بحسب مُقتضيات تاريخ الفلسفة. غير أنّه هو الذي جَعلني أشعر كما لو أنّ هناك تيّاراً هوائيّاً يَدفع هذا أو ذاك من الذين يقرؤون كتاباً من كُتبه من الخَلف بمكنسة سحريّة، ثمّ يُجبره على امتطائها. ما أظنّ أنّنا شرعنا في فهْم سبينوزا، وأنا لستُ أكثر من الآخرين في هذا المجال". ويُعرِّف جيل دولوز سبينوزا على النّحو التّالي: "بإمكان الفيلسوف أن يقيم في دولٍ متعدّدة بحسب طريقة ناسك متوحّد، أو شبح، أو عابر سبيل، أو مؤجّر في فنادق صغيرة مؤثَّثة. لذا علينا ألّا نتخيّل سبينوزا قاطعاً الصّلة بالوسط اليهوديّ المُغلق افتراضيّاً ليَنتسب إلى الأوساط اللّيبراليّة المُتفتّحة افتراضيّاً (...) ذلك أنّه أينما حلَّ، وأينما ذهب، هو لا يُطالب، ودائماً بقدرٍ معيّن من الحظّ في الحصول على ما يريد، بأن يتمّ التّعامل معه، ومع أهدافه ورغباته المُخالِفة للمألوف بشيءٍ من التسامح. وهو يَحكم على هذا التّسامح انطلاقاً من درجة الديمقراطيّة، ومن درجة الحقيقة التي يُمكن لهذا المُجتمع أو ذاك أن يتحمّلها، أو عكس ذلك، انطلاقاً من الخطر كما الذي يُهدّد الإنسانيّة جمعاء".
كما خصَّص دولوز كتاباً لغوتفريد لايبنتز، ولديفيد هيوم. وهدفه من ذلك تقديم إيضاحاتٍ وقراءاتٍ جديدة ومعمَّقة للفلاسفة الذين أثّروا في الفكر الإنساني في فتراتٍ مُختلفة من التّاريخ. ومُقدِّماً تفسيره الخاصّ للفلسفة، قال دولوز في أحد الحوارت التي أُجريت معه: "الفلسفة تَعني دائماً استكشاف مفاهيم جديدة. وأنا لم أشعر أبداً بأيّ نوعٍ من القلق بخصوص تجاوُز الميتافيزيقا، وموت الفلسفة. وأعتقد أنّ للفلسفة وظيفةً تظلّ دائماً فاعلة في الحاضر. وهي تتمثّل في ابتداع مفاهيم. ولا أحد يُمكنه أن يقوم بذلك مكانها". ويُواصل دولوز تعريفه للفلسفة قائلاً: "الفلسفة ليست إبلاغيّة، وتأمّليّة، ولا استبطانيّة، وإنّما هي خلّاقة، بل ثوريّة بطبيعتها لأنّها لا تنقطع أبداً عن ابتكار مفاهيم جديدة (...) المفهوم هو الذي يَمنع الفكرة من أن تكون مجرّد رأي، ونقاش، وثرثرة...".
وقَبل وفاته بعامَيْن، تحاورَ جيل دولوز مع ديديه إيريبون حول قضايا فلسفيّة، وأيضاً حول بعض الشّخصيّات الفكريّة. وفي ذلك الحوار تحدَّث عن الكتابة قائلاً: "أنا لا أكتب ضدّ شخص، أو ضدّ شيء ما. بالنسبة إليّ، الكتابة حركة إيجابيّة مطلقاً، أي أنّها تهتمّ بما نحن نعشقه، ولا تحاول أن تُحارب ما نحن نكرهه. الكتابة الحقيقيّة هي تلك التي تَضع الوشاية في أسفل مستويات الكتابة وأحقرها. صحيح أنّ الكتابة تنطوي على أنّ هناك شيئاً ما ليس على ما يرام في المسألة التي نرغب بمعالجتها، وأنّنا لسنا راضين. باستطاعتي في مثل هذه الحالة أن أقول: أنا أكتب ضدّ الفكرة الجاهزة. ونحن نكتب دائماً وأبداً ضدّ الأفكار الجاهزة".
سارتر الذي أبهرَ جيلي
وتحدَّث جيل دولوز عن سارتر قائلاً: "كان سارتر كلّ شيء بالنسبة إليّ. وهو يختصّ بشيءٍ استثنائيّ خلال فترة الاحتلال النّازيّ لباريس، كان موقف سارتر طريقةً للعيش في المجال الفكريّ. والذين لاموه على أنّه سمحَ للمُخرجين بإخراج المسرحيّات التي كتبها في تلك الفترة، لم يقرؤوا تلك المسرحيّات. مسرحيّة "الذّباب" مثلاً تُشبه موسيقى جوزيي فيردي التي كانت تُعزف أمام النمساويّين. كان الإيطاليّون حين يسمعونها يصيحون: "برافو" لأنّهم يدركون جيّداً أنّها تُعبّر عن موقف مُقاوَمة. وكان ذلك مُنسجماً مع وضعيّة سارتر. وكان كتاب "الوجود والعدم" بمثابة القنبلة بالنسبة إليّ. ليس لأنّه مثل مسرحيّة "الذّباب" التي تُعبّر بشكلٍ مباشر تقريباً عن فعل المُقاومة، بل لأنّه كان مُبهراً، وجذّاباً. لقد كان كتاباً ضخماً، متضمّناً أفكاراً جديدة... ويا لهول الصّدمة!... قرأتُ "الوجود والعدم" حال صدوره. أتذكّر أنّني ذهبت مع ميشال ترونييه لشرائه، ثمّ قمنا بالتهامه للتّوّ. أَبهر سارتر كلّ أبناء جيلي. كان يَكتب روايات ومسرحيّات. الجميع كانوا يقلّدونه، وكثيرون كانوا يغارون منه. أمّا أنا فقد كنتُ شديد الانبهار به. وأعتقد أنه يمتلك شيئاً جديداً لا يُمكن أن يفعل فيه الزّمن... إنّه جديد دائماً وأبداً".
وتحدَّث دولوز في الحوار المذكور عن ثورة ربيع 1968 الطلاّبيّة على النّحو الآتي: "كانت تلك الفترة غنيّة جدّاً بالنسبة إليّ. وإذا ما أنا تناولتُ حياتي بالدرس، فإنّه باستطاعتي أن أقول إنّ هناك فترة فقيرة جدّاً، ألا وهي فترة الحرب العالميّة الثانية. وعقب انتهاء تلك الحرب، حدثَ انفجارٌ هائل على المستوى الثقافي والأدبي. ثمّ كانت هناك صحراء سنوات الخمسين... ثمّ من جديد، جاءت فترة قويّة تمثَّلت بمرحلة الستّينيّات (موجة السينما الجديدة، والرواية الجديدة..). أمّا في الفلسفة فقد كان هناك ميشال فوكو، ولاكان. خلال تلك الفترة حدثت حركةٌ هائلة على مستوياتٍ متعدّدة...
أمّا اليوم فقد عُدنا إلى الصّحراء مرّةً أخرى... غير أنّ هذا لا يتفاعل مع اتّجاهٍ واحد. لذا علينا ان نُميّز بين حالتَيْن. فبخصوص أولئك الذين أَنجزوا جزءاً كبيراً من عملهم، يُمكن القول إنّه ليس هناك مشكلة بالنسبة إليهم؛ إذ إنّه بإمكانهم أن يُواصلوا الكتابة، وأن يتجاوزوا الصّحراء.
أمّا بالنسبة إلى مَن هُم أقلّ سنّاً، فإنّ الأمر لا يعدو أن يكون كارثةً حقيقيّة. فالولادة والوصول أمران صعبان في زمن الأزمات، والفراغ".
لم يمُت ماركس
أمّا عن ماركس فقال دولوز: "لم أنتسب البتّة إلى الحزب الشيوعي، ولم أكُن ماركسيّاً قط قَبل سنوات الستّين. وما منعني من أن أكون ماركسيّاً هو ما كان يقوم به الشيوعيّون تجاه مثقّفيهم، ثمّ عليّ أن أضيف أنّني لم أكُن ماركسيّاً، لأنّني في الحقيقة لم أكُن أعرف ماركس في تلك الفترة. وقد قرأتُ ماركس في الفترة التي قرأتُ فيها نيتشه. وقد وجدته عبقريّاً. وأعتقد أنّ المفاهيم التي ابتَكرها ماركس لا تزال حيّة ومناسبة. في كتاباته هناك نقدٌ جذريّ. وثمّة كُتب لم أبدُ فيها متأثّراً بماركس كثيراً. واليوم بإمكاني الاعتراف بأنّني ماركسيّ تماماً (...) وأنا لا أفهم أولئك الذين يقولون إنّه مات. ثمّة أعمال يتحتّم القيام بها الآن: علينا أن نُحلّل وضْع السّوق العالميّة وتحوّلاتها. وإذا ما نحن سَعَيْنا إلى القيام بمثل هذا العمل، فإنّه يتوجّب علينا عندئذ أن نرتكز على ماركس بالأساس".
*كاتب وروائيّ من تونس - مؤسسة الفكر العربي

تعليق: دولوز.. انتحار الجسد لا يعني انتحار الفكرة
نصّ حسونة المصباحي يعيدنا إلى اللحظة التي قفز فيها جسد دولوز من النافذة، لكن ما يلفت حقًا هو أن أفكاره لم تهوِ معه، بل واصلت تحليقها في فضاء الفلسفة المعاصرة، وأصبحت جزءًا لا يتجزأ من خريطة التفكير النقدي العالمي.
في زمن تتكاثر فيه "الأجوبة السريعة"، يُذكّرنا دولوز بأن الفلسفة ليست بحثًا عن الأجوبة، بل ابتكارًا للأسئلة والمفاهيم. كان يكتب كمن يُجري عمليات جراحية على اللغة والفكر، لا ليرمّم، بل ليكشف البنية الخفية لما نعتقد أنه "طبيعي" أو "ثابت".
ما يميّز هذا النص أنه لا يتعامل مع دولوز كأيقونة فكرية فقط، بل يُعيده إلى إنسانيته: آلامه، إعجابه بسارتر، حيرته أمام سبينوزا، وتفاعله مع ربيع 68. نرى فيه مفكرًا يخاف من الجُمل الجاهزة، ويؤمن أن الفاشية تسكن التفاصيل الصغيرة.
وفي ظلّ قرن يُحتفل فيه بميلاده، فإنّ أعظم تكريم لدولوز هو ألّا نقرأه كـ "نص مقدّس"، بل كدعوة متجددة للهروب من السلطة، والانخراط في متعة التفكير الحرّ.
وكالة بث