الدخول في معنى ثقافة الأسفار

news image

 

د. عبد الله إبراهيم 
كاتب وباحث من العراق - مؤسسة الفكر العربي

شغف السفر وقراءة الرحلات

منذ وقت مبكر، تملكني شغف الاطلاع على كتب الرحلات، وتعمقت رغبتي في السفر، فجمعت بين الاثنين: الترحال والقراءة. خلال النصف الأول من عمري، غلبت عليّ الرغبة في السفر، ثم أصبحت القراءة بديلاً له عندما تعذّر. وفي النصف الثاني من عمري، حينما أتيح لي السفر، عادت الكتب لتكون مرآة لأماكن وطأتُها وأخرى تمنيت زيارتها، حتى صار الحنين هو المرحلة الثالثة في تجربتي.

 

ابن بطوطة وماركو بولو: مفاضلة بين دوافع الرحلة

تعرفت مبكرًا على ابن بطوطة وماركو بولو. الأول، الرحالة المغربي الشغوف بالمعرفة، والثاني، التاجر الإيطالي الباحث عن الثروة. كلاهما دوّن رحلته عبر راوٍ: ابن بطوطة أملى رحلته على ابن جزي، وماركو بولو على روستيكيانو. غير أن دوافعهما كانت مختلفة، مما انعكس على طبيعة الرحلات وتفاصيلها.

ابن بطوطة جال العالم الإسلامي وما بعده بفضول الباحث والمعاين، ووصف أحوال الناس والدول بعمق. أما ماركو بولو، فقد ركز على طريق الحرير والصين بدافع تجاري، مما قلل من شمولية نظرته.

 

الأسفار بين الذات والآخر

الرحلة الحقيقية، كما يراها الكاتب، لا تهدف إلى كسب المال بل إلى كسب المعرفة، وهي مشقة يتصدى لها صاحب الفضول لا الطامع. والرحالة الحقيقي هو من يذوب في المكان، ويصبح مرآة لثقافته، لا من يستعرض نفسه من خلاله.

 

الرحلة: معرفة، لا مجرد صور

يشير الكاتب إلى أن الإفراط في تصوير العالم أفقد الرحلات معناها الأصلي. فالصور تقتل الخيال وتغني عن التجربة. بينما الرحلة الأصيلة هي رواية تدمج بين البصر والبصيرة، بين المشاهدة والتأمل، وتفضي إلى دهشة معرفية لا تتحقق بالجهل.

 

كتابة الرحلة ليست تأريخًا

الرحلة ليست كتابة تاريخية لحادثة منتهية، بل تثبيت لذكرى نابضة بالمشاعر والانطباعات. هي مقاومة للنسيان، ومزيج من الواقع والخيال، ومن أعقد أشكال الكتابة التي تتطلب أمانة في السرد، ودقة في تمثيل الواقع.

 

🟡 تعليق مختصر:

هذا المقال هو دعوة حية للتفكر في عمق ثقافة الترحال، حيث لا يكون السفر ترفاً أو استعراضاً، بل سبيلاً لاكتشاف الذات عبر الآخر. وفي زمنٍ تطغى فيه الصورة على المعنى، يذكّرنا الكاتب بأن أعظم الرحلات تبدأ من الداخل، وأن الدهشة الحقيقية لا تُشترى، بل تُكتسب بالمعايشة والمعرفة.