الموت الوجوديّ أسلوباً في الحياة

news image

 

أحمد فرحات*

على مستوىً عربيّ عامّ (وكذلك على مستوىً عالميّ عامّ) نعيش هذه الأيّام مرحلةَ غياب القيمة في كلّ شيء، بخاصّة في الفكر والثقافة والسياسة؛ فكلّ شيء باهت، ولا معنى "لثورته" و"مفاجآته"، مهما كانت "عميقة" و"ضاربة".

إنّنا ولا شكّ في مرحلة تحوّلات، نجد خلالها، إلى جانب وهْم التفاؤل، عالَماً من الذعر والمكر والنقص والقبح والتنطّع وسيادة الغرائز. لقد اختلطت الأمور بعضها ببعض، على الرّغم من يباس منطلقاتها ومفاتيحها، وبات العقلُ نفسه يُستخدم لضرب العقل.

ولعلّه في محلّه قول البعض إنّ الغرب بات هو الشكل، وحشيّاً، يبحث عن لطافة المعنى.. والشرق بات هو المعنى، وحشيّاً، يبحث عن لطافة الشكل؛ وكلاهما على ما يبدو، أضحى لا يعرف كيف يقول ما يوقظ، ويدفع بالتالي إلى محاولاتِ تغييرِ هذا المشهد الفوضوي المتدفّق حاليّاً في العالَم.

حتّى الأمور العمليّة، باتت هي الأخرى ذات آليّة باهتة محكومة بالمصالح الآنيّة العابرة وصراع اقتصادات الغرائز.

وأصعب شيء أن يتحوّل العمل هنا إلى ضربٍ من ضروب التكرار بذاته ولذاته، إذّ ذاك تنقلب الحياة كلّها إلى مقبرة للإبداع ومغامرات التجديد.

ومختصراً نقول إنّنا نعيش مستقبلَ استلابٍ مُتحقّق، يبدو إنسانُنا خلاله ضائعاً بين استحداثيّةٍ تَستلب ذاتيّته، واستسلاميّةٍ تستلب إبداعيّته.. والمشهد كلّه مشهد تنافر وتضادّ وإغراب وقلق وتقطّع وشحوب.

والأنكى بعد، أنّ القلق الذي يجتاحنا أو يجتاح القلّة من مفكّرينا ومثقّفينا وسياسيّينا المتنوّرين، بات هو الآخر من ذاك الصنف غير الخصب أو الاستيلاديّ المُنتِج.. إنّه قلقٌ نكوصيّ يجترّ تداعياته ومتواليّاته بمأسويّةٍ فظيعة.

يزيد في الطين بلّة، أنّنا ثقافيّاً نعيش زمن اختلاط العصور كلّها دفعة واحدة، فمنّا من يعيش في ثقافته وأحواله فضاءَ القرن الخامس الهجري.. ومنّا مَن يعيش في الشكل عصر التكنولوجيا الفائقة وتحدّيات الذكاء الاصطناعي.. إلخ؛ ومنّا مَن "يسوح" في المناخَيْن دفعةً واحدة.. والكلّ في النتيجة يتناقض مع الكلّ في مشهديّةٍ فانتازيّة ولا أغرب.. يضيع فيها، دونما شكّ، الأصحّاء أو يهربون من الواقع برمّته، إمّا بالهجرة من البلاد، أو باصطناع المنافي داخل الأوطان نفسها.. وفي كلا الحالَيْن النتائج السلبيّة واحدة.

بالأمس، وعندما كانت تُنتهك حريّات شعوب، لا بل حتّى أفراد بعينهم، كان العالَم الفكري والثقافي، وحتّى السياسي (في بعض جوانبه) يضجّ من أقصاه إلى أقصاه، إدانةً، وقوّةَ ضغطٍ شبه مستدامة، بغية تصحيح الأمور.

"المكارثيّة" مثلاً في الولايات المتّحدة، وفي مرحلة الخمسينيّات من القرن الماضي، ذهبت عنواناً مضادّاً للتشهير بكلّ مَن يدافع عن حريّة الرأي والتفكير والمُعتقد، وخصوصاً في أوساط كِبار عُلماء أميركا ومفكّريها وشعرائها وفنّانيها من طراز: ألبرت أينشتاين، مارتن لوثر كينغ، آرثر ميلر، تشارلي شابلن، روبرت فروست، إدوارد كيمينغز وغيرهم.. وغيرهم؛ إذ اتُّهم هؤلاء، على سبيل المثال لا الحصر، بالشيوعيّة والتبعيّة للاتّحاد السوفياتي السابق. وتبيَّن في ما بعد خطل مثل هذا الاتّهام، وجَهل المسوّقين له، معرفيّاً وثقافيّاً.. وفي نهاية الأمر، انقلب السحر على الساحر، واقتيد عضو مجلس الشيوخ الأميركي جوزيف مكارثي، صاحب الاتّهام الدّعائي السطحي (طبعاً مع أعضاء اللّجنة المكارثيّة المروِّجة لمعلّمها في مجلس الشيوخ) إلى المحاكمة بتهمة التشهير بالآخرين ووصْمهم بالإرهاب... وزيدت على اتّهامه المذكور اتّهاماتٌ أخرى له، في طليعتها التزوير والفساد والعَبَث بالقوانين الوضعيّة الأميركيّة، زُجّ على إثرها في السجن... ثمّ في ما بعد ضعفت بِنيته، وخارَت قواه، ورحلَ عن هذا العالَم بعدما صار عبرة لمَن يَعتبر، داخل الولايات المتّحدة وخارجها.

اليوم، تُسحق شعوبٌ بحالها، وتُعاقَب دولٌ بعيْنِها على نحوٍ تراجيدي غير مسبوق، ولا مَن يتحرّك أو يرفّ له جفن.. لكأنّ بلادة عجيبة أَطبقتْ بسماكتها على الضمائر والعقول، فحوّلتها جميعاً إلى سديمٍ يتمرأى في ذاته؛ وغابَ عن المرحلة بالفعل شهداء الفكرة والقرار العادل الجريء.

هكذا تحوّلت فوضى العالَم اليوم إلى نظامٍ له سِطوته الآحاديّة المدعومة، وبات المثقّف بإزائها مشلولاً، أخرس، أو في أحسن الأحوال مغفَّلاً، يَحرق نفسَهُ بصمت، ويظلّ على محارقه مبعثَراً مشتَّت الجهود والاختبارات.

أكثر من ذلك، إنّنا نتساءل وبإلحاح: هل بتنا نعيش اليوم مفهوم نهاية عصر الحضارة المُعاصرة كما عرفناه، ودخلنا، استطراداً، عصر صراع الغابة من جديد بانتظار ولادةٍ ما؟

عن هذا السؤال لم أجد أنجع من جواب المفكّر والمؤرّخ الفرنسي العتيد لويس روبرت، الذي رأى أنّ حضارة الغرب قد انتهت فعلاً... وما من رؤية حضاريّة للمستقبل ستكون لها قيمة منذ الآن، إلّا إذا تضمّنت قيَمَ الحضارات الخمس الكبرى: الأوروبيّة (الفكر)، العربيّة (اللّغة)، الهنديّة (الحركة)، الصينيّة - اليابانيّة (الإشارة)، الأفريقيّة (الإيقاع).

قد تتحوّل ذات يوم هذي الكيمياء البشريّة إلى فعلٍ حضاريّ متجدّد بقيمه المختلفة، ومع ذلك يظلّ السؤال مرفوعاً: مَن يَضمن فعلاً قيامَ مثل هذه الكيمياء المبدعة من جديد ويَحفظها لاحقاً؟ مَن يضمن هيْمَنة نظام العدالة/ الحقّ؟ ومبادئ الديمقراطيّة/ الحقّ؟.. مَن يضمن أيضاً خصوصيّة أيّة ثقافة لأيّ شعب (مهما بدتْ هامشيّة أو مُتداعية) داخل النسيج الثقافي والحضاري الإنساني العامّ؟

كتلٌ جماعيّة لا مُجتمعات

الهزائم.. هزائمنا وتداعياتها المفتوحة على المستويات كافّة، تحوّلت وتتحوّل فينا إجمالاً، إلى شهوةٍ للإقصاء.. إقصاء الذّات عن ذاتها والشعور باللّاجدوى المُطلَقة. وعلى ما يبدو، فقد تقبّلت ذاتُنا العربيّة موتَها الوجودي وجعلتْه أسلوباً في الحياة.

لكأنّ الحزن العربي بأبعاده الدراميّة الخطرة صَهَرَ إنسانَنا، حتّى في أحلامه وهواجسه وهذياناته اليوميّة، فبات التناقض يضرب عُمق أعماقه؛ ويشلّ فيه، ليس العقل والجسد فقط، وإنّما منصّات مخيال التأمّلات الباطنيّة الحرّة.

وبفقدانه السيطرة على ذاته، بات مثقّفُنا العربي فاقداً السيطرة على المجتمع؛ وتحوّلت ثقافتُه إلى ثقافةٍ هروبيّة، أنانيّة، بالكاد تدور في فلك يأسه الضيّق المحدود، وغالباً ما يدفعه يأسه الضيّق هذا إلى مفاقمة التراكمات السلبيّة النافرة فيه، فيَجد نفسَه، وعلى نحوٍ آليّ، مكشوفاً على مزيدٍ من العجز والإحباط المُبهظَيْن.

ولعلّه في محلّه القول إنّ الوجع النفساني العميق ضروري للانخلاع على الإبداع والتألُّق عبره، لكنّ الشرط اللّازب لترجمة ذلك هنا، هو أن يظلّ الوجع النفساني موصولاً بالصمت العميق الخلّاق والأسئلة الحارقة المولّدة، وليس أبداً بإذكاء وإعلاء صوت الحماسة المجّانيّة، والخطابة، وتكرار المُكرَّر.. وهذا للأسف، ما يغطّي نسبةً كبيرة من بيان خطابنا الثقافي العربي المعاصر، وعلى الأخصّ منه ذاك الذي كان يدّعي فرسانُهُ فِعْلَ التجاوُز والتخطّي منذ عقود، وهُم بالكاد يفارقون اليوم شكلَ تقديماتهم المكرورة إيّاها، والمُستقاة عموماً من جاذبيّة الآخر الغربي التي تستولي عليهم كليّاً.

هذا لا يعني، في المقابل، أنّنا على الضدّ من ثقافة الآخر الغربي ذات السطوة والانتشار.. على العكس تماماً، فما ندعوه بالثقافة الغربيّة اليوم، أصبح، شئنا أم أبينا، ثقافةً عالميّة، ولا يُمكن بالتالي العيش خارجها، وإلّا نكون قد حكمنا على أنفسنا بالخروج من التاريخ.

من جهةٍ أخرى، لا مندوحة لنا من الاعتراف بأنّ مثقّفنا، وعلى الرّغم ممّا هو فيه من حزن وكآبة وغربة وانكسار، نراه يَلجأ أحياناً إلى "التلاعب المُمنْهَج" على نفسه، وعلى الآخرين، وخصوصاً عندما يَعمد إلى إضفاء الأهميّة والجديّة على سخيف الأفكار والتصوّرات و"الإبداعات" التي تتدفقّ عليه، طالبةً منه التقييم والتقويم، ويتشاطر بعدها بالانتقال من تكاذُبٍ إلى تكاذُب، ومن "مديحٍ" إلى "مديح"، ومن "شفافيّةٍ" إلى "شفافيّة"، تؤازره في ذلك تعابير يُنتجها على الفور من عناصر المرونة المُذهِلة التي تتّصف بها لغتُنا العربيّة وتنوُّع تراكيبها.

لا عجب إذاً، والأمور كذلك، أن يعمّ "الكاريكاتوريّ" محلّ الواقعيّ، والواقعيّ محلّ "الكاريكاتوريّ" في فضاء حياتنا الثقافيّة العربيّة.. ومعه يتمّ استطراداً نفي، بل شجْب أيّ تحليلٍ عقلاني مُرافِق أو لاحِق لذلكم "الكاريكاتوري".

هكذا، وبصورة عامّة، نحن لسنا أكثر من متلفات بشريّةٍ تَستهلك وتُنظِّر لاستهلاكها وتَلَفِها.. وتجد نفسَها ليست فخورة بذلك فقط، وإنّما جذلى ومتوائمة مع المشهد العامّ الذي يتحرّك بتراخٍ كسليّ مُفزع.

"آلامنا الكبرى" تبدو في أغلبها عامّة، سطحيّة، لا تتجاوز التحسُّر على "ثروة" أو "امرأة" أو "مُلكيّة".. ومع هذا كلّه، أو فوقه كلّه، تتقدّم عقدةُ السياسة أو السلطة السياسيّة: تلك الآفة التي تنخر في الذّات العربيّة نخراً مَرَضيّاً ليس له حلّ.

تجاربنا، ظواهرنا، حراكنا العامّ، يرتطم بعضه ببعض، ثمّ يمتزج فَوَراناً عُصابيّاً يؤكّده التوصيف المتداول على الأرض، ومفاده أنّ العربيّ هو ذئب العربيّ.. والمرجعيّة الغلّابة هنا، تظلّ تتمثّل في الماضي الاستبداديّ، المُقترِن، بدَوره، بسكونٍ فصامي يقطع مع المتغيّرات الحديثة كلّها.

ومن عجيب المُفارقات، أنّنا، وعلى مستوى المتغيّرات الحديثة، وقضايا الحداثة والتحديث، ما زلنا نتجرّأ ونخوض في مثل هكذا موضوعات، بينما نحن في واقع الأمر "تراثيّون بنسيان التراث، ومذهبيّون بنسيان فكر الكائن المتجدّد، وتقنيّون بالعبوديّة" على حدّ تعبير المفكّر المغربي الصديق د. عبد الكبير الخطيبي.

وهنا نجد لزاماً علينا التذكير بأنّ عنصر تمازُج الثقافات في القرن الرّابع الهجري وما تلاه، هو الذي جدَّد الثقافةَ العربيّة - الإسلاميّة، ومكَّنها من أن تُغني ذاتها عن طريق انفتاحها على سواها من الثقافات، فشكّلت عهدئذٍ ثورةً حداثويّة كبرى، فاعلة ومتفاعلة على كلّ المستويات، الأمر الذي جَعَلَ مؤرِّخَ الحضارات العالميّة الأسترالي جون هيرست، يَضع وبكلّ ثقة واعتداد، المعجزة العربيّة في مقابل المعجزة الإغريقيّة.

فصل المقال، عندما تَقترن الحاجةُ لدينا بالذعر والحريّةُ بالضجر، ترتفع حقائق مؤسية، لعلّ أخفّها وطأة القول إنّنا، عرباً مُعاصرين، أنشأنا حتّى الآن كتلاً بشريّة لا مُجتمعات.

 

*مؤسّسة الفكر العربي  

وكالة بث