إعادة ضبط النظام العالمي.. "اجعل أمريكا عظيمة مجددًا"، الحروب التجارية، والخيارات الصعبة في الشرق الأوسط

سناء عيسى *
نظام في حالة اضطراب
قام الرئيس ترامب، في غضون أيام قليلة، بإعادة كتابة قواعد التجارة العالمية، مستخدمًا التعريفات الجمركية كوسيلة للضغط ومتجاهلاً عقودًا من الدبلوماسية الاقتصادية القائمة على التجارة الحرة والقوة الناعمة. نهجه لا يتعلق فقط بالاقتصاد - إنه تحول أيديولوجي يضع القوة الوطنية والأمن فوق المبادئ الاقتصادية التقليدية.
هذا التغيير مزعج للنخب العالمية والطبقة الوسطى ذات الياقات البيضاء والمؤسسات متعددة الجنسيات، وكل من اعتمد على استقرار النظام الاقتصادي العالمي بعد الثمانينيات. النظام القديم الذي خدم الديمقراطيات الليبرالية الغربية والصين، وأتاح الاستقرار في التنافس، انتهى الآن.
بدلاً من اتباع دورة الحملات الانتخابية التقليدية التي تعقبها سياسات أكثر اعتدالًا، يمثل شعار "اجعل أمريكا عظيمة مجددًا" ثورة تسارعية تعيد تعريف التمويل والتجارة والسياسة الخارجية والثقافة. في هذا السياق، تشير التسارعية إلى الاعتقاد بأن تعطيل الأنظمة الحالية - حتى لدرجة الفوضى - سيؤدي إلى تحول نحو نظام جديد.
ترامب ليس مجرد شخصية سياسية؛ إنه رمز لحركة تجمع بين الليبرالية الاقتصادية والقومية، وتتميز بالبراغماتية في التنفيذ. استراتيجيته مبنية على افتراض أن زعزعة الاستقرار ستفتح المجال للولايات المتحدة لإعادة تأكيد هيمنتها كقوة عالمية مهيمنة، ولكن وفقًا لشروطها الخاصة.
ومع ذلك، فإن جزءًا كبيرًا من هذه السياسات الجذرية له طابع أدائي يهدف إلى تعزيز سلطته الداخلية. تُستخدم الأوامر التنفيذية وسياسات التجارة الراديكالية لتحقيق هدفين رئيسيين:
- الحفاظ على دعم قاعدته الشعبية.
- إجبار الكونغرس على التحرك بسرعة بشأن الموافقات على التعيينات الوزارية.
وهذا يشير إلى أن الشكل النهائي للسياسة الخارجية الأمريكية في ظل هذه الإدارة لم يتضح بعد. وبينما يُنظر إلى نهج ترامب حاليًا على أنه مخل بالنظام، يبقى هدفه التفاوض وليس الحرب الاقتصادية الشاملة.
خطة ترامب: التعطيل للهيمنة
لقد حول ترامب وفريقه النفوذ الأمريكي بعيدًا عن دبلوماسية القوة الناعمة إلى نموذج يعتمد على الصفقات عالية المخاطر. لم تعد الولايات المتحدة مهتمة بتمويل المشاريع الأيديولوجية التي لا تخدم مصالحها الوطنية المباشرة. اللعبة الآن واضحة: إذا أردت الوصول إلى الأسواق الأمريكية، أو الدعم العسكري، أو التأييد الدبلوماسي، فعليك أن تدفع الثمن - اقتصاديًا أو سياسيًا.
سارعت المكسيك وكندا للاستجابة بعد فرض ترامب تعريفات بنسبة 25%، وقدموا تنازلات فورية مثل نشر 10,000 جندي على الحدود بين الولايات المتحدة والمكسيك.
سحبت بنما انضمامها إلى مبادرة الحزام والطريق الصينية على أمل البقاء في صف واشنطن.
أصبحت الموارد الاستراتيجية في جرينلاند هدفًا أمريكيًا، واضطرت الدنمارك إلى الاستجابة لمطالب ترامب.
هذه الاستراتيجية عالية المخاطر تجبر الحلفاء والمنافسين على إعادة تقييم ما يمكنهم مقاومته وما يجب أن يمتثلوا له. بالنسبة للبعض، يُنظر إلى هذا التحول على أنه تحرير من القيود الأيديولوجية، بينما يسبب للبعض الآخر، خاصة الديمقراطيات الليبرالية في أوروبا، حالة من الارتباك وعدم الاستقرار الداخلي.
ماذا يعني ذلك بالنسبة للسعودية والمنطقة؟
يفرض مبدأ ترامب على الحلفاء الغربيين غير الأمريكيين ودول الخليج ودول "بريكس" اختيار مواقفهم بعناية. بالنسبة للسعودية، فإن المخاطر كبيرة.
من ناحية، تدرك الرياض أن دورها كمركز اقتصادي وأمني إقليمي يتماشى مع المصالح الأمريكية. ومن ناحية أخرى، فإن زعزعة التجارة العالمية والتحالفات يضيفان مزيدًا من عدم اليقين - خاصةً مع سعي المملكة لتحقيق توازن في علاقاتها مع كل من واشنطن والقوى الصاعدة مثل الصين وروسيا.
تسعى الولايات المتحدة لإعادة تشكيل الشرق الأوسط من خلال منظور اقتصادي، لإحياء رؤيتها لـ "التعاون الإقليمي": وهو إطار اقتصادي يدمج دول الخليج مع إسرائيل ومصر ولبنان وسوريا في إطار أمني وتجاري مشترك.
لكن هذا النهج ذو طابع تسارعي يقوم على افتراض أن زعزعة استقرار المنطقة، وفرض التكامل الاقتصادي السريع، وتهميش الخلافات السياسية سيؤدي إلى نظام جديد. ومع ذلك، فإن أزمة غزة الأخيرة كشفت عن مخاطر هذا الافتراض.
إن فكرة تحقيق الرخاء مقابل التسليم السياسي الفلسطيني تفترض أن التطلعات العربية يمكن تهميشها من خلال التقدم الاقتصادي النيوليبرالي. ولكن التاريخ يشير إلى خلاف ذلك - التوترات الطبقية، والقومية، والهوية الدينية لا تختفي فقط بوجود الفرص الاقتصادية.
اليقظة السعودية تجاه الضمانات الأمنية الأمريكية
تعرض إعادة الترتيب هذه أمام السعودية فرصًا ومخاطر في الوقت نفسه. ستقبل المملكة أي صفقة أمنية مع الولايات المتحدة بسرعة، ولكن فقط إذا حصلت على موافقة الكونغرس. فأي شيء أقل من ذلك يترك الرياض عرضة لتقلبات الإدارات الأمريكية المستقبلية.
نظرًا لاستخدام ترامب للتعريفات كأداة سياسية تتجاوز التجارة، وربطه السياسات الاقتصادية بالضمانات الأمنية، فإن ذلك يعني أن الحلفاء يجب أن يتبعوا الأولويات الأمريكية أو يواجهوا العزلة الاستراتيجية.
لذلك، على السعودية ألا تسمح بالضغط لتوقيع اتفاقيات تفتقر إلى الديمومة. فالصفقات قصيرة الأجل بدون دعم من الكونغرس قد تكون مؤقتة في أفضل الأحوال وتتحول إلى عبء في أسوأها.
التداعيات الاقتصادية العالمية والنظام الجديد
تُشعر سياسة "اجعل أمريكا عظيمة مجددًا" العالم بأسره بصدماتها، من واشنطن إلى بروكسل، ومن بكين إلى الرياض. بينما يكافح الأوروبيون، تواجه الصين وروسيا الحقائق الجديدة بحذر، إذ يقبلون أن عصر الاستقرار الأمريكي قد انتهى.
لذلك، يتعين على السعودية أن تعيد تقييم دورها كمركز اقتصادي وأمني، والتأكد من أن أي اتفاقات تتماشى مع مصالحها طويلة الأجل بدلاً من الاستجابة للضغوط قصيرة الأجل.
*خبيرة في الإعلام الإستراتيجي – وكالة بث