مذكّرات ثلاثة أجيال من النساء العربيّات

news image

 
 

د. حسن عبود*


في كتابها السيرة الذاتيّة "جدّتي وأمّي وأنا: مذكّرات ثلاثة أجيال من النساء العربيّات "Teta, Mother and Me: An Arab Woman's Memoir" (الصادر بالإنكليزيّة في العام 2005، والذي قامت الدكتورة هالة كمال بترجمته إلى العربيّة، وصَدَرَ في القاهرة عن المركز القوميّ للترجمة في العام 2013)، تؤرِّخ الكاتبةُ والأستاذةُ الجامعيّة والناشطةُ في "تجمّع الباحثات اللّبنانيّات" جين سعيد المقدسي لجينيولوجيا أمّهاتٍ لأسرةٍ ترعرعتْ في مُدنٍ مُتفرّقة بسبب الحروب المُتواصلة وفقدان الأوطان؛ فتعدَّدت أصولُها وانتماءاتُها المحليّة بين مُدنٍ فلسطينيّة ومصريّة ولبنانيّة.

أُسر رائدة بتعليم البنات والبنين، عربيّة الهويّة والانتماء، بروتستانتيّة بتقاليد الكنيسة المعمدانيّة ومشْيختها: من جدّتها منيرة يوسف بدر (وُلدت في حمص في 5 تمّوز/ يوليو 1880 وتوفّيت في بيروت في العام 1973)، زوجة يوسف بدر الذي تمَّ تعيينه كأوّل قسّ للكنيسة الإنجيليّة الوطنيّة في بيروت، بعد قيام الكنيسة من قِبَل الإرساليّة السوريّة في العام 1965، إلى أمّها هيلدا موسى سعيد (وُلدت في الناصرة في العام 1914 وتوفّيت في مدينة واشنطن في العام 1990)، فالحفيدة جين سعيد المقدسي (وُلدت في القدس في العام 1940)، توالَدَ نسيجُ الأسرة بمعارف النساء وخبراتهنّ وبالالتزام بآداب المُجتمع أحياناً والثورة عليها أحياناً أخرى.

لو أحْبَبنا أن نُموْضِع هذا الكِتاب/ السيرة لجين سعيد المقدسي من ضمن سِيَر النساء العربيّات الذاتيّة في الأدب العربي المعاصر، لقلْنا إنّها ليست بجديدة. فثمّة عددٌ لا بأس به من السيَر الذاتيّة والمذكّرات النسائيّة، أذكر منها حملة تفتيش: أوراق شخصيّة (1992) للأكاديميّة والأديبة المصريّة لطيفة الزيّات (ت 1996)، التي مَزجتْ فيها بين الرواية والسيرة الذاتيّة بشكلٍ مُبدع. ومنذ خمسة أعوام وصلني الكتاب الشيّق سِيَر الأمّهات (2020) للباحثة في القضايا السياسيّة والاجتماعيّة الشاعرة السعوديّة فوزيّة أبو خالد (1956). وهو كتاب سِيَريّ حول كيانٍ مؤسّساتي اجتماعي وهويّة وتجربة ذاتيّة للأمّ نفسها؛ وقد تضمَّن شهادات سجّلتها وجوهٌ ثقافيّة عن أمّهاتها في التاريخ الاجتماعي المُعاصر للمملكة العربيّة السعوديّة التي تَشهد تحوّلاتٍ هائلة اليوم. لكنّ السيرة الذاتيّة النِسائيّة الأسريّة لجين سعيد المقدسي تُشبه، إلى حدٍّ ما، سيرةَ لطيفة الزيّات الذاتيّة المرتبطة بالذاتيّة الوطنيّة، من زمن الانتداب البريطاني الى استقلال مصر (1952)، حين زُجَّت الزيّات للمرّة الأولى على يد المُستعمِر البريطاني في السجن الانفرادي لمدّة 6 أشهر؛ ومن ثمّ سُجنت للمرّة الثانية في سجن النساء الجماعي بعد اتّفاقيّة كامب دايفيد (1989) وانضمام الزيّات الى حركة مُناهَضة التطبيع مع إسرائيل. لكنْ بعيداً عن السجن، فإنّ سيرة جين تُشبه سيرة لطيفة من حيث النضال الثقافي والوفاء إلى سؤال النساء: "مَن نحن وماذا نريد؟"، والذي يَحمل مقوّماته الحضاريّة المحليّة من داخل البيت والوطن، حيث لا يوجد ما هو غير سياسي في حيوات النساء العربيّات.

وسيرةُ جدّةِ جين سعيد وأمُّها وسيرتُها هي أيضاً، أي سيَر الذوات النِسائيّة في عائلتها، هي سيَرٌ تاريخيّة تُؤطِّر، بعمليّةِ بحثٍ وتقصٍّ جينيولوجيّ للأمّهات، لدراسة الشخصيّة النسائيّة الثقافيّة المُقيمة في الوطن أو المُرتحِلة عنه في فضاءات المُدن العربيّة، منذ أوائل القرن العشرين (زمن الجدّة) إلى السبعينيّات (زمن الأمّ) لغاية لحظتنا الرّاهنة (زمن الابنة).

بسبب عَوْلَمةٍ مُبكِّرة

عَبر هذه الأزمنة الطويلة، سعتِ المؤلِّفة إلى تفجير التعقيدات التي عاشتها هي: من الاغتراب عن اللّغة العربيّة إلى تضارُب الأدوار المتعدّدة التي تقوم بها المرأة، بين أن تكون ربّة بيت وأمّ وسيّدة مُجتمع وأستاذة جامعيّة وكاتبة، فضلاً عن الإسهام في تحرير الأوطان من الاستعمار والظلم، سواء في فلسطين (خسارة فلسطين في العام 1948 وهزيمة العرب في العام 1967 ...إلخ) أم في مصر المَلكيّة ثمّ مصر الثورة، حيث عاشت جين طفولتَها واختبرتْ ثوراتِ أرض الكنانة (1952 وحرب السويس 1956)، أم في لبنان الذي استقرَّت فيه وعاصرَت حروبَه الأهليّة (1975 - 1992) وغير الأهليّة (اجتياح إسرائيل للبنان 1982 وضرباتها العسكريّة قَبْلَ هذا الاجتياح وبَعده). من خلال المُدن المتعدّدة التي أقامت فيها، وانتقلت بين ظهرانيها ومن ثمّ فقدَتْها، وعلى مدى كلّ هذه التواريخ الصعبة، حاولتِ المؤلِّفةُ انتزاعَ اعتراف مُحيط العائلة والمدرسة والمُجتمع، من الجدّة الى الأمّ فالابنة، بقوّة النساء ومواجهتهنّ مصائرهنّ والتّحدّيات كافّة على تنوُّعِها.

وإذا كانت الناقدةُ الأدبيّة اللّبنانيّة يُمنى العيد (م 1935) قد استعادت في سيرتها الذاتيّة "أرق الروح" (2012) طفولتَها ونشأتَها وغريزةَ الحبّ للأمكنة الأولى، صيدا (داخل سور المدينة القديمة)، فإنّ جين سعيد المقدسي أرادت أن تَستعيد كلّ الأمكنة التي قضتْ فيها طفولتَها وصباها، بدءاً من البيت المقدسي في فلسطين، إلى المدرسة البريطانيّة في القاهرة، ومن ثمّ "كليّة فاسار للبنات" في الولايات المتّحدة الأميركيّة، وهي أوّل مؤسّسة للتعليم العالي للفتيات في الولايات المتّحدة (1860)، حيث تابعت هناك دراسة الأدب الإنكليزي وذاقتْ طعمَ الحريّة وطوَّرت شغفَها بالموسيقى وحُبَّها للسفر، إلى أن استقرَّت مع زوجها سمير المقدسي وأبنائها الأساتذة ساري وأسامة وكريم المقدسي في بيروت.

من التحديّات الثقافيّة التي واجهتْها صاحبةُ السيرة بسبب عوْلمةٍ مبكّرة اختبرتها هي شخصيّاً بين الثقافة المحليّة والثقافة الإنكليزيّة الوافدة، ثمّة أوّلاً: قضيّة فقدانها القدرة اللّغويّة على الكتابة والتأليف بـ "اللّغة العربيّة"، وهي لغتها الأمّ العزيزة على قلبها إلى أبعد حدّ. ثانياً: مسألة نزْع الاعتراف بالأعمال متعدّدة المستويات التي تقوم بها النساءُ وبقوّتهنّ في البيت وخارج البيت. ثالثاً: قضيّة الاستعمار والإقصاء المُمارَس على الثقافات المحلّيّة التي أسهمَت في نشأة الأسرة وتكوينها كنواةٍ راسخة، وفي بناء المؤسّسة التعليميّة وثباتها من المدرسة إلى الجامعة. ولو تتبَّعْنا نشاطَ جين سعيد المقدسي في مُواجهة هذه التحديّات وجهودها لردْم الهوّة اللّغويّة والنِسْويّة والثقافيّة، لرأيناها متمثّلة في تلك القدرة على التشبيك بين النساء العربيّات الباحثات وحثّهنّ على عقْد مؤتمرات تَحفر في هذه التحديّات وتُواجهها؛ كتنظيمها شراكاتٍ أو تعاونٍ مثلاً بين مؤسّساتٍ بحثيّة نسائيّة بين لبنان (تجمّع الباحثات اللّبنانيّات) ومِصر (مؤسّسة المرأة والذاكرة) وفلسطين (جامعة بير زيت) بالمشاركة مع زميلاتٍ لها لتحرير أعمال هذه المؤسّسات ونتاجاتها في إصداراتٍ تُعَدّ رائدة في هذا المضمار؛ من ذلك مثلاً أعمال مؤتمر النساء العربيّات في العشرينيّات: حضوراً وهويّة (تجمُّع الباحثات اللّبنانيّات، 2001) والنِسويّة العربيّة: رؤية نقديّة (تجمُّع الباحثات اللّبنانيّات، 2012).

بين اللّغة والتاريخ السياسيّ

تُخصِّص جين سعيد المقدسي أوّلَ فصلٍ من سيرتِها لسؤال اللّغة العربيّة وعلاقة هذه اللّغة بالتاريخ السياسي لمنطقتنا. وبالنّظر إلى افتقاد جين القدرةَ على الكتابة باللّغة الأمّ بسبب ارتيادها المدارس الإرساليّة التي كانت هي الرائجة في زمنها للتعليم الحديث، وبما يتضمّنه ذلك "من دَور الإرساليّات في التعليم، والتعليم الإمبرياليّ، ومعرفتنا المُلتوية بالتاريخ والثقافة"، شعرتْ جين بهذا الاغتراب عن لغتها الأمّ لعدم إتقانها والتمكُّن منها للكتابة بها (ص13)؛ هذا الموقف قد لا يهمّ بعض الشرائح الاجتماعيّة، ولا يهمّ الكثير من المدارس الإرساليّة والطائفيّة التي أَخذتْ على عاتقها تبنّي القرار السياسي بإقصاء اللّغة الأمّ عمْداً، سواء باستخدام هيئة الطلّاب أم الأساتذة لها في البرنامج التعليمي.

تقول المؤلِّفة عن اللّغة العربيّة الأمّ: "اللّغة العربيّة هي لغة قلبي ولغة روحي. هي اللّغة التي تربطني بماضيّ، بفلسطين ومصر وبلبنان حيث أعيش. تربطني بوالدي ووالدتي وبجدّتي وبكلّ العائلة التي أحببتها من كلّ قلبي. وتربطني بحاضري بشقيقي وشقيقاتي، وبالعالَم الحديث بما فيه من صراعاتٍ ومُعاناةٍ وحروبٍ لا تنتهي. وتربطني بالنضال في سبيل التحرُّر والحريّة التي تَمنحني الأمل والأحلام والسعادة. كما تربطني بأبنائي وأحفادي وسعْيِهم لمعرفة اللّغة العربيّة والارتباط بها وحبّها مثلما أحبّها أنا" (ص6-7).

تَكشف المؤلِّفة، في زمن الاستعمار البريطاني لمِصر، عن دَور الإرساليّات في التعليم، والتعليم الإمبريالي، والمعرفة المُلتوية للتاريخ والثقافة حين كانت مدرستُها، المدرسة الإنكليزيّة في القاهرة، تُعلِّم جغرافيّة بريطانيا وتاريخها ولا تُعلِّم عبقريّة مِصر الجغرافيّة، من نِيلها إلى صحرائها، ولا تُعلِّم عبقريّة مِصر التاريخيّة من مصر الفرعونيّة الى مصر النهضة الحديثة. هكذا كان الاستعمارُ يَفصل المدرسةَ والطلّاب عن محيطهم الوطني والثقافي المحلّي لتسهيل فكرة استعماره وواقعه. وكذلك على مستوى البَيت نفسه، كان هناك فصلٌ بين العامّ والخاصّ، فكما كان هناك استعمارٌ بريطانيّ، كان ثمّة استعمارُ الرجال للنساء على حدّ قول رائدة الدعوة إلى تعليم البنات في مصر، ملك حفني ناصف (ت 1918)؛ والسبب هو أنّ السياسي يَفرض اختلاطَ الخاصّ بالعامّ، وهذا الاختلاط كان مذموماً أيّام أمّهاتنا وجدّاتنا، بخاصّة في الطبقتَيْن العليا والوسطى من طبقات المُجتمع، بحيث أُبعِدَتْ النساء عن عالَم السياسة. تقول المؤلِّفة:

"لقد كان الوعي السياسي ناهيك عن العمل السياسي، يكاد يغيب تماماً عن حياتنا المنزليّة. وكانت الحميميّة القائمة بين أجيال النساء في بيْتنا تقتصر على تدريب وتربية الأجيال الشابّة، فكان يتمّ تعليمُنا حِرَف النساء على أيدي الأمّ والجدّة، ولم يكُن لذلك أيّة علاقة بالسياسة. ولكنّه مع ذلك - وربّما بشكلٍ غير مقصود - تدرَّبنا على التحكُّم في النَّفس والانغلاق والانشغال بالذّات. فبعدما وَجدوا أنفسَهم مُحاصرين بعد ضياع فلسطين، صارَ همُّ والدي الأساسي هو توفير الأمان لأطفاله مُستنداً إلى العلاقات والأخلاق والتعليم بدلاً من الأمتعة الماديّة الملموسة. وكنّا نسمع باستمرار أنّ مسارات حيواتنا ستعتمد علينا، أي على المهارات التي سيوفّرها لنا والدانا عبر التعليم الذي آمنّا به دوماً".

هنا لا بدّ أن أثني على جهد المؤلِّفة وجرأتها في إبداع جنسٍ أدبيٍّ يمزج بين مذكّرات الأمّهات والتاريخ الاجتماعي؛ بحيث نجحتْ في الإمساك بزمام التعقيدات الكبيرة التي أحاطت بحيوات جدّتها منيرة وأمّها هيلدا وفي حياتها هي وفي السياقات التاريخيّة، وبما تتضمَّنه "من التفاصيل الشخصيّة المتّصلة بالحبّ والزواج وتنشئة الأطفال والولادة والموت والبهجة والحِداد، وبناء البيوت والأوطان ثمّ فقْدها، والحياة خلال الحروب والنجاة من الموت فيها وكلّ تداعياتها القاسية"... وإذا كان الناقدُ الأدبيّ الفذّ والمفكِّر إدوارد سعيد قد نجحَ في طرْحِ "نظريّة الاستشراق" على العالَم الفكري والأكاديمي، كما وفي مذكّراته "خارج المكان"، دفاعاً عن فلسطين (ط1، 1999)، فقد نجحتْ جين سعيد المقدسي في طرْح "نظريّة الاقتراب" كحامية لفلسطين وللثقافة العربيّة، وفي الوصل بين البَيْت المحلّي والبيت العالَمي حفْظاً لذاكرة الوطن والأمكنة من خلال ذكرياتٍ قد يصحّ أن نُطلِق عليها عنوان "داخل المكان" بين التماسك الأُسري والاجتماعي وخلْق الشخصيّة الوطنيّة وبنائها.

*باحثة من لبنان - مؤسسة الكر العربي
وكالة بث