سوق الكهرباء العربيّة .. والتكامُل الاقتصاديّ
عدنان كريمة*
قَبل أن يَدخل تشغيلُ خطّ الربط الكهربائيّ بين مصر والمَملكة العربيّة السعوديّة، والذي كلَّف نحو 1.8 مليار دولار، الخدمةَ الفعليّة في أيّار/ مايو 2025، تمَّ التوقيع في القاهرة في الثاني من كانون الأوّل/ ديسمبر الماضي على إتّفاقيّتَيْن بين 11 دولة عربيّة لإطلاق "السوق العربيّة المُشترَكة للكهرباء"، وهُما "إتّفاقيّة عامّة" تُحدِّد أهدافَ السوق وآليّات تطويرها، والثانية تَضَع الإطار المؤسَّسيّ والتجاريّ للسوق بما يَشمل حوْكَمة التشغيل والتعاوُن بين الدول الأعضاء.
وقد وُصف هذا الإنجاز بأنّه خطوة تاريخيّة، تتمثّل في تعزيز استقرار الإمدادات الكهربائيّة، وخفْض الكِلف، ودعْم استثمارات الطّاقة المُتجدِّدة، وترسيخ مكانة الدول العربيّة كمصدرٍ رئيس للطاقة النظيفة عالَميّاً. هذا فضلاً عن تحسين كفاءة استهلاك الكهرباء، وتوسيع المشروعات التنمويّة، ما يُعزِّز استراتيجيّة الطّاقة الوطنيّة. وتُعَدّ هذه السوق منصّةً لتحقيق "التنمية المُستدامة" والتكامل الاقتصادي، ما يَعكس التزاماً عربيّاً واضحاً بتحقيق رؤية شاملة، قائمة على الاستفادة من الموارد المتجدّدة.
بعد مرور نحو سبع سنوات على توقيع مذكّرة تفاهم بين 22 دولة عربيّة في العام 2017، بهدفِ تعزيز مفهوم السوق العربيّة المشتركة للكهرباء، تحقَّق هذا الإنجاز الكبير الذي حدَّد الخطوات التنفيذيّة الحاكمة لتنظيم سوق الطّاقة، خلال اجتماع مجلس وزراء الكهرباء العرب في دَورته الخامسة عشرة في القاهرة. والدول الموقِّعة هي: الإمارات العربيّة المتّحدة، المَملكة العربيّة السعوديّة، الكويت، قطر، مصر، سورية، فلسطين، ليبيا، السودان، المغرب، اليمن. وقد تطلَّبت عمليّة إعداد المشروع سنواتٍ من العمل الفنّي المُكثَّف، حيث قامَت فِرَقٌ من الخبراء والمُختصّين بتأسيسه على بنيةٍ تحتيّة وتقنيّة قانونيّة. كما تمَّ تطوير نُظم الربط في مجال الكهرباء بين الدول المُشارِكة، بما يُعزِّز القدرة على تبادُل الطاقة وفقاً للعَرض والطلب.
التكامُل الاقتصاديّ
يَعكس هذا المشروع رؤيةً عربيّةً مُشترَكة في اتّجاه تعزيز التعاوُن في مجال الطّاقة، ويُمهِّد الطريقَ لتحقيق الاستخدام الأمثل للقدرات الإنتاجيّة للكهرباء في الدول العربيّة، وتحسين المزايا التنافسيّة في السوق الدوليّة للطاقة؛ وخصوصاً أنّه يُمثِّل، في ظلّ التحدّيات العالميّة المتزايدة، خطوةً إيجابيّة نحو تقليل الفجوات الاقتصاديّة، وتحقيق التنمية المُستدامة، بما يُعزِّز دَور العالَم العربي باعتباره فاعلاً رئيساً في قِطاع الطّاقة العالَميّة. لذلك يُعَدّ إطلاقُ السوق العربيّة المُشترَكة للكهرباء بدايةَ حقبةٍ جديدة من التكامُل الاقتصادي، والتعاون الإقليمي في العالَم العربي، لتحقيق تطلُّعات الشعوب نحو مستقبلٍ أكثر استقراراً وازدهاراً.
علاوةً على ذلك، يُشجِّع المشروع على زيادة حصّة الطاقة المتجدّدة في مزيج الطاقة، بما يَنسجم مع الأهداف العالميّة لمُواجَهة تغيُّر المناخ، وتعزيز الاستدامة البيئيّة. كما أنّ التعاون في مجال الكهرباء سيَعمل على تحسين كفاءة استخدام الموارد الطبيعيّة المُشترَكة للدول العربيّة، ويتيح فرصةً لتحسين البنية التحتيّة للطاقة على نطاقٍ إقليمي؛ وهو ما يَخدم التنمية الاقتصاديّة والاجتماعيّة لشعوب المنطقة، ولاسيّما أنّه سيوفِّر إطاراً للتعاون على بناء مشروعات الطّاقة المتجدّدة، مثل الطاقة الشمسيّة، وطاقة الرياح، وبالتالي تقليل الاعتماد على مصادر الطّاقة التقليديّة، وتعزيز التنمية المُستدامة. ويؤكِّد الخبراء أنّ السوق المُشترَكة ليست منصّةً لتعزيز التعاوُن في مجال الكهرباء فقط، وإنّما هي أداة لتحقيق التكامُل الاقتصادي العربي؛ إذ يُتوقَّع أن تُسهِم هذه السوق في دعْمِ اقتصادات الدول المُشارِكة عبر تقليل تكاليف الإنتاج، وتوفير فُرصٍ استثماريّة جديدة.
ولوحظ أنّ اتّفاقيّة إنشاء السوق قطعتْ خطواتٍ عدّة، حيث تمَّت الموافقة عليها بقرار رقم 316 الصادر عن الدورة الاستثنائيّة للمجلس الوزاري العربي للكهرباء في العام 2023، وأقرَّها المجلسُ الاقتصادي والاجتماعي في دورته الـ 113، التي عُقدت في شباط / فبراير الماضي، واعتمدها مجلس وزراء الخارجيّة العرب في أيلول/ سبتمبر الماضي، خلال فعاليّات دورته العاديّة رقم 162. وستتمّ عمليّة التشغيل والتنفيذ على مراحل عدّة تبدأ في العام 2025، وتَمتدّ حتّى العام 2038، وذلك وفقَ خارطة طريق للوصول إلى سوقٍ عربيّة مُتكامِلة ومُتناسِقة، تَعمل وفق آليّة تجاريّة في تبادُل الطّاقة، من خلال الاستفادة من الفائض لدى بعض الدول العربيّة، مع الأخْذ بالاعتبار نتائج تجربة الربط الخليجي، والمشروع التجريبي لتبادُل الطّاقة بين دول المشرق العربي (السعوديّة، الأردن، ومصر) الذي يُمكن أن يكون النواة الأساسيّة لقيامِ السوق العربيّة المُشترَكة للكهرباء.
استهلاك الطّاقة
شهدت 7 دول عربيّة انقطاعاتٍ للكهرباء بشكلٍ مُستمرّ خلال موسم الصيف الماضي، بسبب ارتفاع درجات الحرارة إلى مستوياتٍ قياسيّة، ما يؤكِّد حاجةَ هذه الدول إلى زيادة قدراتها على إنتاج الطّاقة. ووفق بياناتٍ حديثة لموقع "وورلد بوبيلوشن ريفيو"، تتصدَّر مصر أكثر الدول العربيّة استهلاكاً للكهرباء، الذي يصل إلى 168.32 مليار كيلواط/ ساعة. وفي الترتيب الثاني حلَّت الإمارات التي يَصل استهلاكها إلى 128.61 مليار كيلواط/ ساعة. فيما حلَّت الجزائر في الترتيب الثالث بإجمالي استهلاكٍ بَلغ نحو 68.66 مليار كيلواط/ ساعة. وفي الترتيب الرّابع حلَّت الكويت باستهلاك 64.58 مليار كيلواط/ ساعة، فيما يصل استهلاكُ العراق الذي حلَّ في الترتيب الخامس إلى نحو 52.15 مليار كيلواط/ ساعة، واستهلاكُ قطر التي حلَّت في الترتيب السادس إلى 44.62 مليار كيلواط/ ساعة، واستهلاكُ المغرب الذي حلَّ في الترتيب السابع إلى نحو 35.39 مليار كيلواط/ ساعة، واستهلاكُ سلطنة عُمان التي حلَّت في الترتيب الثامن إلى 32.78 مليار كيلواط/ ساعة، واستهلاكُ البحرين التي حلَّت في الترتيب التّاسع إلى 31.38 مليار كيلواط/ ساعة، واستهلاكُ ليبيا التي حلَّت في المركز العاشر إلى 27.18 مليار كيلواط/ ساعة، واستهلاكُ الأردن الذي حلَّ في المرتبة الحادية عشرة إلى 19.69 مليار كيلواط/ ساعة.
وتتمتّع دولُ المنطقة العربيّة بإمكاناتٍ هائلة للتعاون والتجارة، وخصوصاً في قطاع الطّاقة الذي يُمثّل شريان حياةٍ لاقتصاداتها، وذلك على الرّغم من اعتبار مستوى التكامُل والتبادُل التجاري بينها من أقلّ المستويات على صعيد مناطق العالَم. ومن شأن إنشاء سوقٍ عربيّة مُشترَكة للكهرباء أن يُحدث تحوّلاً نوعيّاً في مجال الكهرباء؛ فمِن خلال تنسيق خطط التوسُّع وتعظيم الاستفادة من الموارد، يُمكن للسوق أن تُخفِّض من تكاليف الإنتاج بدرجةٍ كبيرة، ما يَسمح للبلدان بتنسيق الاستثمارات التي تَستهدف تلبيةَ الطلب الوطني في أوقات الذروة وتحقيق أقصى استفادةٍ من هذه الاستثمارات. ويُمكن لهذا التنسيق الاستراتيجي أن يوفِّر للمنطقة ما بين 107 مليارات دولار و196 مليار دولار من تكاليف إنتاج الكهرباء حتّى العام 2035.
غياب لبنان
على الرّغم من أنّ لبنان جاء في الترتيب الثاني عشر بين الدول الأكثر استهلاكاً للكهرباء، بمعدّلٍ يبلغ 18.86 كيلوواط/ ساعة، إلّا أنّه غابَ عن السوق العربيّة المُشترَكة للكهرباء. وقد استغربَ مُتابعون لعمليّة إنهاض لبنان من أزمته الاقتصاديّة والماليّة والقيام بالإصلاحات الموعودة "تضييعَ هذه الفرصة الاستراتيجيّة، كونه يعاني منذ عقود من أزمة كهرباء مُزمِنة تسبَّبت في استنزاف الخزينة العامّة بأكثر من 40 مليار دولار، وهي من أكبر مكوّنات ديونه السياديّة. وفي ظلّ هذه الأزمة، تبرز أهميّة الانضمام إلى السوق العربيّة المُشترَكة للكهرباء، وهي فرصة ذهبيّة لتخفيف الأعباء الماليّة، وتحقيق استقرار في الإمدادات الكهربائيّة، والاستفادة من خبرات الدول المشاركة واستثماراتها، ولاسيّما أنّ الاتّفاقيّة تتيح للدول الموقِّعة إمكانيّة تبادُل الكهرباء عبر الشبكات المُشترَكة، وهو ما كان يُمكن أن يوفِّر حلولاً مُبتكَرة وفعّالة للبنان. مع العِلم أنّ تكاليف الكهرباء أصبحت عِبئاً يُثقل كاهل المواطنين اللّبنانيّين والخزينة، نتيجة الاعتماد على الوقود الأحفوري المُستورَد وغياب أيّ خطّة جديّة للطاقة المتجدّدة، وهُما عاملان يَجعلان التكلفة أعلى بكثير من المتوسّط العربيّ. ومن هنا تَظهر أهميّة السوق المشتركة للكهرباء التي تَهدف إلى دعْمِ استثمارات الطّاقة المُتجدّدة وتعزيز التعاوُن لتقليل تكاليف الإنتاج.
ولم تُعرف الأسباب الحقيقيّة لهذا الغياب الذي يَعكس إخفاقاً في استثمار الفُرص الإقليميّة للخروج من أزمات لبنان الاقتصاديّة والماليّة. وقد حَذَّرَ بعضُ الخبراء في حال استمرَّت هذه السياسة، من أنّ هذا البلد سيظلّ خارج دائرة التكامُل العربيّ، وهو ما يعمِّق عزلته ويُفاقِم من أزماته. علماً أنّ الحلّ يكمن في إرادة سياسيّة قويّة ورؤية استراتيجيّة تُعيد له مكانته كشريكٍ فاعلٍ في العمل العربي المُشترَك. لذلك يتوجَّب على الحكومة اللّبنانيّة تقديم توضيحٍ شامل للشعب اللّبناني حول غياب دولته عن هذه الاتّفاقيّة، والعمل سريعاً على إصلاح قطاع الكهرباء ليكون جاهزاً للاستفادة من الفُرص المستقبليّة على مستوى التكامُل العربي. كما يَجب على المسؤولين اللّبنانيّين دراسة إمكانيّة الانضمام لاحقاً إلى هذه السوق، وخصوصاً أنّ المشروع مفتوح للدول العربيّة الأخرى، والعمل على تحسين البنية التحتيّة للطاقة الكهربائيّة كي تكون قادرةً على استيعاب مثل هذه المُبادرات.
في هذا السياق، لا بدّ من الإشارة، إلى أهميّة الأضرار الكبيرة التي لَحقت بمؤسّسة كهرباء لبنان، جرّاء العدوان الإسرائيلي الأخير، وحجْم الدمار الذي أصابَ المباني الإداريّة والشبكات العامّة وخطوط الدَّفع والخزّانات وأنظمة الطّاقة الشمسيّة في المناطق المُستهدَفة، وقد بلغت تكلفتها وفق تقدير وزارة الطّاقة اللّبنانيّة نحو 200 مليون دولار. لكنّ اللّافت في هذا المجال هو عدم توافُر المبلغ المطلوب، بسبب العجز المالي الذي تُعانيه خزينة الدولة، وتشدُّد مصرف لبنان في تمويل نفقاتها. والأخطر من ذلك أنّه يتعذَّر الاقتراض من الأسواق الماليّة التي خسرت ثقتها بلبنان، منذ أن توقّفتِ الحكومةُ عن دفْعِ الأقساط المُستحَقَّة عليها لسندات اليوروبوندز في 20 آذار/ مارس2020، والبالغة 31 مليار دولار، والتي زادت لتبلغ نحو 40 مليار دولار، مع إضافة الفوائد المُترتِّبة عليها.
*كاتب ومحلّل اقتصادي من لبنان - مؤسسة الفكر العربي
beth agency