قراءة في مفهوم السياسة الحيويّة
د. أحمد خميس*
منذ فترةٍ ليست بقريبة، ارتبطَ علم السياسة بعلاقةٍ وثيقة مع عِلم الأحياء؛ فمَنهج النُّظم System Approach في عِلم السياسة، اشتُقَّ من النظريّة العامّة للنُظم General System Theory التي قدَّمها عالِم الأحياء النمساويّ "كارل بيرتالانفي" Karl Bertalanffy في عشرينيّات القرن العشرين. ويرجع الفضل الأوّل في تطوير نظريّة التحليل النُّظميّ وإدخاله حقل العلوم السياسيّة إلى عالِم السياسة الأميركيّ "ديفيد إيستون" David Easton. ومن ثمّ، نَشأ عِلمٌ بَينْيّ سمّي بالسياسة الحيويّة Bio Politics.
انتشرَ الـ Bio عِلم الأحياء أو البيولوجيا في العلوم كافّة، فنسمع عن التكنولوجيا الحيويّة Biotechnology، والاقتصاد البيولوجيّ Bioeconomic، والسياسة الحيويّة Biopolitics؛ وهو ما يمثّل حضوراً كبيراً لها في الحياة الإنسانيّة، منذ خمسينيّات القرن العشرين. ومن ثمّ، فقد دَخلَ في عِلم السياسة، ما يُطلق عليه مفهوم البيولوجيا السياسيّة، أو السياسة الحيويّة Biopolitics، بما يعبِّر عن الوجه السياسي للبيولوجيا/ الأحياء.
ويشير مفهوم السياسة الحيويّة لدى الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو (1926 - 1984) إلى مجموعة من الآليّات التي تسعى إلى الحفاظ على الحياة البيولوجيّة للمواطنين ووضْعها كهدفٍ لها، ومُحاوَلة تنظيم شؤونهم وإدارتها، وذلك من خلال مستويَيْن؛ أوّلهما الجسد الفرديّ: عبر عمليّات تنظيميّة وانضباطيّة، وثانيهما الجسد الاجتماعي: عبر إجراءات بيولوجيّة ومؤسّساتيّة، مثل التعدُّد السكّاني، ومعدّلات المواليد والوفيّات والأعمار، والمستوى الصحّي.
ومن ثمّ، فالجسد واقعة سياسيّة حيويّة، والطبّ استراتيجيّة سياسيّة حيويّة (آية عبد الستّار، "السياسة الحيويّة لدى ميشيل فوكو وچورجيو أجامبين"، مجلّة بحوث، المجلّد 3، العدد 5، جامعة عين شمس، 2023). وقد حاول فوكو تأكيد هذه الحقيقة من خلال تطوُّر ثلاثة أشكال طبيّة ظهرت في العصر الحديث هي: طبّ الدولة، الطبّ الحضريّ، طبّ قوّة العمل. فالأوّل، تطوَّر في ألمانيا في القرن الثامن عشر، وعُرف بعِلم الدولة، إذ تركَّز على الصحّة العموميّة للمواطنين. والثاني الطبّ الاجتماعي، وقد تطوَّر في فرنسا، ويقوم على توسيع البِنى الحضريّة، وعزْل كلّ مريض بعيداً عن الآخر؛ وبالتالي فإنّ مهمّة الطبّ مهمّة وقائيّة ضدّ الأوبئة التي انتشرت. والثالث، تطوَّر في إنكلترا تحت تأثير الثورة الصناعيّة، وبخاصّة بعد صدور قانون الفقراء الذي ضَمِنَ حقّ العناية الصحيّة للمعوزين.
وارتبط ظهور المفهوم بالأمراض والأوبئة والجوائح التي فتكتْ بشعوب العالَم عبر التاريخ. وقد أعادت جائحة كورونا في العام 2019 التذكير بالعلاقة بين الحياة والسياسة، تلك العلاقة التي جسَّدها مفهوم "البيوسياسيّة" (سامية قدري، "الحياة والسياسة: جينيالوجيا العلاقة"، المجلّة العربيّة لعِلم الاجتماع، المجلّد 15، العدد 30، جامعة القاهرة، حزيران/ يونيو 2022).
ويوضح فوكو عمليّة الانتقال في السلطة الغربيّة من سلطة قائمة على القانون وإدارة شؤون الدولة إلى سلطة قائمة على الحياة، وذلك من خلال تحوُّل الحياة إلى شأنٍ من شؤون الدولة. ويقول: "إنّ إحدى الظواهر الأساسيّة في القرن التّاسع عشر هي ما يمكن تسميته باهتمام السلطة بالحياة، أو بتعبيرٍ آخر، اهتمام السلطة بالإنسان بوصفه كائناً حيّاً، أو بقيام نوعٍ من الدراسة للبيولوجيا، أو على الأقلّ بروز اتّجاه لِما يُمكن أن نسمّيه بدوْلَنة البيولوجي".
ومع تحوُّل حياة المواطنين إلى قضيّة سياسيّة، بات هناك ما يُسمّى بمتلازمة السياسة والحياة، التي تقوم على آليّات تتبدّل بها السياسات لتُخضع الحياة لاستراتيجيّاتها، كجزء من قدرتها على السيطرة والتنظيم من جهة، والقمع والإقصاء والسيادة من جهةٍ أخرى.
الجينوم وعِلم الجينوم
لقد تمَّ قبول وجود ثورة تكنولوجيّة حيويّة طبيّة على نطاقٍ واسع وترويجها من قِبَل الأكاديميّين وصنّاع الرأي وبعض المسؤولين الحكوميّين والمستشارين والحكومة. أدّى ذلك إلى توليد توقّعات حول تحسيناتٍ كبيرة في عمليّة اكتشاف الأدوية والرعاية الصحيّة والتنمية الاقتصاديّة التي تؤثِّر بقدرٍ كبيرٍ على السياسات وآليّات تطوُّرِها. وهنا نقدِّم أدلّة تجريبيّة، من مجموعة متنوّعة من المؤشّرات، والتي تُظهر أنّ مجموعة من المُخرجات فشلت في مواكبة الإنفاق المتزايد على البحث والتطوير. وبدلاً من إنتاج تغييرات ثوريّة، تَتّْبع التكنولوجيا الحيويّةُ الطبيّةُ نمطاً راسخاً من الانتشار البطيء والتدريجيّ للتكنولوجيا. وبالتالي، فإنّ العديد من التوقّعات متفائلة بشكلٍ كبير وتُبالِغ في تقدير سرعة التكنولوجيا الحيويّة، ما يشير إلى أنّ الافتراضات التي تَدعم سياقات صنْع السياسات تحتاج إلى إعادة نَظر. على مدى العقد الماضي، روَّج المُستشارون وصنّاع السياسات والأكاديميّون والصناعيّون لنموذج التغيير التقني، حيث تعمل التكنولوجيا الحيويّة بشكلٍ عامّ، وعِلم الجينوم بشكلٍ خاصّ، على إحداث ثورة في اكتشاف الأدوية وتطويرها، وبالتالي التأثير على صحّة الإنسان.
وقد ولّد هذا النموذجُ "الثوري" توقُّعاتٍ واسعةِ النّطاق بأنّ التكنولوجيا الحيويّة لديها القدرة على صنْعِ عددٍ متزايدٍ من الأدوية الأكثر فعاليّة، وإحداث تغييراتٍ جذريّة في الرعاية الصحيّة، بما في ذلك التحوُّل من الطبّ التفاعلي إلى الطبّ الوقائي والأكثر تخصيصاً. ومن المتوقَّع أن يؤدّي هذا بدَوره إلى تحفيز التحوُّل في البنية الصناعيّة لصناعة الأدوية من شركات الأدوية الكبرى إلى شبكات من شركات التكنولوجيا الحيويّة المُتكتّلة في مجموعاتٍ إقليميّة. ومن المتوقَّع أيضاً أن تؤدّي هذه التغييرات مجتمعةً إلى تحسين الصحّة وخلْق الثروة. إنّ هذه التوقّعات العالية تَدعم الكثير من سياسات العلوم والتكنولوجيا في منظّمة التعاون الاقتصادي والتنمية في الولايات المتّحدة، والاتّحاد الأوروبي.
ويُعرف الجينوم Genomics بأنّه المادّة الوراثيّة الموجودة فى الكائن الحيّ، والمصنوعة من الحمض النووي، وتشمل الجينات والعناصر الأخرى التي تتحكَّم بنشاط تلك الجينات. وهو نفسه في الغالب لدى جميع الناس؛ لكن ثمّة اختلافات عبر الجينوم، بحيث يُمثِّل هذا الاختلاف الجيني حوالى (0.001) % من الحمض النووي لكلّ شخص، وهو يُسهِم في التبايُنات على مستوى المَظهر والصحّة، في حين أنّه يَجعل الأشخاصَ الذين يرتبطون ارتباطاً وثيقاً بعضهم ببعض عبر الـ دي إن أي DNA أكثرَ تشابُهاً.
ويُعرف عِلم الجينوم بأنّه العِلم الذي يتعامل مع اكتشاف جميع التسلسلات في الجينوم وملاحظته بأكمله لدى كائن معيّن. ويمكن تعريفه على أنّه مجموعة كاملة من الجينات داخل الخليّة (دراسة التركيب الجينيّ للكائنات الحيّة). وتحديد التسلسُل الجينومي ليس سوى بداية عِلم الجينوم، وبمجرّد الانتهاء من ذلك يتمّ استخدام التسلسل الجينومي لدراسة وظيفة الجينات العديدة (الجينوميّات الوظيفيّة) أو لمُقارَنة الجينات في كائنٍ حيّ مع تلك الموجودة في كائنٍ آخر (الجينوم المُقارن)، أو لتوليد بنية ثلاثيّة الأبعاد لكائنٍ أو كائنٍ آخر، ما يوفِّر أدلّة على وظيفتها.
لقد كانت بدايات عِلم الجينوم بالنسبة إلى العديد من الناس أكثر من تكنولوجيا قابلة للاستغلال لمصلحة التكنولوجيا الحيويّة العملاقة، على اعتبار أنّ عِلم الجينوم هو عبارة عن معرفة تطبيقيّة تستند إلى علمٍ عميق ومتطوِّر حول كيفيّة تطوُّر الكائنات الحيّة، ومدى صحّتنا أو مَرضنا، وكيف سيكون مستقبلنا. وفي مجال الرعاية الصحيّة، تُعَدّ تكنولوجيا الجينوم معطّلة، ولكنّها فعّالة من حيث التكلفة، لأنّها تُمكِّن من الوقاية الأوّليّة، وهي الترياق للتكاليف الجامحة وانخفاض الإنتاجيّة. لكنّ التحدّيات التي تواجه التكامل كبيرة، والعديد من الآثار المترتّبة عن الأخلاقيّات الحيويّة والسياسات الاجتماعيّة مُثيرة للقلق. ولأنّه لا يُفهَم بشكلٍ جيّد اليوم، لا بدّ أن نُناقش عِلم الجينوم بقوّة إذا كنّا راغبين في التصرُّف بحكمة. ولا بدّ أن تقودَنا السياساتُ العامّة. فقد تفجَّرت الضجّةُ حول عِلم الجينوم للمرّة الأولى في العام 2001 بعد اكتمال التسلسُل الجيني، والآن، بعد سنواتٍ عدّة، بات من المُمكن تقييم إمكانات هذه التقنيّات بشكلٍ واقعيّ وتحديد بعض التحدّيات المركزيّة التي تَنتظر التكامُل.
إنّ الجينوميّات في مجال الرعاية الصحيّة تُترجَم إلى معرفة حول كيفيّة تفاعُل جيناتنا مع بيئاتنا وسلوكيّاتنا للتوسُّط في صحّتنا ولياقتنا. وتَنشأ تكنولوجيّات الجينوميّات من عمليّات بيولوجيّة معقّدة بَدأنا للتوّ في فهْمِها.
ولقد اتَّخذت الجينوميّات في مُمارسَة الرعاية الصحيّة ثلاثة أشكال رئيسة هي:
1. التخصيص: التدخُّل المبكّر باستخدام الأدوية والأجهزة والعلاجات القويّة والفعّالة المُستهدَفة من خلال تشخيصات أكثر تفصيلاً وقابليّةً للتنفيذ.
2. التنبّؤ: برامج إدارة الأمراض والمَخاطر السريريّة، بدءاً من الولادة، والتركيز على معايير نمط الحياة واستناداً إلى بيانات مخاطر أكثر تفصيلاً وفرديّة، وتسهيلها من خلال الحوْسَبة القويّة وضغط البيانات بشكلٍ مُطّرد.
3. الوقاية: مُبادرات الصحّة العامّة والسريريّة الوقائيّة التي تَسترشد بالتفاعُلات الجينيّة الإثباتيّة بين البيئات والسلوكيّات والجينات (على سبيل المثال، المُبادرات التي تُعالِج أسباب مرض السكري والسمنة بدلاً من أعراضهما).
ومن ثمّ، يكون نظاماً أكثر قوّة وفعاليّة من حيث تكلفة الرعاية الصحيّة، وهو النظام الذي قد يُعزِّز برامج الحدّ من المخاطر المُستهدَفة.
وممّا سبق، تتّضح بجلاء العلاقة بين علمَيْ السياسة والأحياء، والتداخُل بينهما، ليظلّ عِلم السياسة مُسيطراً على أوجه الحياة كافّة.
*كاتب وأكاديمي مصري - مؤسسة الفكر العربي