رؤيةٌ لمصيرنا السلبيّ أمام أعْيُننا
أحمد فرحات*
هل بات على الثقافة العربيّة أن تستمرّ في الصمت أو الحِيدة أو التفرّج الآليّ على المشهد السياسيّ المتهافت بداعي استبعادها منه؟
من زمان، وهذه الثقافة مسوقة إلى السياسة بتبايناتِها ومنعرجاتِها.. إخفاقاً وتوازناً، "تقدّماً" وتراجُعاً، وإن كانت أحياناً تشذّ عن المألوف لترسمَ لنفسِها مساراً مستقلّاً، لكنّه في كلّ الأحوال يظلّ بعيداً عمّا تشتهيه هي في بيان أسئلتها أو طموحاتها المضمرة.
مع ذلك، وللإنصاف نقول، ظلَّت مواقف بعض المثقّفين العرب وأطروحاتهم مميّزة جدّاً ومسدّدة جدّاً جدّاً في اتّجاه تعيين الحقائق، ونقْد الترهّل وحال التسليم بلا ثمن، خصوصاً تجاه ما يُرسم من مشروعاتٍ جيوبوليتيكيّة انقلابيّة لمنطقتنا العربيّة تُفضي في المقام الأوّل إلى تسييد إسرائيل عليها؛ ولكن بعد ماذا؟ بعد تدمير مقدّرات العرب كأمّة ذات حضورٍ في التاريخ، وإمكانيّة نهوضها من جديد في المَديَيْن القريب أو البعيد.
لِتتراجَع السياسة كما يحلو لها.. "لِتتقدَّم".. لِتُراوِغ.. لِتستسلم.. لترَ ما تراه، ولتقلْ ما تقوله، ولكن ليس على حساب مَن نحن؟ ومَن نكون في التاريخ، إنساناً وحضارة؟
القبول بالأمر الواقع، وفهْم المستجدّات الجديدة والطارئة بتلاحق، لا يُترجَم في المقابل بسقوط الهويّة، والتهيّؤ للقبول بما يُطرح كبديلٍ منها. إنّ ما سُمّي بالمشروع الشرق الأوسطي الجديد، سيكون بالتأكيد على حساب هويّة المنطقة العربيّة وتاريخها، بل ومعناها العريق في هذا التاريخ.
حتّى لو وصلتِ الخلافاتُ السياسيّة إلى ذروتها في السلب المفتوح.. حتّى لو ابتلينا بمزيدٍ من الحروب الأهليّة العربيّة، المُعلَنة منها والمُستَتِرة، وارتفعتِ الأسوارُ في ما بيننا عَرباً إلى السماء، فلا يعني ذلك أنّنا صِرنا قوماً آخرين، أو أناساً ينتمون إلى ثقافةٍ أخرى، أو حضارة أخرى.. سنظلّ عَرباً وستظلّ شعوب الأُمم الأخرى تَنظر إلينا كعرب.
المطلوب من ثقافتنا العربيّة الآن، ألّا تستمرّ في مُراقبة المشهد والتفرُّج السلبيّ عليه، خَوفاً وتردّداً. إنّ على هذه الثقافة أن تتحرّر من الضيق الذي يُكبّلها، ولا يكون ذلك إلّا بالتفتيش عن نقاطٍ مضيئة، تدفعنا، ولو واهمين، إلى أمام. والوهْم هنا يعني مُداناة الواقع الميؤوس منه بعقلانيّةٍ مضاعفة.. عقلانيّة تستمدّ مقوّماتها من استهداء العقل بتجاربه ودروسه، وإمكان الاستفادة من هذه الدروس، حاضراً ومستقبلاً.
إنّنا نحتاج إلى التحصُّن بثقافةٍ واقعيّة تُناهض "الواقعيّة الجديدة"، تلك التي تُفرَض فرْضاً علينا.. واقعيّة قوامها العقل المُتحقّق الذي يَقرأ المعقّد في البسيط والبسيط في المعقّد، ويقول الأشياء في مناسباتها الواقعة. إنّنا نحتاج إلى نقْلِ عقلنا الحائر من منطقة السؤال: لماذا؟ إلى منطقة السؤال: لِمَ لا؟
وإنْ كان ثمّة متّسع لذكرِ ملاحظةٍ في هذا الإطار، فهي أنّه ينبغي أن نَجترح فينا تلكم القدرة على ابتكار البراعة الوقائيّة.. أي البراعة التي تُجنّبنا التنازلَ الجوهريّ عن حقوقنا في التاريخ والسيرورة، وتَجعلنا بالتالي أكثر قدرة على استخلاص النتائج من فصل الانجرار إلى "أسطورة" الأمر الواقع الجديد، والتسليم المُطلق برسْم مصيرنا سلبيّاً أمام أعيُننا.
مقطع القول، حريّ بنا ألّا نستسلم للنضوب جرّاء النضوب عَيْنه، في المسار والرؤية والهدف، وذلك مهما كان الثمن وغلتِ التضحيات.
مطلبنا من الثقافة ألّا تسمح بالمزيد من نبْذِ نفسها. إنّنا لا نريد أن نَقع في ورطةٍ أشقّ من تلك التي نحن فيها. إنّ توالي الانطفاءات ينبغي ألّا يجعلنا في حالٍ هاربة، حالٍ فزِعة حتّى من نفسها.
باتتْ مسألةُ الحفاظ على العقل باعتباره مَلَكة عارفة، من الضرورات المُلحّة والحاسمة هذه الأيّام.. العقل السليم فينا.. العقل الذي يَقرأ المُتباينات والمتغيّرات، ويُحلِّل ما يدور خلف الكواليس وأمامها.. إنّه هو الذي يُترجِم بقاءنا على قَيد الحياة، وقدرتَنا على رسْمِ المواجهات والتحديّات على اختلافها.
الهزيمة ليست عَيْباً.. الهزيمة فيها من الأسئلة الاختباريّة الدراميّة ما لا يُحصى، ولكن دائماً من أجل المُراجعة والنقد وتصوُّر المُعالجات. إنّها أيضاً رؤية ونظر مفاضلة مع ما كنّاه، وما نحن فيه، وما سنكون عليه.
***
ثقافتُنا على الرّغم من كلّ شيء، لا تزال، وإن في حدودٍ معيّنة، راسخة وقادرة على أن تَصمد وحتّى تنافس في عالَم اليوم؛ ولكن بشرطٍ واحدٍ لازب، هو أن تَكسب هذه الثقافة فعلاً رهانَ التحديث الجوهري والدخول فيه من أوسع الأبواب.
غير أنّ ترجمة مثل هذا الرّهان على الأرض لا تزال، مع الأسف، مُتعذّرة بسبب ما نُواجهه عَرباً من تمزيق وجود، وتقليص حضور من طَرَفِ السياسة المتسلّطة علينا ببُعدها الأجنبي المباشر وغير المباشر.
على أنّ هذا، في المُقابل، لا يعفينا عَرباً من واقع الاستسلام لفائض العجز والضعف والتشتُّت، وكذلك الهرب من المُواجهات والتحدّيات النازلة ضَرباً وتفتيتاً في وجودنا ومصيرنا الشامل العامّ.
الشاعر والمفكّر الصديق أدونيس طَرَحَ أمامي منذ سنوات طويلة هذا السؤال: ما النتيجة التي تتركها لنا التجربةُ السياسيّة العربيّة منذ الحرب العالميّة الأولى (1914 – 1918) إلى اليوم؟
وتولّى هو بنفسه الإجابة عن سؤاله بالقول: "لا شيء غير الفشل وطعم الرماد. والفشل أكثر من أن يكون فشلَ نظام، إنّه فشلُ مرحلة تاريخيّة، والرماد ليس مجرّد غَيْمة، وإنّما يكاد يكون أرضاً فوق الأرض".
وأردفَ أدونيس: إنّ "وهْم "التحرُّر" انتهى. "أزياء" الوحدة تمزَّقت؛ وضوء القوميّة يكاد يخبو... وها أنتَ أيّها العربيّ تُسحَق من كلّ جانبٍ باسم الدّفاع عن وجودكَ حيناً، وباسم الهجوم على وجودكَ حيناً آخر". وخلص "أبو أرواد" قائلاً "في أيّامنا هذه ليس الفكر العربيّ حركةَ تحليلٍ واستقصاء، بل دوائر كلٌّ منها تنغلق على ذاتها".
***
على الرّغم من الصورة الأدكن اليوم، وفي المدى المنظور.. على مثقّفنا العربي الحقيقي أن يظلّ يومض بجوارح الكلام المسؤول، والتعابير النقديّة الجريئة، وخصوصاً أنّنا بتنا لا نَعرف أين ينتهي الماضي بين ظهرانينا ويبدأ الحاضر.. الحاضر بمعنى التفكير نحو المستقبل. فالماضي.. ماضينا لا يزال يُزاحم حاضرنا على الحياة العربيّة، بل ويَطرح نفسه بديلاً منها.
***
المثقّف أو المفكّر العربي الجدّي، ليس مخلوقاً يَرضى بالأشياء من حوله؛ فالحيرة تُطارده هذه الأيّام، وأشباح القلق تنقضّ عليه من كلّ صوب.
مِن هنا هو يرى دوماً نقائض الحياة تتلاقى وتَأتلف أمام "موته اليومي".
وفي زمنٍ سياسيٍّ عالَميّ يمشي المتسلّطون فيه على رؤوسهم الحامية، بهذا الشكل أو ذاك، نرى مثقّفنا، في المقابل، يَفرض على نفسه نظاماً قاسياً من الفَهْمِ المتعقّل للأمور، يحول بالتالي دون انهياره ودون إعادة بنائه الأفكار النهضويّة داخل الزمان وفي المكان المُرتبط كيانيّاً فيه.
***
أخيراً وليس آخراً، يَجب أن نُدرِك أنّ العروبةَ كهويّة حضاريّة جامِعة، هي مُستهدَفة في الصميم، وعلى مستوى الأرض العربيّة المُمتدَّة من آسيا إلى إفريقيا؛ فالآخر الإسرائيلي، ومَن معه في أغلب دول الغرب، لا يريدوننا أناساً على مبدأ الهويّة العربيّة الجامِعة لكلّ الفسيفساء الدّينيّة والطائفيّة والمذهبيّة وحتّى الإتنيّة المتآلفة أصلاً معها على أرضنا منذ آلاف السنين. إنّهم يريدوننا هكذا كتلاً بشريّة "دهماء" لا قيامة حرّة لها البتّة.. ويحاولون من جهةٍ أخرى، تزويرَ كلّ شيء في تاريخِنا وتراثِنا، وفرْض منطق أنّ اليهود هُم أصلُ المنطقة وفصلها، وأنّ العرب مجرّد محتلّين طارئين عليها، ووُجب بالتالي طردُهم من فلسطين، ومن بعض الأراضي العربيّة المُجاورة لها، وغير المُجاورة أيضاً، والتي تُشكِّل جميعها، بالكلام والصورة، ما بات يُسمّى خارطة: "إسرائيل الكبرى"؛ ويَفرضون ذلك، ليس على نظام التعليم في الكيان الإسرائيلي وحده فقط، وإنّما على أنظمة التعليم في مختلف الدول الغربيّة المُتحالفة معها، وغير المُتحالفة أيضاً، وفي الطليعة بينها الولايات المتّحدة الأميركيّة وبريطانيا.
***
يُلاحِظ الكثيرُ من المثقّفين في أوروبا والعالَم اليوم أنّ البشريّة لم تَعُد تَجِد في زمننا الرّاهن مثقّفين طليعيّين وعمالقة من ذوي الفعاليّة والتأثير، يُدافعون عن قيَم الحقّ والعدالة ورفْض الظلم.
كان آخر الذين دافعوا عن هذه القيَم، الفيلسوفُ الفرنسيّ جان بول سارتر، والفيلسوف البريطانيّ برتراند راسل، وخصوصاً عندما عُقدتِ المَحكمةُ الدوليّة لمُحاكَمة الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون وأدانَتْهُ بوصفه مجرمَ حرب في السبعينيّات من القرن الماضي. وهُما أيّدا حُكم المحكمة وإن لم يتفعّل بالصورة الإجرائيّة المطلوبة.
ماتَ سارتر وراسل، وبقي العالَم من دون ضمير ثقافي فاعل ومتفاعل على غرار صنيعهما حتّى اليوم.
وعندما دافعَ الفيلسوفان المذكوران عن فلسطين والشعب الفلسطيني المظلوم "قامت الدنيا عليهما ولم تَقعد" في إسرائيل، على حدّ تعبير الفيلسوف الفرنسي إدغار موران، والذي تُعتبر تجربته الفلسفيّة، في المناسبة، من أكمل التجارب المتّصلة بالتعليق على الحياة السياسيّة من منظورٍ فلسفيٍّ فائق الخصوصيّة ويتّصل مباشرةً بعالمِنا الرّاهن وتعقيداته. ولا غرو، فهو القائل مع قدامى اليونانيّين: "العالَم ابن الفوضى". ولذلك "نحن الفلاسفة منْ علينا جَعْل هذا العالَم واقعاً أكثر عدالة ووضوحاً، وليس حالات مرموزة تَتبع مرموزيّاتها فقط"... وهو القائل أيضاً لكاتب هذه السطور عندما التقاه في أحد مقاهي باريس منتصف الثمانينيّات من القرن الآفل: "كيف نريد من الغَير أن يَقتنع بنا، ونحن أهل هذا العالَم الغربي غير مُقتنعين بأنفسِنا؟"
*مؤسّسة الفكر العربيّ