على دروب المُقابسات..

news image

 
 

محمّد باقي محمّد*


هي ذي قصيدة النثر تتوضّع في خانة التوصيف المُلتبس، ربّما لأنّها احتكمت إلى الأحكام المُسبقة، ما أحالها على بحثٍ طويل عن موطىء قَدَمٍ لها، فهل لنا أن ننأى بأنفسنا عن لغة الانفعال التي تجبّ عنّا استقراءً موضوعيّاً فيها، ذلك أنّ الذائقة تحتكم إلى مألوف الأذن لتفصح عن تلك الأحكام التي رهنت نفسها ليقيناتٍ قطعيّة منقطعة عن أيّ حوار، فانشغلت بتبويبها - على قاعدة وثوقيّة ترقى إلى مُستوى الميثولوجيا - في خانة "النثر الفنّيّ" ناسخةً عنها انتماءَها إلى فردوس الشعر، ما سيحكم جلّ الحوارات التي تتقرّى الوقائع باللّا جدوى، لتلوح كجدلٍ سفسطائيّ يفتقد إلى الإقناع الموضوعيّ، واضعين في الحسبان أنّ ما تقدّم لا يعفي الدّراس من تتبُّع الظاهرة بعيداً عن أيّ افتعال.


بدايةً، إذاً، سنَستقرىء المسألة، مُستنطِقين التأريخ، لنزعم أنّ الشعر في منطقتنا هو جزءٌ عضويٌّ من الشعر العالَميّ! على هذا سننظر إلى هذه القصيدة باعتبارها ابناً شرعيّاً للشعر الذي تواتَر عن التاريخ القديم في الشرقَيْن الأدنى والأوسط، وذلك في تمفصله، تناصّاً أو مُثاقَفةً مع الآخر، مع شعر السومريّين أو البابليّين أو المصريّين القدامى أو الإغريق، لنتساءل عن السبب في غياب الاتّهام للشعر التالي عليهم والمُقفّى بالخروج عن مألوف الأذن، أي عن موروثٍ ثقيل في تبعاته؟! هذا إذا اتّفقنا على أنّ ملحمة جلجامش أو نشيد الإنشاد، مثلاً، شعرٌ غير مقفّى، أو أنّه يتأسّس على أوزانٍ مُغايرة، وإذاً فالقاعدة في الشعر لم تكُن القافية الظاهرة كنُظمٍ ينطوي على الوزن أيضاً، ما يذهب بنا جهات المُغايرة، فلماذا انقلبت الطاولة على التطوُّر - كسِمَةٍ إنسانيّة - بهذا الشكل المُذهل في تطرّفه لاحقاً؟!

أمّا السؤال الثاني، فهو يتأسّس على استظهار الأسباب التي أَفضت إلى ولادة قصيدة التفعيلة، ثمّ ظهور قصيدة النثر أساساً، إذا كانت قصيدة العمود أو قصيدة التفعيلة تَفيان بالغَرض؟! وذلك انطلاقاً من أنّ لا شيء يأتي هكذا جزافاً، وأنّ تلك الأشكال اللّاحقة، بما فيها قصيدة التفعيلة، إنّما هي إقرارٌ ضمنيّ بعجز قصيدة العمود عن تلبية احتياجات الشعراء إلى التعبير عن هواجسهم عبر أنماطها المَأثورة، وإلّا فإنّ تلك الأشكال ستوكأ إلى خانة الحداثويّ المُجترَح لمُجرّد الحداثة، ما سيذهب بنا إلى تيهٍ وضياعٍ ما بعدهما ضياع، ويورّطنا في شكلانيّةٍ مجّانيّة، على ألّا يُؤَّل كلامنا باستنفاذ قصيدة العمود لمهامّها تماماً، لهذا سنتساءل: أليست التُّهم التي وجهّها شعراء التفعيلة أو العمود إلى قصيدة النثر من تجديفٍ أو اتّهامٍ بالتآمر على العربيّة، أو تصنيفها في خدمة أجنداتٍ خارجيّة، وصولاً إلى اتّهام "مُقترفيها" بالطابور الخامس، هي الاتّهامات ذاتها التي وجَّهها مُشايعو قصيدة الشطرَيْن لشعراء التفعيلة؟! ذلك أنّ الأذن لا تألف المُفارقَ بسهولة، ناهيك بتنمية ذاكرة تراكميّة، أو لأنّها تخاف الجديد، وتنأى بنفسها عنه!

قد لا نكون مُطالَبين بأن ننظر إلى محمود درويش كإمام، إلّا أنّنا إذا غمطنا الكبار حقّهم، واستسهلنا النَّيل من مقامهم، يكون الأكمّة ما وراءها، ذلك أنّ درويش ليس أيّ شاعر، فهو شاعر، وهو ظاهرة، وهو مدرسة، حاله في ذلك حال أدونيس مثلاً.

ومع ذلك فالطّامة الكبرى تكمن في أن يتطاول أحدنا على رموزٍ تراثيّة، كانت قد شكّلت محطّات مضيئة في مسيرةٍ طويلة استنفذتنا، وأن يطال هذا التجاوُز قامةً لا تُدانى كالتوحيديّ، إذ يقول: "في النثر ظلٌّ من النَّظم، ولولا ذلك ما خفّ ولا حلا ولا طاب، وفي النَّظم ظلٌّ من النثر، ولولا ذلك ما تميَّزت أشكاله، ولا عذُبت موارده ومصادره، ولا بحوره وطرائقه، ولا ائتلفتْ وصائله وعلائقه (المُقابسات، المُقابسة الستّين)! ذلك أنّ المسألة ستندرج في باب غياب التقاليد الثقافيّة، لنهمس متوجّسين أن "ما هكذا تورد الإبل يا سعد!".

لقد تحصّلت قصيدة التفعيلة على مشروعيّتها، ولم تَعُد بحاجةٍ إلى ما يثبتها بالدلائل غير القابلة للنقض، على ألّا نتناسى أنّ بدر شاكر السيّاب توفّي مريضاً وفقيراً ومنبوذاً، وأنّ نازك الملائكة، التي لم تكتفِ بـ "اقتراف" هذا الضرب من الشعر، بل حاولت أن تقعّد له أيضاً، انتهت كمعلّمة مَنسيّة في الكويت! هل نجرؤ، مثلاً، على الذهاب إلى أنّ قصيدة التفعيلة ما كانت لتتلمّس طريقها إلى الجمهور لحين لو لم يُقيَّض لها قامة من وزن الشاعر يوسف الخال، الذي أصدر مجلّة "شعر"؟! من غير أن ننسى إسهام د. سهيل إدريس الذي ترأَّس مجلّة "الآداب" البيروتيّة في نشرها! ثمّ إنّ انتزاع المشروعيّة تأخَّر إلى أن جاء الرعيل الثاني من شعراء التفعيلة، مُمثَّلاً بشعراء الأرض المحتلَّة، وكان محمود درويش على رأسهم، إلى جانب سميح القاسم وتوفيق زياد ومعين بسيسو، ناهيك بمحمّد الفيتوري من السودان، وصلاح عبد الصبور وأحمد عبد المعطي حجازي وأمل دنقل من مصر، وعلي الجندي وفايز خضور وممدوح عدوان من سورية، وعرار من الأردن، ومن قبلهم البيّاتي من العراق، هذا على سبيل التمثيل لا الحصر!

بالاتّكاء على ما سلف سنعفي أنفسنا من الإجابة عن سؤال الشعر، ولكنّنا لن نقع في المكابرة، فننكر التلاقُح المُتبادَل بين الثقافات مثلاً، وقد نستشهد ببَوح السيّاب الذي يقرّ فيه بفضلِ ناقدٍ ومُترجمٍ وروائيٍّ وقاصّ وشاعرٍ من وزن جبرا إبراهيم جبرا في تعريفه بالفضاءات الرحيبة لـلشاعر ت. س أليوت في قصيدته الشهيرة "الأرض اليباب"! وستدخل مسألة تحرّي تطوّر قصيدة النثر - لنقف بالأميركي والت ويتمان كرائد لهذه القصيدة، أو بتأثير عزرا باوند في مجمل التجربة الشعريّة العالميّة - في خانة إعادة الأمور إلى نصابها، بعيداً عن تأويلٍ رغبويّ يذهب جهات أنّنا خير أُمّة أُخرجت للناس، ذلك أنّ النفاج أو الذّات المتضخّمة لن تدفع بنا إلى إغفال علاقتنا بالآخر راهناً، وهي علاقة أطراف بالمركز، إلّا إذا كنّا سنواري اشتغالنا على أدبنا بدلالةِ نظريّةِ أدبٍ غربيّة أَنتجها رينيه ويليك، وأنّنا نقديّاً نشتغل بدلالة رولان بارت، مثلاً، أو كلود ليفي شتراوس، وليس بدلالة القاضي عبد القاهر الجرجاني، ما يُعيدنا إلى مقولةٍ كان عالِم الاجتماع الجليل ابن خلدون يقول بها، ذلك أنّ تماهي الضعيف بالقويّ هي من طبيعة الأشياء، ولا نظنّ أنّنا بذلك مفارقون زواريب التأصيل والبيان، حتّى لو تعثّرنا بنصوصٍ كثيرة غثّة في هذا الجانب، ذلك أنّ الاتّهام هنا سيطال الاشتغال النقدي، الذي قصّر عن مواكبة العمارة الإبداعيّة بأنواعها، فلم يُنشىء عمارته النقديّة المُوازية التي تبوّب، وتُبعد المُتسلّلين وأنصاف المواهب عن الساحة الأدبيّة على وجه التخصيص، والفنيّة على وجه العموم!

فإذا وضعنا في مغازينا توضيح الكيفيّة التي تتداعى بها الموسيقى الداخليّة لقصيدة النثر، باعتبارها موضوع جدلٍ طال، تحتّم علينا الاستجابة لرغبة القرّاء، وعليه فإنّ المبتدأ سيكون من الإشارة إلى أنّ الموسيقى أصوات أوكأها الموسيقيّ إلى مقام الهارموني، أي التناغُم بالتدرُّج أو بالتضادّ "القرار والجواب" وأنّ اللّغة - أداة الشاعر الرئيسة - هي الأخرى أصوات، أي "فوتونات"! لكنّها لا تحتكم إلى التناغُم، بيد أنّ الاشتغال عليها في هذه السويّة مُمكن، كأن نُوائِم بين الهامس من الحروف والحلقيّ أو المُفخّم والمُرخَّم، في ائتلافٍ أو اختلافٍ قصديّ مُضمر يُحدِث إيقاعاً، يُحيلنا إلى علائق داخليّة تشي بالعميق والحميم من الإحساس باللّغة والالتصاق بها، تماماً كاشتغال المُتصوّفة عليها، ولن ندّعي بأنّه بديلٌ عن الوزن، ولكنّه فعّال على حدّ تعبير درويش، عندما أعلن في حوارٍ له "بين ما يُعطي شرعيّة لقصيدة النثر أنّها تقترح كسْرَ نمطيّة إيقاعيّة، وتسعى إلى إنشاء إيقاعٍ آخر ليس بديلاً عن الوزن لكنّه فعّال، فضلاً عن أنّه يؤسِّس لحساسيّةٍ جديدة. اقتراح قصيدة النثر هذا هو أهمّ العوامل التي جعلتني أشعر بقدرة الوزن على أن يكون نمطيّاً. بالتالي هناك بيني وبين قصيدة النثر حوارٌ ضمنيّ، أو مبطَّن. لكنّني أجد حلولي داخل الوزن، والوزن ليس واحداً، ولو كانت له العروض نفسها. ثمّة وزن شخصي في كلّ قصيدة، بل وأكثر من وزن داخل البحر نفسه" (الأعمال الكاملة، دار الريّس 1995). وها نحن نوردُ قصيدة له يقول فيها "أحبّ من الشعر عفويّة النثر والصورة الخافية/ بلا قمر للبلاغة: حين تسيرين حافية تترك القافية/ جماع الكلام، وينكسر الوزن في ذروة التجربة" (من ديوان سرير الغريبة، 1999). ولا نظنّنا مُجبرين على الخوض في الفَيض الغنائيّ الدراميّ كخاصيّة في قصيدة النثر، أو في العتبة والتكثيف الذي يروم التبئير كمُشترَكاتٍ بين التفعيلة وقصيدة النثر، بل والعموديّ أيضاً!

ثمّ إنّ المسألة تتعلّق بإنصاف قاماتٍ مديدة كأدونيس ومحمّد الماغوط ونزيه أبو عفش وأنسي الحاج مثلاً! وقد نستذكر، في هذا السياق، تجربة الشاعر شيركوه بيكس، أو نقف بقصيدة الشاعر لطيف هلمت في جدّتها وفرادتها، وإذا تذكّرنا سؤال الشعر جاز لنا تذكُّر تجربة شديدة الأهميّة، كنّا قد أتينا عليها أعلاه، ونقصد بها تجربة الشاعر أدونيس! بقي أن نشير إلى أنّ ما تقدَّمَ هو وجهة تحتمل الخطأ، تماماً كما تحتمل الصواب، فنحن إذا ألغينا قصيدة النثر من بانوراما الشعر المُعاصر في عموم ميزوبوتاميا والشرق الأوسط، أُصيب المشهد بالخَلل، وأَنكرنا على الآخرين عَرَقَهُم وجهدَهُم وسهرَهُم فيما نحن سادرون في فواتنا، ما قد يقتضي الإشارة!


*كاتب وأديب من سوريا 
مؤسسة الفكر العربي