جيمس بوند ومخطوطه المَنسيّ

news image

 
 

منصور مبارك*

 

في مكتبة "ليلي" (Lilly Library) التّابعة لجامعة إنديانا في الولايات المتّحدة الأميركيّة ثمّة مخطوطٌ مودعٌ بعنوان "دولة الإثارة: انطباعي عن الكويت"، ومحتواه الذي يقع في 145 صفحة يصف زيارةً للكويت قام بها مؤلِّفُه قبيل استقلالها، ومع أنّ هذا المخطوط قد مضى على تأليفه ما يقرب نصف القرن ونيّف، إلّا أنّه لم يُنشر إلى الآن، ولو أنّه كان من تأليفِ أحد غير الكاتب البريطانيّ ذائع الصيت "إيان فليمنغ" مُبتكِر شخصيّة جيمس بوند، لَحَجبته تصرّمات الزمن عن الظهور للعَلن.

لم يكُن إيان فليمنغ وقتذاك كاتباً مغموراً، بل كانت شهرته قد طبّقت الآفاق، فقد أصدر في بداية الخمسينيّات من القرن العشرين ستَّ رواياتٍ متتالية من سلسلة جيمس بوند، سجَّلت جميعها نجاحاً كبيراً، وفي أثناء سفره إلى الكويت كان قد أتمَّ كتابة الرواية الثامنة من هذه السلسلة وعنوانها "كرة الرعد".

يؤكِّد فليمنغ في تصديره للمخطوط أنّه: النسخة اليتيمة لما كَتبهُ عن الكويت في كانون الأوّل/ ديسمبر 1960، وكان نَشْرُهُ مرهوناً بموافقة شركة النفط الكويتيّة المسبقة على طباعته ونشره؛ وذلك لأنّ ملكيّة الكِتاب وحقوقه كافّة هي لشركة نفط الكويت، ويجب ألّا يُطبع أو يُقتطع منه أيُّ جزءٍ من دون موافقةٍ خطيّة منها.

زيارة فليمنغ إلى الكويت لقيَت استجابةً جيّدة بين وسائل الإعلام العالَميّة، وفي أحد برامج هيئة الإذاعة البريطانيّة أَسهب فليمنغ نفسه بالحديث عن رحلته إلى الكويت ومضامينها الثقافيّة. وفي الإطار الزمني توافقت زيارته مع استعدادات الكويت للاستقلال، وفي خضمّ تنفيذها خطّة طموحة للتحديث. وحريٌّ بنا القول إنّ الكويت لم تكُن منطقة منعزلة قَبل ظهور النفط؛ حيث كانت جزءاً مهمّاً من الحركة التجاريّة منذ القرن التّاسع عشر، وكان سكّانها نشيطين في العمل من ضمن منظومةِ تبادُلٍ تجاريٍّ وصلتْ إلى أقصى المحيطات، وهذا التفاعل العالَمي أَسهم إلى حدٍّ كبير في نموّ الكويت وازدهارها، لتغدوَ بيئةً منفتحة وبلداً متنوّعاً وحيويّاً على تماسٍّ مبكّرٍ مع ثقافات العالَم، ما تأتّى عن ذلك تأسيسُ مجالس بلديّة وتشريعيّة ومنظومة تعليميّة حديثة وتخطيط عمراني معاصر، أو ما يُمكن أن نُطلق عليه الولوج إلى روح العصر.

كانت شركة نفط الكويت تقف وراء فكرة الكتاب، وتولَّت الإدارة العليا فيها مهمّة التواصُل مع إيان فليمنغ واقتراح مشروع الكتاب عليه. وقتذاك كان الرجلُ كاتباً لامعاً وسَبق له أن ترأَّس قسمَ الرحلات في جريدة "الصنداي تايمز"، وكانت مدينة الأحمدي بدَورها مقرّاً للشركة في ذلك الزمن، احتضنت مؤسّساتٍ وأنشطةً ثقافيّة وفكريّة متميّزة، ففيها مدرسة إنكليزيّة حديثة ومنتدىً عصريّ ومسرح للعروض الأدبيّة وأنشطة ترفيهيّة متنوّعة، كما كانت حاضنة لحياةٍ ثقافيّة مزدهرة.

فليمنغ من جانبه كان غير راضٍ، وقتها، عن الإقبال الضعيف الذي لقيته رواية "كرة الرعد"، فعقد العزم على الانشغال بتأليف كتاب وليس رواية؛ ولذلك أبدى موافقته على اقتراح شركة النفط، وهو يعلم جيّداً الصلات القويّة التي تربط بريطانيا والبريطانيّين بالكويت وهي علاقة من نَوعٍ خاصّ، ولم يُبدِ استغراباً حين علمَ أحد أصدقائه بسفره إلى الكويت وطلب منه أن يرسل له صندوقاً من نبات "الكمأة"، لأنّ صديقه قد سمع أنّ الأمطار هطلت في الكويت بغزارة، وهو ما يُنبئ بظهور مثل هذا النبات اللّذيذ.

دولةُ الإثارة

قَبل وصول فلمينغ إلى الكويت كان قد رسم في مخيّلته صورةً رومانسيّة عنها؛ فقد كان يتخيَّل عالَماً هَبَطَ من كتاب "ألف ليلة وليلة" تحفة الرومنطيقيّة والخيال عن غوّاصي اللّؤلؤ، والصحراء برمالها الناعمة، والحياة البريّة المشوّقة، وبالطبع نبات الكمأة، ولكنّه لم يَعثر على أيٍّ منها هناك؛ إذ كانت السيّارات الكثيرة التي تُطلِق أبواقَها العالية، وورشة البناء الضخمة في المدينة هي أوّل ما أبصرته عيناه.

في مجمل حديثه أثنى فليمنغ بشكلٍ لافتٍ على الطريقة التي كان يُعامِل بها حاكمُ الكويت شعبَه، وأكثر شيء أدهشه، كما ذكر ذلك صراحة، هو توفير الحكومة التعليم والطبابة بالمجّان للشعب.

ومن وجوهٍ متعدّدة أُصيب بالصدمة من الفوران الاجتماعي الاقتصادي، ولعلّ ذلك يكون سبباً في اختياره عنوان الكتاب "دولة الإثارة". فقد كانت تجربته نابعة من عَيْنَيْ أجنبيّ لا معلومات لديه عن المنطقة، كما أنّه جاهل بنمط الحياة وتقاليد الثقافة العربيّة. ويُسهب في الحديث عن التغييرات الهائلة التي خبرتها الكويت خلال تلك الفترة. وقطعاً هذا أمر ليس مستغرباً، فحتّى ذلك الحين لم تكُن هناك سابقة تاريخيّة للسرعة التي جرى فيها تشييد البنية التحتيّة في الكويت بهذه الوتيرة الكاسحة. وهو تغييرٌ هائل يجلب معه كذلك تغييراً في أنماط الحياة والطِّباع.

فالكويت كما لاحَظ فليمنغ: قفزتْ خلال عقدٍ واحدٍ فقط من خانة بلدان العالَم الثالث إلى إحدى أغنى دول العالَم. ويَذهب فليمنغ إلى أنّ حاكم الكويت والكويتيّين أنفقوا جهداً عظيماً في تحويل صحراء جرداء إلى أضخم دولة مُنتِجة للنفط، من دون إغفال المثالب التي تصاحب تحوّلاتٍ كهذه. ولئن كانت عجلة الحداثة قد دارت بسرعتها القصوى، إلّا أنّ فليمنغ رأى بعضاً من التشوّهات المُرافِقة لها؛ فقد أبدى نقداً للأخلاط التي كان مشروع العمران في الكويت يُصمَّم وفقاً لها، حيث لاحظ أنّ التصاميم البريطانيّة والأميركيّة كانت متداخلة من دون تمييزٍ بينها؛ ما خلقَ نوعاً من التنافُر الحضري والتشوُّه العامّ في المشهد.

قام فليمنغ بتبويب كتابه وتوزيع موضوعاته المتعددّة على خمسة عشر فصلاً موجزاً، جاعلاً كلّ فصل منها زاوية منفردة يستكشف الكويت من خلالها؛ فرصَدَ الحياة اليوميّة في هذا البلد الخليجي الحيوي، كما رصَدَ طبائع الناس وكنوز جزيرة "فيلكا" وتاريخ البلد والحياة البريّة وسياسات الكويت.

وأشار فليمنغ بوضوح إلى مستوىً رفيع من الإنسانيّة لمَسه لدى الأسرة الحاكمة وعلى رأسها الأمير، وهو المغفور له بإذن اللّه تعالى الشيخ عبد الله السالم الصباح رحمه الله، وكذلك كياسة مسؤولي شركة نفط الكويت، الذين حلَّ ضيفاً عليهم قرابة الشهر، وتهذيبهم. ووصفَ فليمنغ الكويتيّين بأنّهم أشخاص نبلاء يعيشون تحت قيادة أمير حكيم، يبذلون ما في وسعهم للتأقلم مع ثروة أتت دون مقدّمات.

فيوليت ديكسون "أم سعود"

قابَلَ فليمنغ أثناء مكوثه في الكويت كثيراً من الشخصيّات، لكنّ أهمّها على الإطلاق كانت زيارته للسيّدة فيوليت ديكسون "أم سعود" التي أمضت حياتها بعد رحيل زوجها المندوب السامي هارولد ديكسون في بيتها في الكويت، وقد صرَّحت السيّدة ديكسون في إحدى مقابلاتها أنّ كتابتها لسيرتِها الذاتيّة "أربعون عاماً في الكويت" يقف خلفها جيمس بوند. فقد ذكرتْ في أكثر من حوارٍ معها أنّ فليمنغ في معرض لقاءاته مع الكثيرين أتى من الأحمدي لزيارتها في منزلها في المدينة، ووجَّه لها الكثير من الأسئلة، وسألها وقتذاك: لماذا لا تشرعين في كتابة مؤلَّفٍ ما؟ وذكرتْ أنّ كلامه هذا أفزعها في بداية الأمر، ولكنّه شجَّعها قائلاً: كلّ ما تحتاجين إليه هو الجلوس لمدّة ساعة يوميّاً، وسترين الكمّ الهائل من المعلومات التي بحوزتك، ولْتكُن البداية على سبيل المثال بقصّةٍ ما. وتنهي أم سعود قولها إنّ الأمرَ لم يكُن صعباً كما تصوَّرته.

ويبدو أنّ الكويت كانت طالعاً حسناً على إيان فليمنغ؛ إذ بعد فتورٍ طاوَلَ كتابه الذي صدر في العام 1961، وفي أثناء وجوده في الكويت، التقطتْ شركةُ الإنتاج الأميركيّة العملاقة "يونايتد أرتيست" روايته "الدكتور نو" الصادرة في العام 1958، وقرَّرت تحويلها إلى فيلمٍ سينمائي تقاضى عنه فليمنغ مبلغاً سخيّاً من المال في مقاييس تلك الفترة، ومن هنا بدأت سلسلة أفلام جيمس بوند.

*كاتب من الكويت  
مؤسسة الفكر العربي