بورتريه مُترَع بالدمّ والنرجسيّة للزعيم #مودي
منصور مبارك*
لم يكُن أحد يتوقّع أنّ اغتيال سمكريٍّ هنديٍّ يُدعى #براديب_نيجار_سينغ في ولاية بريتش كولومبيا الكنديّة في 18 حزيران/ يونيو 2023، سيَصنع جلبةً كونيّة هائلة، ويَدفع بالسلطات الكنديّة، بما تحصّلت عليه من قرائن يقينيّة، إلى اتّهام الحكومة الهنديّة بتدبير هذه الجريمة وتنفيذها، لتبدأ في أعقابها الإجراءات العقابيّة والمُناوشات الإعلاميّة بين الهند من جهة، وكندا من جهة أخرى، والتي أرخَت بظلالها على قمّة الأقطاب العشرين التي استضافت الهند دورتها الأخيرة في أيلول/ سبتمبر من العام 2023.
وقتذاك رأى كثيرون أنّ تصفية المُعارِضين لسياسات رئيس الحكومة الهنديّة "ناريندرا مودي"، على انتماءاتهم المُتباينة، و"سينغ" كان من أبرزهم تمثيلاً لطائفة السيخ الكبيرة في كندا، يشكّل نزوعاً عميقاً إلى التعصّب القومي بأشدّ صنوفه ابتذالاً، والذي ما انفكّ "مودي" وحزبه "باهاراتا جاناتا" عن مُمارسته منذ تسنّم السلطة.
غير أنّ ذلك لم يكُن الاتّهام الأوّل للحكومة الهنديّة باقتراف الجرائم، فقد سبقته زوبعة عالَميّة أثارها بثّ هيئة الإذاعة البريطانيّة برنامجاً وثائقيّاً من حلقتَيْن بعنوان "الهند: مسألة مودي"، يتقصّى ويبحث بشكلٍ دقيق ومنهجيّ عن الأدلّة والبراهين التي تُثبت مسؤوليّة رئيس الوزراء "ناريندرا مودي" عن التطهير العرقي للمُسلمين في ولاية "غوجارات" الهنديّة في العام 2002، وكان حينها وزيراً للإقليم، وما أعقبه من اعتقالِ عددٍ كبيرٍ من المثقّفين والصحافيّين الهنود في ما وُصف بالحملة القوميّة لإخراس مُنتقدي الزعيم "مودي".
مذبحة "غوجارات"
مذبحة "غوجارات" دماؤها ملتصقة بيدَيْ "مودي" وباقية عليهما كالدمّ الذي أَطار بعقل اللّيدي ماكبث. إذ بعد العودة من الاحتفال بالذكرى العاشرة لتدمير مسجد باربري، الذي تذهب الرواية الهندوسيّة إلى القول إنّه معبدٌ هندوسيٌّ مقدّس يسمّى "أيوديا" دمّره المُسلمون المغول في أثناء فتحهم للهند، توقّف قطارٌ يقلّ حجّاجاً هندوسيّين متطرّفين في بلدة تقطنها أغلبيّة مُسلمة، لتأتي عليه النيران، ما تسبَّب في مصرعهم جميعاً. وقبل أن تخمد نيران الحريق تماماً، وجَّه "مودي" أصابع الاتّهام إلى المُسلمين، وأصدر أوامره بنقْلِ جثث الضحايا إلى عاصمة الولاية، وبترتيبٍ تحريضيّ طلبَ أن تُسجّى بشكلٍ استعراضي في الساحة العامّة للمدينة.
آتت هذه المشهديّة المصبوغة بالدمّ والثأر أُكلها، باجترارها أبشع الغرائز والنّزعات. وكي تستوفي الإبادة الجماعيّة أركانها، أصدر "مودي" أوامره لقوّات الأمن بالبقاء على الحياد لمدّة ثلاثة أيّام، مُطلِقاً أيدي الغوغاء والأشقياء من الهندوس ليستبيحوا دماءَ المُسلمين، ويحيلوا "غوجارات" إلى مسلخٍ بشريّ كبير.
لاحقاً أفادتِ التقاريرُ الفنيّة لحادثة القطار بأنّ النيران كان سببها عطلٌ ميكانيكي لحقَ به.
وهذا المخطّط الانتقاميّ استنسخه "مودي" في الشطر المُسلم من ولاية كشمير، التي شهدت عقاباً جماعيّاً وحصاراً خانقاً، وعزلاً عن العالَم الخارجي بحجْب وسائل الاتّصال فيها، مصحوباً بإطلاق العنان لقوّات الجيش التي تربو على المئة ألف، لتتحرّر أفعالهم من أيّة كوابح إنسانيّة. وتحت ذرائع التراصّ والتلاحُم القومي، هبّت موجاتٌ متوالية من الاعتقالات لمُنتقِدي سياسات "مودي"، فاعتُقل لفيفٌ من الساسة والمثقّفين والطلبة والصحافيّين الاستقصائيّين، وجرى نبْشُ أضابير بعضهم الأمنيّة، فمثلاً وُجّهت للروائيّة الهنديّة "أرونداتي روي" تهمة إثارة الفتنة بذريعة مشاركتها في مؤتمر قبل عقدٍ من الزمن.
تسبّب ذلك كلّه في منْع "مودي" من السفر إلى الولايات المتّحدة وبريطانيا ودول أوروبيّة، وهو منْعٌ استمرَّ لعقدٍ من الزمن قَبل أن يُرفع بعد إصدار فريق تحقيقات انتدبته المحكمة العليا للنظر في أحداث "غوجارات"، توصيةً بتبْرئة ساحة "ناريندرا مودي".
ورئيس الوزراء الهندي الرّابع عشر "ناريندرا مودي" المُمثِّل لحزب بهاراتا جاناتا الكاره للتعدّديّة في بلدٍ ينطق بأكثر من مئة واثنَيْن وعشرين لساناً، مولود في العام 1950 ويتحدّر من ولاية "غوجارات"، مهووس بتصدير شخصيّة تتعالى على الإنسانيّ المكشوف على الألم والخذلان والهزيمة والمحايث، في الوقت عينه، لبطل ملحمة هندوسيّة وسيّد لأقدارها. وهذا مَكمن القوّة في سياسة "مودي"؛ تلك المُزاوَجة البارعة بين المخيال الهندوسي والكفاءة التكنولوجيّة الباهرة، فهو ليس زعيماً يمينيّاً متطرّفاً فحسب، بل على طموحٍ متمادٍ لأن يكون زعيماً هندوسيّاً يخلّده التاريخ.
ويصحّ أن تُستعاد هنا بضع وقائع للتدليل على ذلك، فهو أوّل رئيس وزراء في العالَم يَظهر في برنامجٍ ذائع الصيت من طراز "تلفزيون الواقع"، إذ انتقى "مودي" برنامجاً عن الحياة الشاقّة في خضمّ طبيعةٍ قاسية، فنراه يقطع النهر على زورقٍ بدائي مؤكِّداً على أنّ حياته البسيطة كانت تسير على هذا النحو، فهو كان وحيداً يُقارِع مشاقّ الطبيعة وصعابها. وما سبقَ ضربة فرشاة زاهية اللّون في لوحة، يحرص "مودي" على أن يرسمها لنفسه مضخِّماً تفصيلاتٍ ضئيلة تُشدّد على انتمائه لطبقة دنيا، فهو ابن بائع شاي مُعدَم تمكّن بعصاميّة لا نظير لها من ارتقاءِ طبقاتٍ سياسيّة واجتماعيّة، مُنازلاً النّخبة كآل غاندي في عقرِ دارهم السياسيّة، مُنتزِعاً محبّة جماهير محرومة يبات أغلبها كلّ ليلة على الطوى.
"مودي" عليم بأمزجة أبناء وطنه البسطاء، الذين تشكَّل وعيهم السياسي من رافدَيْن أساسيَّيْن هُما: الملاحم الهندوسيّة وأيقونة البطل البوليوودي؛ فكلاهما يُصدر أنموذجاً لملْهِمٍ ينبجس من العامّة، وتوكَل إليه الأقدار ومسيرة التاريخ مَهمّة إعادة الحياة إلى سراطها القويم بعدما ألوى بها الأشرار. وتذهب "السردية الرسميّة" لـ "مودي" إلى أنّه هَجَرَ منزل والدَيْه قُبيل زواجه بقليل، في تماهٍ مع سيرة المُستنيرين كبوذا وغيره، وقَطَعَ مثلهم رحلةً طويلة من مشارق الهند إلى مغاربها، مُنفِقاً أمداً طويلاً في مُخالَطة رجال الدّين الهندوس الأتقياء والزهّاد، ليَمضي أبعد من ذلك بمُعاشرة طائفة "السادو"، وهُم رجال دين هندوسيّون ينبذون الحياة الدنيا ويسيرون على هدي فلسفة تزدري الجسد ورغائبه، ليحطّ رحاله في "كاندرياث"، وهي أحد أعمدة النور الاثنَيْ عشر المقدّسة للهندوسيّة، مُتنسِّكاً ومُتوحِّداً.
يبتدع "مودي" روايةً عن نفسه، نسيجها الأساسي الرواية الهندوسيّة نفسها للتاريخ. ففي بلد الغالبيّة المُطلقة من سكّانه من الهندوس (حوالي 80%)، تحتلّ الحياة الروحيّة جزءاً كبيراً من وجودهم. "مودي" يَأخذ السمات والقيَم الهندوسيّة ويُضخِّمها ويُعيد تصديرها للجماهير الهندوسيّة. فعلى سبيل المثال، هو لا يُمارِس التأمّل في المنزل، بل يقصد مرتفعات الهيمالايا، "حيث تسكن الآلهة"، وبوصفه هندوسيّاً ورعاً متفانياً، فإنّه يقطع مسافة 22 كيلومتراً سَيراً على قدمَيْه قاصداً أحد الكهوف، حيث يُمارس الصلاة والتأمّل لمدّة 17 ساعة متواصلة، وبالطبع فإنّ عدسات الكاميرا تطوّقه من كلّ جانبٍ لتنقل إلى أبناء طائفته صورةَ الهندوسيّ الزاهد والقادر تماماً، كالأنبياء، على اعتزال الناس والحياة.
ليس ذلك هو الجانب الأوحد المُثير في حياة "مودي"، فكما للآلهة الهندوسيّة أربعة وجوه، ثمّة وجوه أخرى لسيرة "مودي"؛ فلَقَبُ الزعيم، الذي يُستحسن مُناداته به، مُستَلٌّ من الفكر السياسي الفاشي، وتحديداً فاشيّة أندريا موسوليني الإيطاليّ، ولا ذكر له في تراث الهند وثقافتها. فـ"مودي" الذي ترعرع في حزب "بهاراتا جاناتا" اليمينيّ القوميّ، وقبلها في كنف "منظّمة التطوّع القوميّ" اعتنقَ بتزمُّتٍ عقيدة "الهندوتفا"، كما شرحها معلّم متأثِّر بالفاشيّة يُدعى "فيناياك سافركار" في كتابه المعنون: "مَن هُم الهندوس؟" الصادر في العام 1923، والذي سبق له ترجمة كتاب الفيلسوف والسياسي الإيطالي "جيوسيبي مانسيني" عن الوحدة الإيطاليّة. وكان "سافركار" مُعاصراً للحقبة الفاشيّة ومتأثّراً بها. ولعلّ "مودي" آمن من خلال معلّميه الفاشيّين في الحزب والمنظّمة بالبديهة التي ينهض عليها الفكر الفاشيّ في نظرته للتاريخ، والتي مفادها أنّ ثمّة زمناً تعرّض فيه مسار التاريخ للزيغ، وهو ما يتطلّب بالتالي تدخّلاً عنيفاً لإعادته إلى مساره الطبيعي.
صناعة الشخصيّة
و"مودي" في هندسته لنظامٍ سياسيّ تسير فيه القوميّة والعنصريّة يداً بيَد، يعلم جيّداً أهميّة صناعة الشخصيّة، لذلك أحاط نفسه بأبرز شركات الاتّصال في العالَم، وقامَ باستئجار شركة علاقات عامّة أميركيّة من أجل تنظيف سمعته خارجيّاً. "مودي" انتبهَ إلى أهميّة بناء علاقات مباشرة مع الناس، وهو أوّل شخص في العالَم يَستعين بتقنيّة الهولوغرام التي استوردَها من إنكلترا بتكلفة فلكيّة، ليوظِّفها في حملته الانتخابيّة. ففي مجتمعٍ غارقٍ في الأميّة والجهل والتخلُّف، كانت فكرة الوصول إلى الناس كطيفٍ سماويّ، ومُخاطبتهم، والتلويح لهم، أمراً جَعَلَهُ قريباً منهم ومُتعالياً عليهم، كما لو كان من أنصاف الآلهة. ولا ريب في أنّ الدَّعم المالي الذي حظيَ به "مودي" من حيتان المال في الهند، جَعَلَهُ يدير أكبر معركة انتخابيّة على مستوى الدعاية ووسائل التواصل الاجتماعيّ، حيث انتشرتْ أقنعة لوجه "مودي"، فأصبحت الجماهير كأنّها "مودي"، وظهرتْ أفلامٌ كارتونيّة تصوّره على هيئة سوبرمان يَسحق الفساد ويَنشر العدل. كان "مودي" يلعب على المشاعر والصور، فتكرار الدعاية المُفرطة، وتبيان مزايا "مودي" بالانضباط والصبر، جعلاه أشبه ما يكون بواحدٍ من خلائف الآلهة الهندوسيّة.
صورة الزعيم الروحيّ حاول "مودي" نقلها إلى الفضاء العالَميّ من خلال حدثٍ كبير، هو "يوم اليوغا العالَمي" والذي يُحتفى به كلّ عامّ، فعلى الرّغم من التكاليف الباهظة لعمليّة تعميم هذا الاحتفاء بنقله إلى سائر أرجاء العالَم، حرص "مودي" في مشهديّةٍ ضخمة على قيادة مئات الألوف في الهند على أداء اليوغا، وبمشاركة الآلاف في الحواضر العالَميّة الكبرى، بخاصّة في الغرب، حيث تحتلّ اليوغا مكانةً كبيرة. هذا الحدث جَعَلَ "مودي" زعيماً روحيّاً عالَميّاً.
و"مودي" الذي انتهكَ جوهر اليوغا، بوصفها تجربةً فرديّة للتأمُّل والانعتاق من ربقة العالَم والآخرين، وصرفه مبالغ طائلة على الحدث العالَمي الذي تحوَّل إلى دعايةٍ رخيصة ممجوجة، إنّما كان متّسقاً مع نفسه كقوميّ طامِح للشهرة، ولا غرابة في ذلك، فهو الزعيم.
* كاتب ومُترجِم من الكويت - مؤسسة الفكر العربي