تواريخ المُرتزَقة وأزمانهم.. في إثر الأوزّ البرّيّ
منصور مبارك*
في مأساة "روميو وجولييت" يجري على لسان مركوشيو حديثٌ عن تمنّعه الاشتراك، رفقة روميو، في ملاحقة الأوزّ البرّيّ، لأنّ ذكاءه يمنعه من ذلك. وبحسب مؤرِّخي الأدب، فإنّ عبارة "الأوزّ البرّيّ" وَرَدَتْ للمرّة الأولى في الأدب الإنكليزيّ، وحمولتها الدلاليّة تُحيل إلى لحاقِ المرء بغايةٍ لا يُمكن الظَّفر بها. وبعد ما يربو على قرنٍ سيطفو هذا المصطلح على سطح اللّغة في عقابيل حرب الأعوام الثمانية بين الحلفاء الإيرلنديّين من جهة، وآل ستيوارت من جهة أخرى، والتي وضعت أوزارها بتوقيع معاهدة ليميرك في العام 1691، لتوسم به كوكبة من المُقاتلين الإيرلنديّين تفرَّقت بهم السُّبل في أوروبا، لكنّهم عرضوا مهاراتهم كجنودٍ مُحترِفين بضاعةً لمَن بوسعه ابتياعها.
أَبحر هؤلاء بقيادة باتريك سارسفيك، وكان عددهم يربو على أربعة عشر ألف مقاتل، صوب فرنسا، بعدما أذاقهم جيش آل ستيوارت هزيمة مذلّة. وبحسب المرويّات التاريخيّة، فإنّ أوّل مَن استأجرهم كان البلاط الإسبانيّ، للإفادة منهم في معارك خارجيّة توزَّعت بين إيطاليا والبرازيل وتشيلي. كما استعان بهم الإمبراطور بطرس الأكبر في تدريب القوّات الروسيّة وتعزيزها. وبقي هذا المُصطلح نابضاً بالحياة ليعود مرّة أخرى متأجِّجاً في ستّينيّات القرن الماضي، إذ شهدت حروب القارّة الأفريقيّة، وتحديداً الكونغو، مشاركةَ كتيبةٍ من المُرتزَقة تسمّى "الأوزّ البرّيّ"، بقيادة جنرالٍ بريطاني من أصولٍ إيرلنديّة يُدعى مايكل هوور. هذا الجنرال المتقاعد من الحرب العالَميّة الثانية، والمعروف كسائر المُرتزَقة بدمويّته وبطْشه، وكما لو أنّه يصون برومانسيّة طيوف الماضي الغابر، استعار لقوّاته الشعارَ الذي اتّخذته الكتيبةُ الإيرلنديّة في القرن السابع عشر.
كانت تلك الحقبة تحشيداً للوحشيّة والعربدة الأوروبيّة المُنفلتة من أيّة زواجر إنسانيّة. بدأ هوور بقتالِ الثوّار اليساريّين في الكونغو دعماً لحكومة مويس تشومبي الذي استأجره في العام 1964. وتُروِّعنا لغةُ الأرقام، إذ تشير إلى قتل هوور ما يربو على 10 آلاف ضحيّة. وكانت حربه مادّةً لفيلم المُخرج البريطاني أندرو ما كلاغن "الأوزّ البرّي"، الذي حَشَدَ له عظماءَ السينما البريطانيّة من أمثال ريتشارد بيرتون وريتشارد هاريس وجيمس مور، وآخرين، وعمل هوور نفسه مُستشاراً للشركة المُنتِجة للفيلم.
الكونغو كانت حلبة المرتزقة الدائمة، وقد حلّ في العام الذي تلاه الثائر الأرجنتيني أرنستو تشي غيفارا ضيفاً على الرئيس جمال عبد الناصر لتوحيد الجهود وحشدها بغية دعم القوى الثوريّة في الكونغو بقيادة لوران كابيلا، وكان خصمُهم وقتذاك حفنة من المُرتزَقة بقيادة روبرت دانور، يطلقون على أنفسهم اسم "المهابون". دانور سيّئ الصيت خطَّ ببندقيّته صفحاتٍ من تاريخ أفريقيا المُعاصِر، فإلى جانب ارتباط اسمه بعمليّة إنقاذ مدنيّين أوروبيّين بتكليفٍ من حكوماتٍ أوروبيّة في الكونغو، تنقَّل على جبهاتٍ مُختلفة في جنوب نيجيريا وأنغولا واليمن، وكانت تُسنَد إليه مهمّاتٌ قذرة تعفُّ الحكومات عن الإتيان بها.
بلغَ دانور ذروةَ مجده حين أَحكم قبضتَه على مصير جُزر القمر، فكان مستقبلُ هذه البلاد ألعوبةً بين يدَيْه، حيث دبَّر أربعةَ انقلاباتٍ متتالية كي يُنَصِّبَ مَن يأتمر بأمره رئيساً، وعيَّن نفسه قائداً للحرس الوطني، واغتال الرئيس الشرعي أحمد عبد الله عبد الرّحمن في العام 1989 بعدما خَرَجَ عن طوعه. وانتهى أمر دانور بعد مخالفته تعليمات الحكومة الفرنسيّة وشروعه بالانقلاب على الرئيس محمّد جوهر، وهي محاولة يائسة أحبطتها القوّاتُ الفرنسيّة التي أَلقت القبضَ عليه، ومن ثمّ أَرسلته إلى باريس ليَمثل أمام القضاء بمُحاكَمةٍ هزليّة أَنزلت به عقوبةً مُخفَّفة.
تاريخ المرتزقة، أو ما يسمّى تلطُّفاً الجيوش الخاصّة، يَضرب في أعماق التاريخ. فالسرديّات الإغريقيّة في القرن الخامس قبل الميلاد تُسهِب في وصف الكيفيّة التي تَعاقدت بها كتيبةُ زينوفان الإغريقيّة، وقوامها عشرة آلاف مقاتل، في خدمة كورش الأصغر ملك بلاد فارس. غير أنّ شيوع ظاهرة جيوش المُرتزقة بلغَ ذروته في أوروبا خلال عصر النهضة، وكانت الإماراتُ الإيطاليّة تحديداً، المسرحَ الكبير لصعودها وهبوطها. وتلوح أهميّة المرتزقة وقتذاك بتخصيص ميكيافيلّي جزءاً من كتابه "الأمير" لتسديد النّصح حول الاستعانة بالمُرتزقة، فيَصفهم قائلاً إنّهم خطرون ولا نفع لهم "ومَن يستعين بهم لن يبقى واثقاً من مُلكه أبداً، فهم لا يخضعون لنظامٍ ولا أمانة لهم، وقد يُمارسون النَّهب ضدّ مَن استعانَ بهم، ولا يدفعون أنفسهم للهلاك نظير أجرةٍ زهيدة"، ويستطرد ميكيافيلّي، فيسوق أمثلةً على خيانة المُرتزَقة في حروب الإمارات الإيطاليّة.
إن كان ما يَدفع المرتزقةَ هو المكافأةُ وجنيُ المال، فإنّهم يتكاثرون ويزدهرون حيثما تكون هناك ثروة واقتصاد ناجح ومتطوِّر. فالثروة تساعد صاحبها على شراء الخبرات العسكريّة أو الخدمات الفرديّة، ثمّ إنّ المُكافآت الباذخة تجعل بالإمكان نموّ مهنة المُقاتلين المُرتزَقة بحيث، على سبيل المثال، يتمّ جَلْب مُرتزَقة من شتات الأرض، فضلاً عن انتقاء الكفوئين منهم وفقاً لطبيعة المعارك. إنّ صناعة سوق ضخمة للمُرتزَقة وإبرام عقودٍ ضخمة من قِبَلِ حكوماتٍ عديدة، جَعَلَ هذه المهنة خاضعة لناظمٍ مدمِّر، سَبَقَ للمؤرِّخ الأسكتلندي توماس كارليل أن سمّاه: "الوشيجة النقديّة"، وهي ضرب معيّن من العلاقة بين الأجير وصاحب العمل، تنزع عنها كلّ المظاهر الإنسانيّة، ولا تحتكم إلّا إلى قانون النقود، علماً أنّ هذا المُصطلح سيطوّره لاحقاً ماركس وإنغلز في "البيان الشيوعي" لشرح ظاهرة اغتراب العامل عن عمله وجهده.
اللّافت هنا أنّ المتمعِّن في نسابة ظاهرة المرتزقة، يَجد أنّ قاموسها اللّغوي بقيَ عصيّاً على تقلُّبات الزمن، فعلى سبيل الإحاطة، كان يُطلَق على المُرتزقة في إيطاليا خلال عصر النهضة مسمّى Condotta، ويعني المُتعاقِد، وهو المُسمّى ذاته الذي تستخدمه شركاتٌ شهيرة مثل "أكاديمي"، سابقاً "بلاك ووتر" الأميركيّة، للإشارة إلى جنودها. كما يلفت الانتباه إلى أنّ تلك المهنة كانت منذ القرن الرّابع عشر في إيطاليا، على سبيل المثال، منظّمة بدقّة وتَحتكم إلى قوانين وعقودٍ رسميّة، كما هو شأنها راهناً. ومثلما اشتهرَت في زمننا شركتا "فاغنر" بزعامة السجين السابق يفغيني بريغوجين، و"أكاديمي" بزعامة الجندي السابق إريك برنس، ذاعَ صيتُ شركتَيْن في أوروبا خلال عصر النهضة، أولاهما "الشركة العظمى"، بقيادة الألماني كونراد فون لاندن، والأخرى "الشركة البيضاء"، بقيادة البريطاني السير هاوكوود، وأبانت سيرةُ هؤلاء المُرتزقة عن تأثيرٍ هائل لهم على مَسارات العروش الأوروبيّة، فالسير هاووكود لا تزال تنتصب صورة جداريّة له في دومو في مدينة فلورنسا شاهدة على موقعه في تاريخ هذه البلاد.
ولم تكُن ظاهرة المُرتزَقة حصراً بأوروبا، بل شهدَ الشرقُ الأقصى ما يُشبهها. فالمُقاتلون اليابانيّون "الساموراي" مارَسوا القتالَ خارج اليابان بصفتهم الشخصيّة لمدّة قرنٍ كامل، وبالطبع كانت شهرتهم وتاريخهم خَير شفيعٍ لهم. وتُشكِّل حملاتُ "الساموراي"، في مناطق جنوب شرق آسيا، جزءاً مُهمّاً من تاريخ هذه المناطق؛ ففي القرن السّابع عشر كانت حمايةُ مَلك بورما منوطة بالمُرتزَقة اليابانيّين، غير أنّ طرازاً من مُقاتلي الساموراي طفقوا يبحثون، في ما يُشبه الحسّ الرومانسي، عن المُغامرة ما وراء البحار، وربّما سلالة "الساموراي" التي ينحدر منها مقاتلون نبلاء يتزيّنون بوصايا تُثني على مهاراتهم القتاليّة الاستثنائيّة، فتحت لهم فُرصَ العمل في بلاط ممالك متعدّدة مثل الفلبّين وسيام، وغيرهما.
والوجهان، الرومانسي والنَّفعي، المُتناقضان للساموراي، صوَّرَهُما بشكلٍ دقيق المُخرجُ اليابانيُّ الكبير أكيرا كيراساوا. فيروي فيلمُ "الساموراي السبعة" (1954) حكايةَ ثلّة من مُقاتلي الساموراي المشهورين الذين لم يعثروا على سيّدٍ يقومون بخدمته، فينبرون للذودِ عن مجموعةٍ من القرويّين البسطاء يغير عليهم قطّاعُ طُرُقٍ مُتمرِّسون على القتال، والساموراي لا تدفعهم إلى تلك المعركة سوى رومنطيقيّة الدّفاع عن الحقّ والضعيف. ويعود، كيراساوا ليُقدِّمَ النَّسخةَ المُناهضة لها في فيلم "يوجيمبو" في العام 1961، وفيه فصلٌ من سيرةِ سامورايٍ أجير يرهن خدماته للسيّد الأسخى عطاءً، ونبصره مُمارِساً المسلكيّات المرذولة كافّة التي أطنب في وصفها ميكيافيلّي.
وعلى الرّغم من اعتماد الأُمم المتّحدة الرّابع من كانون الأوّل ديسمبر 1989 الاتّفاقيّة الدوليّة لمُناهَضة تجنيد المُرتزَقة واستخدامهم وتمويلهم وتدريبهم، غير أنّ محاولات إضعاف ظاهرة المُرتزَقة تَقِفُ في وجهها عثراتٌ مثل دعْم الحكومات ورعايتها لها، وتواريها خلف كياناتٍ تجاريّة قانونيّة، وإصرار العاملين في قطاعات الأمن والحماية على إقامة فروقٍ بين المُرتزَقة وشركاتِ الدَّعم الأمني. وكائناً ما كانت المسوّغات، فإنّ نسغ الحياة والمدد لها مصدره لهاث المُستبدّين أنفسهم خلف الأوزّ البرّيّ.
* كاتب ومُترجِم من الكويت - مؤسسة الفكر العربي