هيدغر وسطوع الحقيقة

news image


د. سعيد الغانمي*

مع فكر هيدغر نعود إلى مفاهيمَ موغلةٍ في القدم، رأينا بعضها في ما سبق، ولكنَّه يصهرُها جميعاً، ويُضفي عليها طريقته الظاهراتيَّة (أو الفينومينولوجيَّة) في فهمِهِ الأشياءَ على نحوٍ يجعل من وجود الذّات في العالَم أو الآنيَّة أو الدَّزاين هي الخلفيَّة المنهجيَّة لهذا الفَهْم. ومن الناحية التاريخيَّة، فقد ظهر مقال "ماهيَّة الحقيقة" للمرَّة الأولى سنة 1930. وبعد عشر سنوات كَتَبَ مقالته "نظريَّة أفلاطون عن الحقيقة"، وبقيَ يُطوِّر هذه المقالة حتّى نشرها في كتابٍ كامل سنة 1947 بعنوان "نظريَّة أفلاطون عن الحقيقة مع رسالة عن النَّزعة الإنسانيَّة". وفي سنة 1988 صدرتْ في كتابٍ مستقلٍّ بعنوان "ماهيَّة الحقيقة: أُمثولة الكهف عند أفلاطون ومُحاوَرة الثئيتتس" ضمن المؤلَّفات الكاملة لهيدغر. وسوف نعتمد هنا على التَّرجمتَيْن الإنكليزيَّتَيْن للمقال الأوَّل والكتاب الثاني، بالإضافة إلى ترجمة المقالات المهمَّة التي أنجزها المرحوم د. عبد الغفّار مكّاوي في كتابه "نداء الحقيقة".

في مقالة "ماهيَّة الحقيقة"، لا يوجد ذكر للنُّور على الإطلاق، لكنَّ الوجود بكامله في هذه المقالة يبدو وكأنَّه تسمية أخرى للنُّور، بحيث يشعر القارئ وكأنَّه يستعيد آراء السَّهرورديِّ عن النُّور، وقد بحثَ فيها هيدغر تحت عنوان "الحقيقة". والحقيقة هنا ليست الحقيقة العلميَّة التي يُمكن التَّأكُّد من مقدار تحقُّقها موضوعيّاً، ولا هي المُواجَهة مع الأشياء للبرْهَنة عليها، أو حتّى للبرْهَنة على حضور الذّات أمام الأشياء، بل هي ما يتخطَّى ذلك كلَّهُ، ليكون "الوجود" نفسه. لكنَّ هيدغر لا يصرِّح بذلك إلّا في النَّتيجة النِّهائيَّة، ويكتفي في المُفتتح بالإشارة إلى أنَّ "السُّؤال عن ماهيَّة الحقيقة لا يهتمُّ بأن تكون الحقيقة حقيقةَ تجربةٍ علميَّة في حساب الشُّؤون الاقتصاديَّة، أو حقيقة تأمُّل تقنيٍّ أو لباقةٍ سياسيَّة، ولا يهتمُّ بالخصوص بحقيقة البحث العلميِّ أو التَّأليف الفنِّيِّ، ولا حتّى بحقيقة التَّأمُّل العميق أو الإيمان المنسكيِّ. فالسُّؤال عن الماهيَّة يصرف النَّظر عن هذه الأمور كلِّها، وينصرف إلى شيءٍ واحدٍ بذاته، يميِّز "الحقيقة" من حيث هي حقيقة (ترجمات نصوص هيدغر هنا هي توفيق بين الترجمة الإنكليزيّة والترجمة العربيّة لكتاب "ماهيّة الحقيقة" لهيدغر، من كتاب "نداء الحقيقة"، دراسة وترجمة د. عبد الغفّار مكّاوي، 2017).

يتصوَّر كثيرٌ من الناس أنَّ الحقيقة تكمن في ما هو واقعيٌّ، ولهذا يبحثون عند السُّطوح الواقعيَّة عمّا يُشبع نهمَهم لها. وهُم يعتقدون أنَّ الحقيقيَّ هو الواقعيُّ، تماماً كما يميِّزون بين الذَّهب الأصيل والذَّهب الزائف. غير أنَّ على البحث النَّقديِّ الفلسفيِّ أن يتجاوزَ هذا الظاهر، وأن يبحثَ عن الحقيقة في ما يتعدَّى الاعتقادَ السَّطحيَّ. ولا يخفى أنَّ البحث عن الحقيقيِّ عند مستوىً آخر يتخطَّى الواقع هو بحثٌ في الاستعارة. هنا ينتقل هيدغر ممّا هو واقعيٌّ إلى ما هو فكريٌّ. غير أنَّه يظلُّ يقلِّب القضيَّة على أوجهها المنطقيَّة المُحتمَلة: "الحقيقة هي تطابق الشَّيء مع المعرفة. ولكن يُمكن لهذه العبارة أن تعني أيضاً: الحقيقة هي تطابُق المعرفة مع الشَّيء. ومن الواضح أنَّ التَّعريف أعلاه لا يُذكَر في الغالب إلّا مُقترِناً بالصِّيغة القائلة (إنَّ الحقيقة هي توافُق العقل مع الشَّيء) [veritas est adaequatio intellectus ad rem]. غير أنَّ الحقيقة إذا فُهِمت على هذا النَّحو، أعني حقيقة القضيَّة، لا يُمكن أن تقوم إلّا على أساس الحقيقة المادِّيَّة (أي توافُق الشَّيء مع العقل). ويدلُّ كلا المفهومَيْن على ماهيَّة الحقيقة [veritas] باستمرارٍ على الحقيقة بوصفها تطابُقاً مع... وبالتالي يتصوَّر الحقيقة بوصفها إصابة أو توافقاً مع الصَّواب" (الأعمال الأساسيّة، ص 118، نداء الحقيقة، ص 199).

لكنَّ هذا الفهم لا يتَّفق مع ما ذهب إليه كانط من حيث كون الأشياء هي التي تتوافق مع معرفتنا، بل يتَّفق مع التَّصوُّرات الدِّينيَّة التي تتطابق فيها ماهيّات الأشياء مع المعرفة الإلهيَّة، أو المعرفة الدِّينيَّة بشكلٍ عامّ. ولهذا يدعو هيدغر إلى تفحُّص الإمكانيَّة الداخليَّة للتَّطابُق، وهو أن ينفتح الشَّيء على الموجود، أي أن يتمثَّله موجودٌ ما ويستحضره. والشَّيء يُبدي للموجود وَجهاً من وجوهه عند استحضاره. ووجه الشَّيء أو المَنفذ الذي يطلُّ منه الشَّيء لكي يستحضره الوعي منفتحٌ على الوجود. "وكلُّ تعلُّق منفتح هو وجهٌ من الوجوه. ويتنوَّع انفتاحُ الإنسان استناداً إلى نَوع الموجودات والطَّريقة التي ينكشف بها الوجه". وهكذا يظهر أنَّ الانفتاح لا يكمن في العبارة اللُّغويَّة في ذاتها، بل في انفتاح الشَّيء واستحضاره أمام الموجود الواعي.

جوهر الحرِّيَّة

إذاً فانفتاح الموجود على الشَّيء هو الأساس، لكنَّ هذا الانفتاح يعني التَّحرُّر من أيِّ قيدٍ أو إلزامٍ. وبالتالي فالحرِّيَّة تشكِّل ماهيَّة الحقيقة نفسها. ولكنْ "ألا يعني وضع ماهيَّة الحقيقة في الحرِّيَّة أن ندسَّ الحقيقة تحت رحمة الأهواء؟ وهل من تقويضٍ للحقيقة أكثر من إخضاعها إلى تعسُّفِ هذه "القصبة المتمايلة" وتحكُّمها؟" (الأعمال الأساسيّة، ص 124، نداء الحقيقة، ص 206). هنا يوضِّح هيدغر أنَّ جوهر الحرِّيَّة يكمن في كونها توفِّر إمكان تطابُق الشَّيء مع الصَّواب، لكنَّها لا تفعل ذلك إلّا استناداً إلى ماهيَّة الحقيقة بوصفها انكشافاً. وحينئذٍ يتبيَّن أنَّ الحرِّيَّة بمعناها الصَّحيح ذات طابع أُنطولوجيٍّ، ألا وهو أنَّها "ترك الموجود يوجد"، بشرط أن تُفهَمَ هذه العبارة بمعناها الإيجابيِّ، لا بمعناها السَّلبيِّ. والواضح أنَّ معناها السَّلبيَّ يعني التَّخلِّي عن الشَّيء وإسقاطه من التَّفكير، أمّا معناها الإيجابيّ فيدلُّ على الانفتاح عليه، وترك انكشافه يكشف نفسه، أي تركه يعبِّر عن "حقيقته". وهكذا تعني الحرِّيَّة التَّصدِّيَ للشَّيء وتَرْكه ينفتح ويكشف عن مُمكناته الداخليَّة أمام الموجود.

تكمن ماهيَّة الحقيقة، إذاً، في الحرِّيَّة، والحرِّيَّة هي ترك الموجود يوجد، أي ترك الشَّيء يتَّجه نحو الموجود ويكشف عن مُمكناته الداخليَّة له. وهذا الانكشاف هو بيانٌ لوجهٍ يتحرَّك. أمّا الحرِّيَّة في ذاتها فهي الانفتاح على انكشاف الموجود، بحيث يتوافق مع الموجود في كلِّيَّته. وهنا يقوم هيدغر بتحليل الكلمة الإغريقيَّة التي تدلُّ على الحقيقة، وهي (أليثيا) أو (alëthea) من حيث أصلها الاشتقاقيُّ الذي يدلُّ على "النَّفي" (a) و"ليثيا" أي الحجب، فيكون معنى "أليثيا" كشف المحجوب، أو رفع الغطاء، أو إزاحة السِّتر. "يعني ترك الموجود يوجد أن يتصدَّى المرء لانفتاح الموجود وينشغل به، وأن يكون الانفتاح، الذي يأتي به كلُّ موجودٍ معه، بارزاً فيه. وقد أدرك الفكر الغربيُّ هذا الانفتاح في بدايته ووصفه بأنَّه الانكشاف (alëthea)، أي كشف المحجوب. وإذا ترجمنا كلمة (أليثيا) بالانكشاف، لا بالحقيقة، فإنَّ هذه التَّرجمة ليست مجرَّد ترجمة حرفيَّة وحسب، بل هي تنطوي على موجِّهٍ لإعادة التَّفكير بالمفهوم الاعتياديِّ للحقيقة بمعنى صحَّة العبارات وتوافقها، وأن نعود بها إلى انكشاف الموجودات وانفتاحها" (الأعمال الأساسيّة، ص 125، نداء الحقيقة، ص 209).

لكنَّ الحقيقة من حيث هي حرِّيَّة في ترك الموجود يوجد، وإن كانت تُمارس كشف الأشياء، فهي في واقع الأمر تخفيها بالقدر نفسه، لأنَّها باستمرارٍ اختيار لمنفذٍ واحدٍ، أو وجهٍ من وجوه الشَّيء التي يتبدَّى بها ويظهر أمام الموجود. إذ لا يُمكن إدراك الوجود في كلِّيَّته. فالتَّحجُّب أو الاختفاء يمنع الحقيقة من الانكشاف ورفع الأغطية عن ذاتها. وبقدر ما تكون الحقيقة رفعاً للحجب وانكشافاً أمام الموجود، فإنَّها أيضاً مُمارَسة التَّخفِّي والاستسرار والاحتجاب وراء سرٍّ يتغلغل في الوجود الإنسانيِّ. فالحرِّيَّة التي تترك فيها الذاتُ الموجودَ يوجد هي علاقة انفتاح وانكشاف، ولكنَّها في الوقت نفسه علاقة احتجابٍ وتَوارٍ خلفَ أسرارٍ تختارها حين تنكشف بوجهٍ وتختفي بآخر.

في الحرِّيَّة يُمارِس الإنسانُ فعّاليَّةً مزدوجة في التَّداخل والانكشاف على الداخل، وفي التَّخارُج والاتِّجاه نحو الموجود الموضوعيِّ الخارجيِّ. وهكذا فهناك شيءٌ من الضَّلال والتَّخبُّط في هذا التَّوزُّع بين الانكشاف والاحتجاب. فلا توجد الحرِّيَّة إلّا من حيث كونها ماهيَّة الحقيقة للذات، أي بقدر ما تكشف عن وجودِ سرٍّ غائبٍ في انفتاح الموجود الحاضر. وفي هذا التَّداخُل بين الانكشاف والاحتجاب تكمن ماهيَّة الحقيقة: إذ "يتَّضح حينئذٍ أساس تشابك ماهيَّة الحقيقة بحقيقة الماهيَّة ويكشف عن نفسه. واقتناص السِّرِّ من الضَّلال والتَّخبُّط هو في ذاته سؤال - بمعنى أنَّه السُّؤال الفريد عن ماهيَّة الموجود في كلِّيَّته. فيفكِّر هذا التَّساؤل بسؤال وجود الموجودات، وهو السُّؤال المضلِّل في الجوهر، والذي لم يصلْ إلى معناه الكامل بعد. فالتَّفكير بالموجود، الذي ينشأ عنه هذا التَّساؤل في الأصل، كان يُفهَمُ منذ عصر أفلاطون على أنَّه الفلسفة، ثمَّ أُطلِق عليه لقب "الميتافيزيقا" (الأعمال الأساسيّة، ص 135، نداء الحقيقة، ص 222).

في لعبة تبادُل الأدوار بين الانكشاف والاحتجاب، لدى هيدغر، هناك عنصرٌ ما غائبٌ لا يكشف عن نفسه أبداً، ألا وهو أنَّ الوجود هنا لا يظهر إلّا بوصفه "نوراً"، وأنَّ التَّطلُّع إلى الحقيقة لا يُمكن أن يكون سوى التَّطلُّع إلى "شمس" غائبة في مكانٍ ما. لكنَّ "الشَّمس" إذا كانت غائبةً عن تناول هيدغر في هذا الطَّور من البحث عن "الحقيقة"، فإنَّها تُعاوِد الإطلال والسُّطوع بطريقةٍ أخرى في كتابه عن "ماهيَّة الحقيقة عند أفلاطون". وحينئذٍ يتَّضح أنَّ "الشَّمس" الغائبة هي نفسها "الشَّمس" التي أشار إليها أفلاطون عند حديثه عن العقل في مُحاورة "الجمهوريَّة".

ويسلك هيدغر المسلك نفسه حين يُحلِّل "أمثولة الكهف" لدى أفلاطون. ومنذ مدخل تحليلِهِ يشير إلى أنَّ لدى كلِّ مفكِّر ما لم يقُلْهُ في تحليله، بل هو مرَّرَهُ تمريراً، وهو في حالة أفلاطون مفهومه عن "ماهيَّة الحقيقة"، كما عرضه في "أمثولة الكهف" في الكتاب السّابع من محاورة "الجمهوريَّة". ولمّا كنّا قد تناولنا سابقاً في أبحاثنا هذه الأمثولةَ بالتَّحليل تفصيلاً وإيجازاً، فسنكتفي في هذا الموضع ببيان موقفِ هيدغر في شرحِهِ لهذه الأمثولة.

في رأي هيدغر، تتحرَّك أمثولة الكهف عند أفلاطون على مستوياتٍ متعدِّدة، لكنَّ جوهرها يقوم على كونها انكشافاً للموجود، أي هي الحقيقة الخالصة بكامل حضورها وتجلِّيها، لأنَّ كلَّ مستوى من مستويات الأمثولة يقابلُهُ مظهرٌ من مظاهر الموجود. وقد قلنا وكرَّرنا القول إنَّ الأمثولة تتحدَّث دائماً عن عالمين متوازيين، تصريحاً عن أحدهما، وتلميحاً عن الآخر. يقول هيدغر: "مهما يكن الأمر، فإنَّ هذه الأمثولة (في الترجمة العربيّة: الرمز، والصحيح: الأمثولة. وقد أجرينا بعض التعديل في سياق العبارة) لم تكن لتقومَ على صورة الكهف إلّا لأنَّ التَّجربة الأساسيَّة التي كانت بديهيَّة عند اليونان، ألا وهي تجربة الأليثيا، أو لا تحجُّب الموجود، قد عملتْ من قَبل على تحديد طبيعته، إذ ماذا عسى أن يكون الكهف العميق في باطن الأرض إن لم يكُن شيئاً مفتوحاً وتحوطُهُ الجدرانُ من كلِّ جانبٍ، فتعزله عن الأرض، على الرَّغم من فتحة المدخل الذي يؤدِّي إليه؟ إنَّ انغلاق الكهف المفتوح في ذاته، وما يتسبَّب في تغيير وضعِهِ، ومن ثمَّ في حجبِهِ، إنَّما تشير كلُّها في الوقت نفسه إلى ما يقع خارجه، أي إلى اللّامحتجب الذي ينفسح في ضوء النَّهار، وإنَّ ماهيَّة الحقيقة التي فكَّر فيها اليونان في الأصل بمعنى الأليثيا، أي اللّاتحجُّب المُرتبط بالمُتحجِّب (المتنكِّر والمقنَّع)، هذه الحقيقة وحدها ترتبط ارتباطاً أساسيّاً بصورة الكهف القائم تحت الأرض بعيداً عن ضوء النَّهار" (نداء الحقيقة، ص 245).

تروي أمثولة الكهف لدى أفلاطون، في الجزء الأخير منها، قصَّةَ خروج الإنسان من الكهف، والتَّحرُّر الكامل من ظلمته. والتَّحرُّر الأصيل، كما يقول هيدغر، "ليس انعتاقاً من الأغلال في الكهف وحسب، بل هو خروجٌ من الكهف إلى ضوء النَّهار، أي في النِّهاية إلى الشَّمس، بعيداً تماماً عن أضواء الكهف المُصطَنعة"(Martin Heidegger, The Essence of Truth, p. 31.). وبالطَّبع فالشَّمس هي التي تُظهِر وتُخفي، وتكشف وتكسف، وتُنير وتُعتِّم.

في النُّور والسُّطوع

سبق لديريدا الإفصاح عن أنَّ مع كلِّ استعارة لا بدَّ من وجود "شمسٍ" في مكانٍ ما. ونحن لا نأخذ هذا التَّعبير بهذا الاتِّساع، بل نحصر ذلك باستعارات الأنوار وحسب. وإذا ما تساءلنا عن موقع الشَّمس في نصوص أفلاطون وهيدغر، رأينا أنَّ الاستعارة الشَّمسيَّة هي التي تتخلَّل هذه الرُّؤية بأسرها، لأنَّ ماهيَّة السُّطوع تكمن في الشَّفافيّة. ويميِّز هيدغر بين الحامل والمحمول في النُّور. فالنُّور ليس ما يُضاء به، مثل الضَّوء والنار والوهج، بل هو الإضاءة نفسها، والسُّطوع نفسه. يقول هيدغر: "مع النُّور والسُّطوع نعود مجدَّداً إلى منطقة الرُّؤية، إلى منطقة المنظور والمرئيِّ. ما يُنظَر من خلال الإحساس البصريِّ هو الألوان، واللَّمعان، والسُّطوع، والظُّلمة. ولكن ما السُّطوع، وما النُّور، وما الظُّلمة؟ بالتَّأكيد ليس شيئاً، ولا امتلاكاً لأيِّ نَوعٍ من الأشياء. فالسُّطوع والنُّور لا يُمكن إمساكه باليدَيْن؛ بل هو شيء معنويٌّ، فكريٌّ، يكاد يكون مثل العدم والفراغ" (Ibid, p. 39).

النُّور في حقيقته عند هيدغر هو الحرِّيَّة ذاتها، ولهذا فحين يتساءل عن علاقة النُّور بالحرِّيَّة، يتساءل أيضاً: هل يجعل النُّور التَّحرُّر أكثر حرِّيَّةً؟ ويخلص إلى القول: "النُّور يُضيء، ويبسط نفسه في الخارج كسطوعٍ. بل نقول بدقَّة أكبر إنَّ النُّور يُنوِّر. (فتشتعل اللَّيلة بالأضواء) شيلر. يُضاء اللَّيل، ويَستنير؛ فماذا يعني ذلك؟ تشتعل الظُّلمة. ونحن نتكلَّم عن (سطوع غابة)؛ وهذا يعني مكاناً متحرِّراً من الأشجار، يُتيح الوصول الحرَّ للمضيِّ من خلاله والنَّظر من خلاله. وهكذا تعني الإنارة التَّحرُّر والتَّحرير. يُنير النُّور، ويُحرِّر، ويُتيح مجالاً للنَّفاذ من خلاله. تسدُّ الظُّلمة الطَّريق، ولا تسمح للأشياء بأن تكشف عن نفسها، فتُخفيها. ويعني أن تشتعل الظُّلمة أنَّها تمضي نحو النُّور، فتصير الظُّلمة ممّا يحرِّر" (Ibid, p. 44).

مع استعارات الأنوار في نصوص هيدغر، حالما يحضر النُّور تحضر الذّات المتحرِّرة من الأغلال والأعباء، الذّات الطَّليقة من قيود الوجود المحدود. وهنا لا بدَّ أن ننتبه إلى أنَّ نصوص استعارات الأنوار عند هيدغر تُقارِن الذّات نفسها بالنُّور، ثمَّ تترك الذّات، لتتحدَّث عن حرِّيَّة الأنوار، وسطوعِ عوالمها. وبعد أن تحقِّق هذه الوظيفة تزعم أنَّ هذه العوالِم هي من نِتاج الذّات، لأنَّ الذّات والنُّور هُما من طينة الوجود المُتحرِّر.

وفي واقع الأمر، فإنَّ مشروع هيدغر في استثمار استعارات الأنوار يمضي أبعد بكثيرٍ من مشروع أفلاطون والأفلاطونيَّة. فهو يجنِّد ليس أفلاطون وهيراقليطس وغيرهما فقط في مشروعِهِ عن استكشاف استعارات الأنوار من أجل هدفٍ آخر يسمو على بيان آليّات تاريخ الفلسفة. فهو يريد العثور على لغة فلسفيَّة جديدة تناسب تجديد بناء الميتافيزيقا. فلم يكُن هيدغر ليهتمَّ بتاريخ الفلسفة فلسفيّاً من أجل تعليمِهِ أو توضيحِهِ للأجيال التالية، فهذا أمرٌ يستطيع أن يقوم به معلِّمون وأساتذة من مختلف المُستويات. بل كان يهتمُّ بتاريخ الفلسفة لكي يدشِّن فيه أخطر مشروعٍ في فلسفة الوجود بعد هيغل. وكما قال غادامر: "إذا كان هيغل قد حاول أن يَنفذ إلى تاريخ الفلسفة فلسفيّاً من منطلق المعرفة المُطلَقة، أي أن يرتفع بها حتّى تصيرَ علماً، فإنَّ وصف هيدغر لتاريخ الوجود (ولاسيَّما تاريخ تناسي الموجود الذي دخل فيه التاريخ الأوروبيِّ في القرن التالي لهيغل) كان ينطوي على دعوى شاملة مُشابِهة. والحقيقة أنَّه لا توجد لدى هيدغر ضرورة لوجود تطوُّرٍ تاريخيٍّ يكون مجداً ولعنةً للفلسفة الهيغليَّة معاً. بل إنَّ التاريخ الذي يُمكن تذكُّره واصطحابُهُ إلى الحاضر المُطلَق في التَّعرُّف المطلق لدى هيدغر هو على وجه التَّحديد علامة المضيِّ في تناسي الوجود الذي ميَّز تاريخ أوروبا في القرن التالي بعد هيغل. ولكن كان القدر لدى هيدغر، وليس التاريخ (الذي يتذكَّره الفهم وينفذ إليه)، هو الذي تأصَّل في تصوُّر الوجود في الميتافيزيقا الإغريقيَّة وفي تصوُّر العِلم الحديث والتكنولوجيا هو الذي يحمل تناسي الوجود إلى نهايته القصوى" (Hans - Georg Gadamer, Philosophical Hermeneutics, p.231).

فلكي يُجدِّد هيدغر فلسفة الوجود، ويعود بها إلى عصر براءة الفكر الإغريقيِّ عند هيراقليطس وأفلاطون وأضرابهما، فقد كان عليه أن يُعيد النَّظر في اللُّغة التي تمَّ بها بناء صرح الميتافيزيقا. فقد دَرَجَ الفكرُ الأوروبيُّ على الابتعاد عن لغة الميتافيزيقا وآليّاتها المُتمثِّلة في استعاراتِ الأنوار، التي اعتنقها أوائل الفلاسفة، وصار يميل إلى نَوعٍ من المعرفة التَّأمُّليَّة، القائمة على الاستعارات المعماريَّة، ولاسيَّما عند هيغل، لبناء نسقه الفلسفيِّ، وهي معرفة تُعنى بتشقيق الأفكار لبناء الصُّروح الفلسفيَّة باستعمال الاستعارات المعماريَّة، بمعزلٍ عن الانغمار في الوجود. أَدرك هيدغر أنَّ ما قام به أفلاطون بالتَّحديد هو بناء قلعة الميتافيزيقا من خلال استعارات الأنوار، والمُداخَلة بينها وبين الاستعارات المعماريَّة لإنجاز بناء هذه القلعة. وهكذا شعر بضرورة التَّخلُّص من الفكر التَّأمُّليِّ واستعاراته المعماريَّة، للتَّركيز على استعارات الأنوار التي أنجزها هؤلاء المفكِّرون وهُم يرتقون ببناء صرح الميتافيزيقا الغربيَّة.

كان هيدغر يريد التَّخلُّص من بلاغة الخيال الشَّرقيِّ في التَّفكير، ومن لغة التَّأمُّل التي وَجَدَ الفكرُ الغربيُّ بعد هيغل نفسَهُ يتخبَّط فيها. وكما عبَّر غادامر: "تكمن الصُّعوبة المتواصلة في تجنُّب لغة الميتافيزيقا، التي تدرك جميع هذه القضايا من خلال قوَّة التَّأمُّل. ولكن ما الذي نعنيه حين نتحدَّث عن لغة الميتافيزيقا؟ من الواضح أنَّ تجربة الماهيَّة ليست تجربةً للتَّلاعُب بالأفكار. وإذا ما وَضَعْنا هذا التَّمييز نصب أعيُننا، فسوف نتمكَّن من رؤية أنَّ لمفهوم التَّذكُّر علاقة طبيعيَّة به. صحيح أنَّ التَّذكُّر نفسه شيء وأنَّ للتاريخ واقعيَّته، وليس كون التاريخ يجري تذكُّرُهُ من خلاله فقط. لكن ما الذي يحدث في التَّذكُّر؟" (Ibid, p. 237). يرى غادامر أنَّ في التَّذكُّر شيئاً يستطيع أن يخترق حجب الزَّمن للوصول إلى اللَّحظة الحاضرة، و"أنَّ لغة الميتافيزيقا وحدها هي التي تحقِّق هذا المضيَّ المستمرَّ إلى لغة وجودنا - في - العالَم". ويمضي أبعد من ذلك في المركزيَّة الغربيَّة للقول: "بالتَّأكيد هي لغة الميتافيزيقا، ولكن يكمن وراءها أيضاً لغة الشُّعوب الهندو - جرمانيَّة، التي تجعل مثل هذا التَّفكير أمراً ممكناً" (Ibid, p.239).

*ناقد من العراق - مؤسسة الفكر العربي