كيف يُسهِمُ إرثُ الماضي في تَنمية المستقبل؟

news image

عمر الراجي*


التنمية التي لا تستهدفُ العنصرَ البشريَّ أساساً، أو التنمية التي تفصل بين هذا العنصر وبين محيطه، أصبحت فعليّاً في حُكم الأمر المُتجاوَز، حاضراً ومستقبلاً. يمثِّل هذا التحوُّل المفاهيميّ للتنمية في الحقيقة، تجاوزاً لتلك الرؤية التقليديّة التي تقتصر في فهمها لحركيّةِ النموّ الاقتصاديّ داخلَ بلدٍ ما على العناصر الماديّة المُستحدَثة، أو تلكَ التي يتمُّ إنتاجها بهدفٍ نفعيّ قصيرِ الأمد، من دون النظّر إلى البُعد الاستشرافيّ في سؤال التنمية الشاملة، والذي يستهدف المدى البعيد في إطارٍ نظريّ يفضِّل البنيويّة على الظرفيّة.

لعلّ الجانب المُرتبط بثقافة الإنسان قد أصبح حاضراً وبقوّة في فلسفة التنمية البشريّة المُعاصِرة؛ إذ لا يُمكن تطوير أداء العنصر البشري، وهو محورُ العمليّة الإنتاجيّة ومحرّكُها الأساس، من دون فهمٍ عميقٍ لسيكولوجيّته الخاصّة بكلّ ما تحمله في بنيتها من عناصرَ ثقافيّة وروحيّة واجتماعيّة وتاريخيّة مترابطة؛ تلك العناصر التي تصبُّ كلُّها في اتّجاهِ الإرث المعرفي والثقافي والنفسي الذي يحملهُ الإنسان ويطوّرهُ عبر مجموعةٍ من التراكمات التي تواكبُ مراحلَ عيشهِ داخل المنظومة الاجتماعيّة التي ينتمي إليها. وفي هذا السياق كان موقف "اليونيسكو" في "اتّفاقيّة حماية وإنعاش التنوُّع في التعبيرات الثقافيّة"، الذي تمّ توقيعه في باريس في العام 2005، منسجماً جدّاً مع هذا التصوُّر الجديد للتنمية، حين أكَّد بوضوح أنّ "الثقافة هي مَن تُغذّي القدرات والقيَم الإنسانيّة، وهي بالتالي تُعتبرُ المحرِّك الجوهري لفعل التنمية المستدامة داخل الجماعات والشعوب والأُمم".

أصبح التراث الحضاري إذن، وبالمنظور الاقتصادي المعاصر، سلعةً عالميّة مشتركة، يُديرها البلدُ الذي يحتضن عناصر هذا التراث، وتُلقى على عاتقه في المقابلِ مسؤوليّة صَوْنه وتطوير وسائل الارتقاء به، كما يحقُّ له بالطبع أن يَستثمر فيه على نحوٍ يجعل منه رافداً أساسيّاً من روافد التنمية المستدامة. ووفْقَ هذا المنطق بالذّات، كان لمجموعةٍ من الدول الصاعدة قصبُ السّبق في مشروع التنمية الثقافيّة بالاعتماد على العنصر التراثي كمحفّزٍ لأداء الاقتصاد. وفي واقع الأمر لم يكُن القطاع السياحي وحده الذي استفاد من نتائج هذا المشروع الطموح، بل انعكست آثاره على بنية الاقتصاد ككلّ. فعلاوة على الارتفاع الكبير الذي شهدتهُ عائداتُ السياحة الثقافيّة في بلدَيْن كالصين والهند مثلاً، فقد امتدّت تلك الانعكاسات الإيجابيّة لتشمل جوانبَ أخرى متّصلة بالفعل التنموي كالبنية التحتيّة ومستوى الخدمات العموميّة، فضلاً عن ارتفاع عائدات الضرائب، بفعل تحسُّن قدرات الاستقبال وإعادة تهيئة المناطق الأثريّة والأحياء القديمة في كبريات المُدن. ولَئِنْ كانَ الغرضُ الأساسي من وراء ذلك، هو رفع عدد السيّاح الوافدين إليهما، فقد خَلَقَ في المقابل ديناميّةً حقيقيّة على مستوى سوق العمل الذي انتعش بفعل ارتفاع الطلب على مجمل الخدمات والسلع المعروضة في هذه المناطق؛ هذا فضلاً عن الارتفاع الملحوظ لقيمة العقار وتحسُّن إيرادات الضرائب، وهو ما مكَّن الدولة من تمويل حصصٍ أكبر من الخدمات العموميّة داخل هذه الأحياء. كما أنّ مؤشّر الجاذبيّة هو الآخر قد استفاد من تبعات هذه الدائرة التنمويّة عبر استقطاب القطاع الخاصّ الذي ضخَّ قسماً من رؤوسِ أموالهِ المَرِنَة داخل هذه السوق السياحيّة الجديدة، مُعزِّزاً بذلك من جودة مناخ الأعمال؛ وهي نقطة من شأنها أن تُسهم في جلبِ عددٍ أكبر من الاستثمارات الخارجيّة مُستقبلاً، من دون أن ننسى أَثَرَ هذه الصيرورة الاقتصاديّة النشيطة على مؤشّرات التنمية البشريّة داخل بلدان توصف اقتصاداتها بأنّها صاعدة.

تصبّ هذه المعطيات بشكلٍ مباشر في مصلحة النموّ الاقتصادي الذي يتضاعف مع انتعاش العرض والطلب دفعة واحدة. لكنّ الأهمّ هو أنّ هذا المسار الذي يسلكه الاقتصاد وفق مُعادلات التوازن الإجمالي يُعزِّز، على المَدَيَيْن المتوسّط والبعيد، من قدرته على خلق الاستدامة والديناميّة في النموّ.

التنمية "حريّة"

بالرجوع إلى توصيات البنك الدولي في هذا الاتّجاه، نجد أنّ مجمل تقاريره المُدرجة من ضمن خطّة حماية التراث الإنساني في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، قد أكَّدت بالفعل على الدور الحيويّ الذي ينبغي أن يضْطلع به المجتمع المدني عبر خلق مجموعاتٍ ضاغطة تمارس حقّها الترافعي أمام صنّاع السياسات العموميّة في البلدان النامية؛ بحيث ينبغي أن يتمّ ذلك على نحوٍ يجعل هذه الدول، في مخطّطها لحماية التراث الثقافي، قادرةً على المزاوَجة بين مشروع التأهيل الحضري وتلبية حاجات السكّان في المناطق العتيقة من جهة، وتعزيز السياحة الثقافيّة وتجويد أثرها على المستوى العامّ للاقتصاد من جهة أخرى. يتعلّق الأمر إجمالاً بخطّةٍ استراتيجيّة، ثنائيّة العمل، تجمع بين الاقتصادي والاجتماعي بكيفيّةٍ مُتوازنة ومُتزامنة.

إنّ التنمية "حريّة" كما يقول عالِم الاقتصاد الهندي الكبير "أمارتيا صن"، وهي من هذا المنظور تعبير حرٌّ عن قدراتِ الإنسان الإيجابيّة وتماهٍ مع حُبّه للعطاء والإنتاج والإبداع. ومن تجليّات الحريّة في البناء التنموي المعاصر أن يكون الإنسان حُرّاً في اختيار النسق الثقافي الذي يعيش فيه، وحُرّاً في بناء شخصيّته المبدعة، انسجاماً مع ما يحمله من إرثٍ حضاري يعيشه وينتمي إليه بكلّ حريّة. ولَئِنْ كان أمارتيا صن منحازاً في كتابه "التنمية حريّة" لفكرةٍ مفادها أنّ الإنسان بطبعه يفضّل خلق الثروة والرّفاه على حفْظ التقاليد وصَوْنها، بخاصّة إذا كانت هذه الأخيرة عنصراً معيقاً لحركيّة الإنتاج؛ غير أنّه في المقابل شدّد، وبقوّة، على دور الحتميّة الثقافيّة في البناء التنموي الشامل، ولاسيّما حينما تكون هذه الحتميّة على وفاقٍ مع عناصر أخرى محوريّة كالعِلم والتكوين والديموقراطيّة وسيادة القانون، فالسؤال اليوم ليس عن وجود تأثير للإرث الثقافي على التنمية، بل عن طبيعة هذا التأثير ودرجته.

بات واضحاً وربّما بديهيّاً اليوم، أنّ الانتماء الثقافي في جوهره، لا يُمكن أن يستقيم من دون استحضار عنصر التراث. كما أنّه لا يُمكن فهْم فلسفة التنمية بمعزلٍ عن سيكولوجيّة العنصر البشري الذي يصنعها، وعن مجمل الحمولة الثقافيّة التي تعبّر عنه بالضرورة. لقد أكَّد ذلك عالِم المستقبليّات المغربيّ الشهير المهدي المنجرّة في كتابه "قيمةُ القيَم" مشدِّداً فيه على أنّ النظرة المستقبليّة للتنمية رهينةٌ بتلك الطّاقة المتجدّدة التي تتمثّل أساساً في القيَم الثقافيّة؛ فهذه القيَم، بحسب المنجرّة، هي التي تمنحنا القدرة على التجدُّد والتكيُّف وتحفِّزنا كذلك على مواصلة الإنتاج، على الرّغم من معيقات التحوّل الزمني للواقع والعالَم؛ فالحروب والكوارث والمجاعات، على جسارة أخطارها وفداحة ما تركته من خسائر، ليست هي التي تُهدِّد مستقبل التنمية داخل البلدان النامية، بل فقدان الشعور بالانتماء، وخطر الاقتلاع الثقافي، هو الذي يجعل الإنسان فاقداً لأيّ شعور بالجدوى إزاءَ العمل والرّغبة في العطاء.

يُمكن القول إجمالاً إنّ البلدان العربيّة، بما تُمثِّل من ثراءٍ تاريخي يجسّده احتضانها لجزءٍ كبير من التراث العالَمي المادّي وغير المادّي، تُعتبر اليوم أرضاً خصبة للاستثمار الثقافي الواعد ذي الأبعاد المتناظرة اجتماعيّاً واقتصاديّاً وإبداعيّاً. يصبح هذا المسعى الطموح مَكسباً واقعيّاً إذا توفَّر شرطُ الاستجابة المؤسّساتيّة ودعّمه المستوى الأدائي الذي يتمثّل أوّلاً في الحوكمة الثقافيّة إداريّاً، وكذلك على مستوى المحتوى المقدَّم أيضاً.

الأمر لا يقتصر من هذا المنظور على إيجاد المزيد من الفُرص للقيام بأنشطة موسميّة وتظاهرات تكتفي بجلب الجمهور وزيادة المتابعة في الوسائط الرقميّة، بل لا بدّ من خطّة بنيويّة تجعل الثقافة مصدراً رئيساً من مصادر التنمية، بحيث يكون هدفها الاستثمار في الثابت الرمزي، والمكوّنات الثقافيّة اللّاماديّة والماديّة على نحوٍ يخلق القيمة المضافة المباشرة، وينعكس، في المقابل، على الداخل الاجتماعي، من ضمن صيرورةٍ متكاملة تولِّد النموَّ بأُفقه المُتوازن، والمُستدام والشامل.

*شاعر وباحث اقتصادي من المغرب - مؤسسة الفكر العربي