الترجمة نقل ثقافة تفتقدها الثقافة الأخرى

news image

حنّا عبّود*

كان ما كان في قديم الزمان أنّ الآلهة الإغريقيّة عقدت اجتماعاً في جبل الأوليمب، مقرّها الخالد، ناقشت فيه مسألة الأخطاء التي يرتكبها الأربابُ بحقِّ غيرهم من الأحياء وبحقّ الطبيعة، بل قد يخطئ بعضهم ضدّ بعضهم الآخر، وانتهى الاجتماع بأن كَرّسوا ربّاً للنقد سمّوه موموس Momus (ولقبّوه ربّ الملامة أو الربّ الغيور أو الربّ المتيقّظ The god of jealousy) يتقصّى الأخطاء ويشير إليها، حتّى لا يقع مُقترفُها ثانيةً فيها.

وراحَ ربُّ النقد بلسانه السليط يكشف أخطاءَ الآلهة بحقِّ غيرهم، سواء في الأقوال أم الأفعال. وبسبب الحشريّة التي يتمتّع بها النقد، فقد طال لسانُه ربّةَ الجمال فينوس، التي تحظى بإجماعِ الآلهة، فاستاءت منه كلّ الاستياء، وطلبت من الآلهة كفّ لسانه، حتّى لا يتطاول على الأرباب، فكان جواب الآلهة أنّهم لا يستطيعون التراجُع عن الهبة التي أجمعوا عليها، ولكنّهم يمكن أن يحجِّموا مهمّته. فعادت فينوس وطلبت تحديد المهمّة الموكلة إليه، فأجمع الآلهة على أن تتحدّد مهمّته في اللّغة والشعر والغناء والموسيقى والأدب والفنّ والمعرفة والثقافة... بمعنى أن يقتصر لسانه السليط على الإنتاج وليس على المُنتِج، وقد وضعوا له شرطاً أساسيّاً يجب ألّا يحيد عنه، وهو أن يكون الهدف من نقده توخّي الجمال، فكلّ ما ينقده يجب أن يوجّهه ليكون جميلاً مثل فينوس. وهنا قبلت فينوس وأرضت غرورها. ولمَ لا تقبل وكلّ ما في الوجود ينزع إلى أن يكون، بل يجب أن يكون مثل فينوس في الجمال إشراقاً ووضوحاً؟!

تؤكّد هذه القصّة الميثولوجيّة أنّه لا يوجد نشاطٌ بشري يتعلّق بالفنّ والأدب والنطق والغناء والثقافة، إلّا رافقه هذا الربّ العنيد، الواقف بالمرصاد، أو مَن يقوم مقامه من البشر. إنّ النقد خطوة أولى ضروريّة، لا بدّ أن يقوم بها المُترجِم، قبل أن يقوم بها موموس.

لكنّ المشكلة أنّ أتباع موموس من البشر، لم يكونوا مُشابهين له في النزاهة، وتوخّي الجمال في كلّ ما يخضع للنقد، فصار النقّاد أنفسهم بحاجةٍ إلى موموس جديد يكون عليهم رقيباً!

الخادمة المخدومة

اللّغة أداة خطيرة جدّاً. وهي مثل أيّ أداة أخرى، مثل أيّ "عبد" من "العبيد" الإلكترونيّة، مهما كانت الفروق كبيرة التي نستخدمها، ونستريح لما تقوم به، ولكن مع الزمن نجد أنّنا صرنا خدماً لما نخدم، كالغسّالة الكهربائيّة التي تريحنا، ما دمنا نخدمها، ولكنّها تصبح عبئاً حين نتوانى عن خدمتها. وليست اللّغة بمنأىً عن هذه القاعدة، فحالما تتوقّف الخدمة ينتهي المخدوم والخادم معاً. حين خُدمت اللّغة اللّاتينيّة - ويا لها من خدمة كبيرة وشاقّة - زَهت وانتشرت، بل اعتُبرت اللّغةَ المقدّسةَ التي يتحدّث بها أهلُ الجنّة، ولا تجوز صلاةٌ لمسيحيّ إلّا باللّغة اللّاتينيّة، بل حُظِّرت ترجمة الكتاب المقدَّس، لتبقى اللّاتينيّة مُستأثِرةً بهذا الدّين، ولهذا اعتُبرت ترجمة الكتاب المقدّس على يد لوثر، انشقاقاً وثورة اجتاحت العالَم بأسره. ومع أنّ الأُمم المتّحدة اعتمدت اللّاتينيّة بسبب دقّتها لتوثيق الاتّفاقات الدوليّة، إلّا أنّ الخادمة التي باتت غير مخدومة أُحيلت إلى التقاعد، وانسحبت من التداول.

ولا شكّ أنّ الترجمة من اللّغات الأخرى من أهمّ عوامل نماء اللّغة وازدهارها ومواكبتها الاتّجاهات المُستحدَثة والعالَميّة... فتتقوّى ويطول عمرها دهوراً.

هذا شأن كلّ اللّغات، فاليونانيّة مكثت في الشرق مئات السنين، فلمّا خفّت خدمتها خفَّ استخدامُها، ولمّا توقّفت خدمتُها انسحبت من التداول، مثل كلّ اللّغات التي لاقت هذا المصير. وبظهور النّزعات القوميّة والمحليّة، باتت اللّغة عنصراً من عناصر وجود هذا الشعب أو تلك الفئة، حتّى أنّ بعض الأقليّات في بلاد الشام ترجع لغتها إلى آلاف السنين، كما أكّد ذلك جيرارد راسل في كتابٍ حديث له بعنوان "وَرثة المَمالك المنسيَّة" من إصدار مؤسّسة هنداوي.

وأخطر ما في العلاقة بين الخادم والمخدوم، توهُّمُ الخادم أنّ المخدوم خاضع دائماً لأوامره. وإغراقاً في الوهْم، يظنّ الإنسان أنّه سيّد اللّغة، في حين تتحكّم به منذ ولادته وحتّى شيخوخته، تماماً كما يظنّ أنّ أعضاءه من قلب ورئتَيْن وكبدٍ وأمعاء وبنكرياس تقوم على خدمته، في حين أنّ أيّ تقصير في خدمتها تقضي عليه. ولو ظنّ أنّه ليس أكثر من هيكلٍ تستغلّه هذه الحشويّات لمصلحتها هي لتغيَّرت أمورُ العلاقة. وخير دليل على ذلك ما مرّ على البشريّة من مراحل كان للّغة الدور الأوّل في التكوين، كمرحلة القبليّة والعشائريّة والقوميّة... بحيث يصبح وجود اللّغة يعني وجود البشر المنتمين إليها.

ردم الهوّة

الخطوة الثانية في الترجمة إلى العربيّة لا تقلّ عن الخطوة الأولى التي تحدّثنا عنها. لماذا أنت تُترجِم؟ أليس لحاجةٍ يُمكن أن نقول عنها إنّها ضرورة؟ بلى وإلّا فإنّ الترجمة تكون عملاً عبثيّاً. وقد لاحظْنا أنّ العرب في العصر العبّاسي ترجموا تحت حُكم الضرورة والحاجة. كان القصر يعتقد أنّه بحاجة إلى شيئَيْن: صحّة الحاكم، وسلامة الدولة، فتُرجمت كُتبُ الطبّ وكُتبُ التّنجيم؛ الأولى لسلامة الحاكم، والثانية لمعرفة ما يترصّد الدولة من مخاطِرَ يُعمل على تجنّبها. وهذا ما يفسِّر لنا لماذا كَثرت ترجمات الكُتب الطبيّة وكُتب الأبراج السماويّة، في العصر الذي بلغت فيه اللّغة العربيّة ذروة ازدهارها، وقام على خدمتها أعلامٌ ما يزال تأثيرهم في توجيه اللّغة حتّى هذه الأيّام. إنّ الحاجة إلى ثقافةٍ مفقودة دَفعت المُترجمين إلى انتقاء الكُتب التي تفي بهذه الحاجة. وكانت القصور، قصور الخلفاء والأمراء والأعيان، تعجّ بالأطبّاء والمنجّمين من كلّ الأجناس والقوميّات. وكانت كُتب الطبّ والتّنجيم هي الأشيع، وهي الثقافة الأولى المطلوبة، التي لا تعلوها ثقافة. ولنضرب مثالاً من حُنين بن إسحق، فقد كان شاعراً ولغويّاً وطبيباً، ويجيد اليونانيّة والسريانيّة والعربيّة والفارسيّة، ويشرف على مجموعة من المُترجِمين، في ديوان المأمون.

عندما وَجَدَ المأمون أنّ هناك حاجة إلى الكُتب الفكريّة والفلسفيّة في وسطٍ كان يعجّ بالمُجادلات الدينيّة والمذهبيّة، ادّعى أنّه أبصر حُلماً يدعوه فيه أرسطو إلى أن يُترجِم كُتبه، وأشاع هذا الحلم وأرسل البعثات لتأتيه بكتُب أرسطو وغير أرسطو. ومنذ ذلك الوقت بدأت هوّةُ الثقافة تضيق بين العربيّة واليونانيّة، وإن قصّر المُترجمون في نقل الآثار الأدبيّة اليونانيّة، لأسبابٍ عدّة، أهمّها الغرور العربي بأنّ أدبهم خيرُ الآداب. ومع ذلك، فإنّ العرب هُم مَن أطلقوا على أرسطو لقب "المعلّم الأوّل" مع تقديرهم الكبير لأستاذه أفلاطون. وعلى هدى ترجماتهم سِرْنا، وإلّا كنّا اليوم نقول "أرستو" و "بلاتو" بدلاً من أرسطو وأفلاطون... وكذلك بقيّة المصطلحات التي ورثناها من ترجماتهم. وعلى الرّغم من اتّهام العرب بالتعصّب لدينهم ولغتهم، نرى أنّهم الشعب الأوّل الذي تفاعل مع الثقافة اليونانيّة، وهو، وليس غيره، من قدَّر هذه الثقافة حقّ قدرها، وأطلق لقب "المعلّم الأوّل".

وأذكر من تجاربي الأولى في الترجمة، أنّ صديقنا د. فؤاد أيّوب انتقدَ ترجمتي لكِتاب "بؤس الفلسفة"، وبعدما أصلَحها، وبَذَلَ جهداً في ذلك، أرشدني إلى أنّ الترجمة ليست نقل لغة إلى لغة، بل نقل ثقافة تفتقدها الثقافة الأخرى، فعليكَ أن تقرأ مصادرَ الموضوع الذي أنتَ مُقدِمٌ عليه ومَراجِعَه، أن تسبح في بركته قبل أن تنقله. هناك أجواء كثيرة، فالنقل ليس حرفيّاً، وإلّا لكانت المعاجم خير المُترجمين. إذا كان هذا من شروط المُترجِم، فكم يا ترى من البرك الثقافيّة التي يجب أن يسبح فيها موموس حتّى يحظى بملكة النقد لهذه الأنواع الهائلة من الموضوعات؟

القيد الأسلوبيّ

من جملة القيود التي تُكبّل المُترجمين ما يُمكن أن نسمّيه القيد الأسلوبي، ونعني شيوع أسلوب لا ينسجم مع الترجمة السلسلة التي يرغب القارئ فيها. ففي أواخر العصور الوسطى ساد أسلوب السجع، فتُرجمت الكُتب الأجنبيّة ولاقت قبولاً عند أهل ذلك الزمان، ولكّنها نُبذت في ما بعد. وهذا ما يُطلق عليه "روح العصر"؛ فترجمات الطهطاوي، ومَن عاصَرَهُ، تسير على هذا الأسلوب، ولم تعُد صالحة لروح العصور العربيّة التالية، حتّى لو كانت من أدقّ الترجمات. ولكلّ قاعدة استثناء؛ ففي العصر الحديث، ليس من الغريب أن نجد مَن يحبّ هذا القيد، من أمثال الأديب والمُترجِم والمثقّف المهجري نظير زيتون، وعندما عاد إلى الوطن في بداية خمسينيّات القرن العشرين، سألته عن ذلك، أجاب: "حرصاً على كنوز اللّغة العربيّة العظيمة، وإظهاراً لقدرتها الفائقة، التي لا تُجاريها في ذلك أيّ لغة في العالَم". ولمّا سألته عن هذه القدرة، أجاب بأنّها اللّغة الوحيدة التي تسجِّع بنفسٍ من أطول الأنفاس. والواقع أنّ أسلوب السجع لم يظهر لديه إلّا بعدما عاد من المهجر.

ولو نظرنا في العالَم الجديد، للاحظْنا أنّ العربيّة وحدها صنعت ما نسمّيه "أدب المهجر". جاليات كثيرة لا حصر لها ذهبت إلى العالَم الجديد، ولكنّ العربيّة وحدها استطاعت أن تُنشئ أدب المهجر، الأدب المتفرّد بين آداب العالَم كلّها. خدم المهجريّون لغتهم فخدمتهم وخلّدتهم.

في العصر الحديث

على الرّغم ممّا يبدو لنا سَيلاً جارفاً من الترجمة إلى العربيّة، إلّا أنّنا في الواقع مقصّرون جدّاً، فإسبانيا وحدها تترجم إلى لغتها أضعاف ما يترجمه العالَم العربي كلّه. ومن كبار المُترجمين القدوة في العصر الحديث طه حسين وأحمد لطفي السيّد وفخري أبو السعود، وكثير من أمثالهم، وتظلّ القاعدة الذهبيّة التي وضعها عميد أدبنا صالحة، بل الأصلح، وهي أنّ الترجمة ثقافة، وعلى المُترجِم أن يكون على علمٍ بثقافة اللّغة التي ينقل منها، وليس باللّغة الصرف فقط؛ لا بدّ أن يغوص في مناجمها الثقافيّة، حتّى يتمكّن من تقديم ترجمة تعكس الجوّ الحقيقي للنصّ الأصلي. ولمّا ظهرت على الشبكة العنكبوتيّة مواقع عدّة للترجمة كميكروسوفت وغوغل وسواهما، صار المطلوب من المُترجم أن يكون أشدّ حذراً، فمهما بلغت المقدرة اللّغويّة لهذه المواقع، فإنّها تظلّ بلا ثقافة، ولا تستطيع نقل الجوّ الذي يتضمّنه النصّ. هناك هوّة لا بدّ أن يتدبّرها المُترجم.

ومع ذلك، ومهما تعقّدت الأمور، فإنّ موموس بالمرصاد، وسوف تتقدّم الترجمة في العالَم العربي، ما دامت علاقتنا باللّغة علاقة محبّة، بل علاقة المصلحة المُتبادَلة أيضاً، فكلا الطرفَيْن لا يريدان الضعف والضمور والتلاشي.

*ناقد وباحث من سوريا - مؤسسة الفكر العربي