نفطُ العراق و"الاستثمار" العربيّ والدوليّ

news image

عدنان كريمة*

للمرّة الثانية خلال أربعة أشهر، يُشارِك العراق مع الكويت في مناوراتٍ بحريّة أجراها الأسطول الأميركيّ الخامس في الخليج العربيّ؛ تهدف هذه المُناورات إلى تعزيز الأمن البحريّ الإقليميّ، وذلك بعد نحو شهرٍ ونصف الشهر من تسلُّم حكومة محمّد شياع السوداني إدارة البلاد. وقال قائد القيادة المركزيّة للقوّات البحريّة الأميركيّة والأسطول الخامس والقوّات البحريّة المُشترَكة الأدميرال براد كوبر "إنّ الشراكات أساس الأمن والاستقرار البحريّ في الشرق الأوسط، وإنّ تعاوننا المُستمرّ يُشير إلى التزامنا الجماعيّ بحماية المياه الإقليميّة".

المرّة الأولى التي جرت فيها هذه المُناورات المُشترَكة كانت في 25 آب/ أغسطس الماضي؛ فهي تعني (كما وصفها مدير مركز العراق للدراسات الاستراتيجيّة غازي فيصل) أنّ اتّفاق التحالُف الاستراتيجيّ والشراكة الاقتصاديّة والسياسيّة والعلميّة والثقافيّة بين العراق وواشنطن لا تزال فاعلة، وتلعب دَوراً أساسيّاً في تمتين العلاقات المتعدّدة على المستويات كافّة. ولكنّ مفادها أيضاً يعبّر عن رسالة واضحة بأنّ واشنطن لن تتخلّى عن العراق كحليفٍ استراتيجي وبلدٍ يُشكّل مجالاً محوريّاً جيو سياسيّاً للأمن الإقليمي في الشرق الأوسط والخليج العربيّ، والمصالح الحيويّة الاستراتيجيّة للولايات المتّحدة، ولعلّ أهمّها الاستثمارات النفطيّة التي تُشارك بها الشركات الأميركيّة. مع العِلم أنّ الخطّة المستقبليّة لزيادة صادرات النفط العراقيّ، تتضمّن مَحاورَ عدّة لزيادة منافذ التصدير، وتنفيذ مشروع الأنبوب البحري من مستودع الفاو المُطلّ على الساحل العراقي إلى موانىء الصادرات النفطيّة.

انتقدَ فريقٌ من خبراء الاقتصاد العراقيّين إقدامَ رئيس الوزراء السوداني في بداية عهده على إلغاء تعيين 400 من كِبار المسؤولين، ولاسيّما الأمنيّين منهم، الذين عيّنهم سلفه مصطفى الكاظمي بأوامر ديوانيّة، وشدّدوا على ضرورة أن تخضع المناصب التي يجري تغييرها لإدارات مهنيّة، وأن تكون التعيينات الجديدة لمَن يستحقّها ومؤهَّل لتولّيها، مع الأخْذ بالاعتبار خطورةَ الصراع القائم وتوتُّره العالي الذي تشهده العراق خلال المرحلة الحاليّة، جرّاء الانقسام السياسي الحاصل. ونَصحه هؤلاءُ الخبراء بعدم اتّخاذ أيّ إجراءٍ بإلغاء الاتّفاقات التي أبرمها الكاظمي مع عددٍ من الدول، ولاسيّما العربيّة منها، وخصوصاً مع السعوديّة والإمارات والكويت ومصر والأردن، كونها وقّعت بناء على بُعدٍ استراتيجي مهمّ للجانب العراقي، وتحديداً في علاقاته العربيّة التي كانت "شبه منعزلة"، وإنّ أيّ إجراء قد يُتَّخذ لإنهاء العلاقات الاستراتيجيّة ذات البُعد السياسي والاقتصادي على مستوى العلاقات العراقيّة العربيّة، سيفسَّر بأنّه تنفيذ لأجندة خارجيّة، وهذا الأمر قد يطيح بالحكومة، ويُعيد العراق الى العزلة العربيّة والدوليّة.

حكومة الكاظمي

في السابع من أيّار/ مايو 2020، تسلّم مصطفى الكاظمي منصبه رئيساً للوزراء، إثر استقالة حكومة عادل عبد المهدي متأثّرةً بمُظاهراتٍ شعبيّة حاشدة شهدها العراق آنذاك، وبعد مخاضٍ سياسي عسير انتهى بالكتل السياسيّة لقبول تسوية باختيار الكاظمي بعد نَيله ثقة البرلمان. وقد استمرَّت حكومته نحو عامَيْن ونصف العام، حيث اختار البرلمان في 27 تشرين الأوّل/ أكتوبر 2022 السوداني الذي ألَّف الحكومة الحاليّة.

وتتعدَّد الآراء التي تتحدّث عن الإنجازات والإخفاقات التي شهدها العراق في ظلّ حكومة الكاظمي، ولاسيّما أنّ الأشهر العشرة الأخيرة كانت تفتقر لمُوازَنةٍ عامّة للدولة، بسبب عدم قدرتها على تمرير مشروعها للبرلمان، نتيجة محدوديّة صلاحيّاتها واقتصارها على تصريف الأعمال. وإذا كانت لم تنجح في توفير الأمن والاستقرار السياسي نتيجة الخلافات القائمة بين الأحزاب والكتل البرلمانيّة، فإنّها حقَّقت إنجازَيْن كبيرَيْن: الأوّل خارجي، حيث أَخرجت العراق من "عزلته" إلى انفتاحٍ واسع عربي ودولي؛ وعقدتْ اتّفاقات اقتصاديّة واستثماريّة مع عددٍ من الدول العربيّة والأوروبيّة، وبخاصّة مع فرنسا والولايات المتّحدة الأميركيّة. واستعادت دَوره العربي، ولاسيّما كونه إحدى الدول الستّ التي أسَّست جامعة الدول العربيّة في أربعينيّات القرن العشرين، وعزَّزت علاقاته مع دول الخليج، وخصوصاً المَملكة العربيّة السعوديّة، وبشكلٍ يؤدّي إلى تفعيل التعاون الاقتصادي معها، وتنفيذ مشروعاتٍ استثماريّة مُشترَكة. وفي سياق التوافق الذي حقَّقه الكاظمي مع ملك الأردن عبد الله الثاني والرئيس المصري عبد الفتّاح السيسي، تمَّ عقْد قمّة ثلاثيّة، على مدار ثلاث دورات في البلدان الثلاثة، كان آخرها في بغداد في حزيران/ يونيو 2021. ولم يكتفِ العراق باستعادة "الثقة العربيّة والدوليّة"، بل أكَّد على دَورٍ محوري عربي وإقليمي لبغداد، تهدف من خلاله السعي إلى بلْورة مظلّاتِ تعاونٍ عربيّة متعدّدة، تبعاً لموقعها الاستراتيجي وقربها الجغرافي، وخصوصاً أنّ مشروع التعاون الثلاثي: سياسيّاً وأمنيّاً واقتصاديّاً، من شأنه أنّ يضعَ منطقة الشرق الأوسط العربيّة على أعتاب مرحلةٍ جديدة، تتراجع فيها الصراعات، وتبرز فيها أهميّة إعادة إحياء الجهود العربيّة لتسريع مسيرة التكامُل الاقتصادي، وذلك بدءاً من العراق كمصدرٍ للنفط، ومصر كمصدرٍ كبيرٍ للطاقة البشريّة، والأردن كحلقة وصل بين البلدَيْن.

أمّا الإنجاز الثاني، فهو داخلي، حيث استطاعت حكومة الكاظمي حلَّ معظم أزمة العراق الماليّة، مُستفيدةً من ارتفاع أسعار النفط التي سجَّلت إيراداتٍ شهريّة بمعدّل وسطي بلغ 10 مليارات دولار، ومجمّعاً خلال 9 أشهر (كانون الثاني/ يناير – أيلول/ سبتمبر) نحو 90.31 مليار دولار، مقابل 52.98 مليار دولار في الفترة نفسها من العام 2021 ويقدّر بنحو 120 مليار دولار للعام 2022؛ الأمر الذي يُمكِّن الحكومة من رفْعِ أرقام موازنة العام 2023، لتتجاوز 130 مليار دولار.

ووفقَ أحدث تقرير لصندوق النقد الدولي، تمّ التوقُّع بنموّ النّاتج المحلّي الإجمالي الحقيقي 8% في العام 2022، بسبب زيادة الإنتاج النفطي بنسبة 12%، وزيادة النّاتج المحلّي غير النفطي بوتيرة أكثر اعتدالاً، بعد انتعاشها بنسبة 21% في العام 2021. وبفضل ارتفاع أسعار النفط يتوقَّع أن يحقِّق ميزان أرصدة الحساب الجاري للماليّة العامّة فائضاً بنسبة 6%، وكذلك ميزان الأرصدة الخارجيّة فائضاً بنسبة 11%، وأن يزيد حجْم احتياطات البنك المركزي على 90 مليار دولار. وفي ضوء هذه المؤشّرات الإيجابيّة، يرى الصندوق أنّ المواءمة الدقيقة لمعايير موازنة 2023، ستكون عنصراً محوريّاً، وأوصى بادّخار جزء كبير من الأرباح النفطيّة المُحتملة عن طريق استهداف العجز المالي الرئيسي غير النفطي وقدره 114 تريليون دينار، وبما يعادل 58% من النّاتج المحلّي الإجمالي غير النفطي في العام 2023. ولكنّ الأهمّ من ذلك استهداف هذا العجز عن طريق احتواء النموّ في فاتورة الأجور الحكوميّة التي تَستهلك نحو 40% من الموازنة السنويّة (وهي الأعلى في العالَم).

لكنّ المخاوف تبقى في ظلّ طغيان "الفساد" المسبِّب الأخطر لهدرِ المال العامّ، ولاسيّما بعدما تحوَّل من "ظاهرة مرفوضة إلى ثقافة عامّة وسلوك لقوى السلطة". وقد عمّقت هذه الثقافة طبيعة الهَيْمَنة على مؤسّسات الدولة. ولذلك رحَّب خبراءُ الصندوق بجهود السلطات العراقيّة الرامية الى تنفيذ الاستراتيجيّة الوطنيّة للنزاهة ومُكافحة الفساد للفترة 2021 – 2024، وشدّدوا على أهميّة الاستمرار في تعزيز الحَوْكمة (سُبل ووسائل الإدارة العامّة) بما في ذلك إنجاز ونشْر تقارير مراجعة وتدقيق الحسابات الحكوميّة في الوقت المناسب، وتحسين الإطار القانوني، وتبسيط الهيكليّة المؤسّسيّة لمُكافحة الفساد، والارتقاء بعمليّة "الرقْمَنة" باستخدام التكنولوجيا الرقميّة في المؤسّسات الحكوميّة.

زيادة إنتاج النفط

على الرّغم من تأكيده بأنّ العراق مُلتزِم بسياسات "أوبك+" وقراراتها، بما فيها قرارها الأخير بتخفيض الإنتاج، بدءاً من أوّل كانون الأوّل/ ديسمبر 2022 بنحو مليونَي برميل يوميّاً لـ 23 دولة في التحالُف، فقد أعلن رئيس الوزراء العراقي أنّ "بلاده بحاجة إلى زيادة إنتاجها من النفط لتحقيق المزيد من الإيرادات لتمويل إعادة إعمار الدولة وبناء اقتصادها". وفي إطار السعي لذلك، يعتزم العراق مناقشة زيادة حصّته الإنتاجيّة مع الدول الأعضاء في المنظّمة.

ويبدو أنّ صادرات العراق لم تتأثَّر بقرار التخفيض "سوى بكميّة محدودة"، لأنّ حصّته الإنتاجيّة بلغت وفق اتّفاق تمّوز/ يوليو 1202 نحو 4.651 مليون برميل يوميّاً، وهو يحافظ عليها، ولم يُنتج أكثر من 4.525 مليون برميل، أي أقلّ من حصّته بنحو 126 ألف برميل. ووفق القرار الأخير لأوبك+، يتوجَّب عليه تخفيض حصّته 220 ألف برميل ومع احتساب الباقي من حصّته الأساسيّة، يكون المطلوب منه تخفيض 94 ألف برميل فقط، لتُصبح حصّته الجديدة 4,431 مليون برميل يوميّاً.

وفي إطار خطّةٍ لإنعاش الاقتصاد، وجذْب استثماراتٍ عربيّة وأجنبيّة لتنفيذ مشروعات إعادة الإعمار المقدّر تكلفتها بنحو 100 مليار دولار، يسعى العراق إلى تطوير خططه الاستثماريّة في النفط والغاز والطّاقة الكهربائيّة، ويَستهدف رفْعَ إنتاج النفط على مرحلتَيْن، الأولى إلى 6 ملايين برميل يوميّاً بعد سنة 2023، والثانية إلى 8 ملايين برميل نهاية سنة 2027. وقد وقَّع عقوداً مع الشركات لحفْرِ 131 بئراً نفطيّاً جديداً.

وبما أنّ العراق بحاجة إلى أن يوازي عمليّة الإنتاج والتسويق، إذ لا يُمكن أن يكون هناك زيادة في الإنتاج مع قلّة في منافذ التصدير إلى الخارج، ولاسيّما أنّ عمليَّتَيْ نقل النفط الثابت والمتحرّك هُما مهمّتان في التسويق، وزيادتهما تعني زيادة في العائدات الماليّة، فإنّ العراق يعتزم مدّ شبكة خطوط أنابيب داخليّة، لنقلِ المُنتجات النفطيّة إلى كلّ أنحاء البلاد، وخارجيّة لتصدير النفط الخامّ إلى الأسواق العالميّة لتكون هذه الشبكة بديلاً لعمليّات النقل المُكلفة والخطيرة التي تتمّ حاليّاً بالناقلات.

وتبرز في هذا المجال أهميّة تنفيذ خطّ أنابيب يمتدّ على مسافة 1700 كيلومتر بين مدينة البصرة في العراق وميناء العقبة في الأردن، والتي وقَّع البَلدان اتّفاقيّته في التّاسع من نيسان/ أبريل 2013، على أن ينجز خلال ثلاث سنوات؛ ولكن لغاية الآن لم يباشر بتنفيذه، بسبب الأوضاع الأمنيّة، وخصوصاً أنّ الخطّ سيمرّ داخل محافظة الأنبار التي كانت محتلَّة من قِبَلِ تنظيم "داعش". وقد اتَّفق البلدان (في عهد حكومة الكاظمي) على تسريع خطوات التنفيذ، وسيشكّل هذا المشروع بوّابةً جديدة لتصدير النفط العراقي بنحو مليون برميل يوميّاً إلى دول العالَم. وإضافة الى ذلك، كان العراق، في عهد حكومة الكاظمي، يتطلّع إلى إعادة تشغيل خطّ أنابيب تصدير النفط عبر الأراضي السعوديّة إلى ميناء ينبع على البحر الأحمر، والذي أُغلق في العام 1990 بعد الغزو العراقي للكويت.

شركات الاستثمار

تعمل في العراق حاليّاً نحو 17 شركة استثماريّة عالَميّة من جنسيّاتٍ مختلفة لتطوير الحقول النفطيّة المُنتِجة والمُستكشفة، وذلك بموجب عقود تمّت في جولات التراخيص الأولى والثانية والثالثة والرّابعة، وهي مُلزَمة باستثمار أموالها لرفع القدرة الإنتاجيّة، على أن تلتزم الحكومة بدفع ما نسبته 50% من الأموال المصروفة سنويّاً، تُضاف إليها أرباح بمعدّل 1.5 دولار عن كلّ برميل إضافي.

وإضافة إلى اتّفاقات عقدها العراق مع شركاتٍ ألمانيّة وصينيّة، وافَقَ أيضاً على خطط عملاق النفط البريطاني: "بريتش بتروليوم"، باستثمارها في حقل الرميلة الذي ينتج 1.5 مليون برميل يوميّاً. وكذلك الاستثمارات الأميركيّة، حيث أَطلقت وزارة النفط مشروع استثمار الغاز في حقل الناصريّة مع شركة "بيكو هيوز"، وهناك شركة "شيفرون" التي حظيت باتّفاق يشمل إنتاج النفط والغاز في محافظة ذي قار، وشركة "هانيويل" التي تُسهم بشكلٍ كبير في تطوير البنى التحتيّة، وشركة "بيكاريوس" المختصّة بالخدمات النفطيّة.

أمّا الاستثمارات الفرنسيّة، فقد توّجها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بعد حضوره مؤتمر بغداد في حزيران/ يونيو 2021 بتوقيع اتّفاق بين الحكومة العراقيّة وشركة "توتال"، يشمل 4 مشروعات بقيمة 27 مليار دولار لإنتاج النفط والغاز، وبعائد إجمالي من الأرباح يصل إلى 95 مليار دولار خلال مدّة العقد. وفي خطوة باتّجاه تعزيز العلاقات بين البلدين، وجّه الرئيس الفرنسي دعوة رسميّة للرئيس العراقي محمّد شياع السوداني لزيارة فرنسا في أوائل العام 2023.

تبقى الإشارة إلى أنّ اللّافت في تطوُّر الاستثمار الأجنبي في العراق أهميّة الهجمة الاستثماريّة الصينيّة على قطاع النفط والتي تكثّفت منذ تشرين الأول/ أكتوبر 2019، عندما وقّعت الصين مع العراق اتّفاقيّة برنامج "النفط مقابل إعادة الإعمار"، وتعهّدت بموجبه عشرات الشركات الصينيّة بالعمل في البنى التحتيّة العراقيّة، مقابل تلقّي بكين 100 ألف برميل نفط يوميّاً. وبذلك أصبحت الصين أكبر مُستثمِر في العراق، وعروض شركاتها تُنافِس عروضَ الشركات الأميركيّة والأوروبيّة وحتّى الروسيّة، ووصل الأمر الى شكوى المسؤولين العراقيّين وقلقهم من خطورة احتمال انسحاب عدد من الشركات الغربيّة، مع العلم أنّ بعضها، إضافة إلى شركة روسيّة، حاولَ بيع حصصه الاستثماريّة إلى شركة صينيّة، لكنّ وزارة النفط العراقيّة أَحبطت المُحاولة.

*كاتب ومُحلِّل اقتصادي من لبنان - مؤسسة الكر العربي