عبد الله النديم أمام تجانُس الغرب وقسوته

news image

 

 


د. محمود حدّاد*


عندما كان المثقّفون العرب يناقشون، منذ القرن التّاسع عشر، سُبل اللّحاق بالغرب الأوروبي، فإنّهم كانوا عادةً يتحدّثون، بمعظم اتّجاهاتهم، عن إيجابيّات التجربة الأوروبيّة الحديثة للأخذ منها إمّا بشكلٍ انتقائيٍّ أو كامل. أمّا عبد الله النديم (1830 - 1898) المعروف بخطيب الثورة العرابيّة في مصر (1880 - 1881)، فيبدو أنّه أُعجب، إضافةً إلى ذلك، بما يُمكن اعتباره سلبيّات التجربة الأوروبيّة وحوَّلها إلى ايجابيّات.

في مقالٍ مغمور كتبه في العام 1892 يذكر عبد اللّه النديم بعض الأسباب التي كانت رائجة لتفسير التفوُّق الغربي كالمناخ، لكنّه يجيب بأنّ المناخ لم يكُن عقبة في نهضة العرب والمُسلمين في القرون السابقة، وكذلك الدّين، إلّا أنّه يشير إلى أنّ في الشرق شعوباً ذات أديانٍ أخرى متأخّرة عن المُسلمين. ويتحدّث آخرون بأنّ اختلاف الأجناس مانعٌ عظيم، إلّا أنّه يرّد بأنّ هناك دولاً تتضمَّن أجناساً عدّة ذات خصوصيّاتٍ متعدّدة، وهذا لم يمنعها من الانقياد للسلطة الجامعة التي تضمّ هذه الأجناس كلّها. ويشير إلى أنّه علينا أن نعرف أسباب تقدُّم أوروبا، حيث إنّه "بضدّها تتميّز الأشياء".

كان النديم ُيصدر مجلّة "الأستاذ" التي وصفها أنّها جريدة علميّة تهذيبيّة فكاهيّة صدرت في آب/ أغسطس 1892 في الإسكندريّة. وفي العام نفسه كَتَبَ إجابةً عن سؤالٍ قريب من سؤال الأمير شكيب أرسلان، إنّما أسبق منه بنحو أربعة عقود: "بمَ تقدَّم الأوروبيّون وتأخَّرنا والخلق واحد؟"

الجديد في كلام النديم أنّه لا يركِّز على ما يُمكن وصفه بالعوامل القريبة أو الواضحة في زمنه (مثل ما ركّز عليه غيره ممَّن كان يحلِّل عوامل سبق أوروبا للشرق في التحديث والحداثة. وقد شملت هذه الإيجابيّات: الأفكار التي جاء بها عصرا النهضة والأنوار الأوروبيّان. كما شمل العدالة، المُساواة، الحكم التمثيلي، العلوم، القوميّة، التعليم، الجمعيّات الثقافيّة) لكنّه جَعَلَها عوامل فرعيّة أو ثانويّة. وقد ذهبَ النديم في البداية إلى ما هو أعمق من سطح التطوُّر الأوروبي وعاد بنا إلى ما اعتبره العوامل العميقة التي أدَّت في المرحلة السابقة للمرحلة الحديثة إلى ما قامت به دولُ أوروبا بما ضمنَ تجانُسَها اللّغوي والدّيني والجنسي والثقافي، معبِّراً عن إعجابه بذلك ولو أنّ أوروبا قامت بذلك بقسوة أو بوحشيّة مؤلِمة. وهو يلوم دولَ الشرق لأنّها لم تقُم بمثل ما قامت به أوروبا حيث إنّ الإسلام كان متسامحاً يوم كانت له اليد القويّة أيّام صولته "فلم يبطش بها بمواطنيه ولا مدَّها إلى مُعاهديه، بل ولا حرَّكَ بها عصاه نحو المتوحّشين عند نزولهم على حُكمه... ولم يكُن عند رجاله من التعصُّب ما يحملهم على قهْرِ الناس بالتضييق على تَرك أديانهم، بل خيَّرَ مَن نازلهم بين الأخْذ به أو الاستيطان على حُكمه وهذه خصوصيّة له من بين الأديان". وهو يشير هنا، مُوارَبةً، إلى ما قامت به صقلّية في القرن الثالث عشر، ثمّ إسبانيا في القرن الخامس عشر، من طردِ المُسلمين واليهود من أراضيها أو تنصيرهم. وربّما كان موقف النديم الناقد ضمنيّاً للتسامُح الإسلامي وقبوله بالتعدّديّة في أكثر من مجال مُقارَنةً بالتعصُّب الأوروبي دينيّاً ولغويّاً وجنسيّاً يمثّل ردّ فعلٍ على ما كان يراه من تفكُّك الدولة العثمانيّة والهزائم التي حلَّت بها، بخاصّة في البلقان؛ إلّا أنّه كان بذلك يقوم - في رأينا - بنقدِ أسمى ما كان وما في الحضارة العربيّة – الإسلاميّة من قيَمٍ وفضائل. يرتّب النديم أسبابَ تجانُس الدولة الأوروبيّة اللّامتسامح والمُبالغة الشرقيّة في التسامُح المؤذي - في رأيه - على الشكل التالي:

السبب الأوّل: توحيد اللّغة

"لا يُنكر أنّ ممالك أوروبا كانت دوقاتٍ وكونتات... صغيرة وكبيرة وأنّ الذين صيَّروها إلى ما هي عليه الآن عائلات تسلَّطت على عائلات، وضمَّت الأجزاء إلى بعضها، وصيَّرت كلّ قطعة عظيمة مَملكة مستقلّة. وعندما تغلَّبت هذه العائلات خافت من تحرُّك الهِمم خلفَ الاستقلال فَهَدَتْها التجارب إلى توحيد اللّغة في بلادها لتُميت حميّةَ الجنس التي تدفع إليه اللّغةُ فلم يكُن في بلاد أوروبا مَن يتكلّم بغَير لغة البلاد والمراد، بحيث توحّد اللّغة في المعاملات والتأليفات والتعليم والمُخاطبات فلا يستعملون لغة الغير إلّا لضرورةٍ تدعو إليها، بحيث لا يُتوسَّع فيها إلى حدّ أن تسطو على اللّغة المحليّة.

"وملوك الشرق أخطأوا هذا الغَرض وتركوا المحكومين يتكلّمون بلغاتهم ويتعلّمون بها فبقيَتِ الجنسيّاتُ حيّةً بحياة اللّغة وظلَّت خاضعة... وكلّما فُتح لجنسٍ بابُ ثورةٍ أو محرّكٌ لاستقلالٍ تدافعَ حول الداعي وتفانى في الخروج من أسر الغَير. يشهد بذلك الأُمم التي حكمها العرب، ولم يوحّدوا اللّغة فيهم فخضعوا بقدر ما استعدّوا للخروج من سلطتهم، حتّى تمزّقت المَملكة وتوزَّعت في أيدي الثائرين...".

والواقع أنّ فكرة النديم هذه تتّفق مع الفكرة التي كان قد عبَّر عنها قبل ذلك جمال الدّين الأفغاني ونُشرت في خاطراته، حيث ينتقد الدولة العثمانيّة، لأنّها لم تتّخذ اللّسان العربي، وهو لسان المغلوب وليس الغالب في هذه الحالة، لكنّه لسان الدّين، لساناً رسميّاً وتسعى لتعريب الأتراك "لكانت في أمنع قوّة وآمن حصن ..."، لكنّها فعلت العكس، "إذ فكّرت بتتريك العرب. وما أسفهها سياسة، وأسقمه من رأي، لأنّ تديّن الأتراك بالدّين الإسلامي - على جهلٍ باللّسان العربي - جَعَلَ لهم في القلوب منزلة، ساقت وتسوق الأمّة العربيّة للعطف عليهم مع سائر المُسلمين. فما قولك لو تعرّبت وانتفى من بين الأمّتَيْن، النعرة القوميّة وزال داعي النفور والانقسام "بالتركي والعربي" - وصار أمّة عربيّة - بكلّ ما في اللّسان من معنى، وفي الدّين الإسلامي من عدل، وفي سيرة أفاضل العرب من أخلاق، وفي مكارمهم من عادات".

السبب الثاني: توحيد السلطة بيد المتغلِّب

يُتابع النديم: "عندما تمَّ لكلّ عائلة أوروبيّة الاستيلاء على قطعة مخصوصة، وحّدت السلطة في الجنس المتغلِّب، فلم تمكِّن أيّ إنسان من المتغلِّب عليهم من أيّ إدارة فراراً من توزيع السلطة... وخوفاً من اتّساع سلطة المقهورين بما يحرِّكهم للاستقلال واستمرّت الحال كذلك، حتّى تمَّ نقْل الأجناس لغةً وديناً وصار المجموع جنساً واحداً".

"ودول الشرق أخطأت هذا الطريق ولفّقت العمّالَ من الأجناس المحكومة وغيرها، فانحلّت عرى قواها وكَثُرت فيها الثورات والتغلّبات، حتّى جاءت الدولة العربيّة فوحَّدت سلطتها في دَورها الأوّل فنَمت مَملكتها بكثرةِ فتوحاتها ونفَّذت قوانينها الشرعيّة والوضعيّة... فلمّا اتَّسع نِطاق المدنيّة وجنحَ الخلفاء والأمراء إلى الرفاهة والسكون، أسلموا أمورَ إدارتهم إلى الأجناسِ المحكومة بهم، فدعاهم حبُّ الأثْرة إلى نزْعِ ما بيَدِ مواليهم وساداتهم ورجعت العرب القهقرى وفسد النظام...".

السبب الثالث: توحيد الجامعة الدينيّة

"كلّ عائلة تغلَّبت على قطعة من أوروبا وحَّدت دينها... وأراقت غزير الدم في سبيل توحيد الجامعة الدينيّة لئلّا تَترك بينهم ديناً آخر يوجِب النفرة والفِتن الداخليّة والتداخُل الخارجي. وقد اعتنت أوروبا بالدّين اعتناءً غريباً حتّى ملأت بكلماته كُتب التعليم من أيّ فنٍّ كانت... ولعلمهم أنّ وحدة الدّين إذا انضمّت إلى وحدتَيْ اللّغة والسلطة، قامت المَملكة على أساسٍ متين اهتمّوا بنقلِ الأُمم الشرقيّة بطريق التدريج فلم تقهر فرنسا أهل الجزائر وتونس على تركِ دينهم كما فعلت إسبانيا في مُسلميها عند تغلُّبها عليهم حيث ألجأتهم إلى التنصُّر أو الخروج من البلاد... [بل] التزمت كلّ دولة أن تعمّم لغتها فيهم".

"وقد أخطأ ملوك الشرق هذا الطريق واكتفوا بالفتوح أو التغلُّب على الغَير... ثمّ جاء الإسلام، فاكتفى من الناس بالأخْذ به أو الإذعان لملوكه وعندما نَشَرَ جناحَيْه في الشرق والغرب، تَرك أُمماً كثيرة على أديانهم المسيحيّة والموسويّة والبرهميّة والمجوسيّة والوثنيّة وأعطاهم حريّة التعبُّد من غير أن يتعرّض لهم أحد من المُسلمين؛ وهذه مزيّة لا توجد في دينٍ غيره. ولكنّه لم يجنِ من هذا الغرس الجميل ثناءً ولا شكوراً، بل هاجمت أوروبا بأجمعها الشام [ربّما يقصد الإرساليّات هنا] بالنّزعات الدينيّة وخرَّبت دياره... فجلبت الدمار على مُسلميه ومسيحيّيه وإسرائيليّيه وأَصبح فارغاً من معدّات العمران مُحالاً بينه وبين التقدُّم بسور الفقر الذي بَنته أوروبا بيَدِ التعصُّب الديني.....".

وللمرء أن ينقد عبد الله النديم بخاصّة في إعطائه أهميّة كبيرة للتوحُّد القسري الديني واللّغوي والأثني (الجنسي) الذي قامت به بعض دول أوروبا تفسيراً لتقدُّمها، حيث كان الحُكم الإسلامي مُتسامحاً وقابلاً بالتعدّديّة الدينيّة واللّغويّة في فترة تألُّقه الذهبيّة في القرون الوسطى، إذ لم يكُن بحاجة إلى السَّير في سياسة التوحيد القسري التي سارت عليها إسبانيا مثلاً في نهاية القرن الخامس عشر.

والواقع أنّ النديم ومَن يفكِّر على منواله ينسى أنّ الحضارة العربيّة/ الإسلاميّة قامت منذ بداياتها على أساس التعدّديّة؛ ولهذا سمّيت بالحضارة العربيّة/ الإسلاميّة للتأكيد بأنّ العرب وغير العرب والمُسلمين وغير المُسلمين أَسهموا جميعاً في إداراتها وعلومها وآدابها.وهي، على عكس الحضارة الغربيّة، لم تقُم عموماً بالتدخُّل في لغات وأديان الشعوب التي أصبحت تحت سلطتها، لكنّها استفادت من خبراتها الثقافيّة، بل إنّ بعض هذه الشعوب اختارت راغبة غير مُرغَمة أن تتعرَّب أو أن تتأسْلَم. وهذا ما ميَّزها عن الحضارات الأخرى. وليس في تاريخنا عمليّات إبادة للسكّان الأصليّين مثلما فعلَت أوروبا في الأميركيّتَيْن وفي أستراليا وبعض أفريقيا. ويقول المؤرِّخ كمال الصليبي إنّه عندما ذهب أمير جبل لبنان، الأمير فخر الدّين إلى إيطاليا في بدايات القرن السابع عشر، أُعجب بتلك البلاد، لكنّه صُعق بفقدان التسامُح الديني مُقارنةً بما كان سائداً في الإمبرطوريّة العثمانيّة.

أمّا إذا ولجنا إلى الحقبة الحديثة، أي إلى القرنَيْن التّاسع عشر والعشرين، فإنّنا قد نجد بعض العذر للنديم في آرائه المطروحة، إذ تميَّزت هذه المرحلة بتوسُّع النفوذ الاستعماري الأوروبي، سياسيّاً وعسكريّاً وثقافيّاً. وحاولتِ الدولُ الغربيّة فعلاً جذْبَ بعض المجموعات الإثنيّة أو الدينيّة صوب سياساتها التي رمت إلى استعمار الشرق وفصْلِ المجموعات البشريّة التي تعاونت في السابق عن بعضها البعض فأغدقت الامتيازات الاقتصاديّة والتعليميّة عليهم، بما جَعَلَ بعضهم ينظرون نظراً غير كريم إلى إخوانهم في الوطن ويتقرّبون من الأجنبي ذي الأطماع والطموحات في الشرق. ولعلّ النديم كان يركِّز على هذه المرحلة التي كان يعيشها، حيث كان المُستعمِر البريطاني قد نزل مصر وشرعَ في استغلال تعدّديّة الحضارة العربيّة/ إلإسلاميّة.

لهذا يختم عبد الله النديم مقالته بعد أن يضيف إلى هذه الأسباب الأساسيّة أسباباً أخرى ثانويّة مطروقة قبلاً بالقول: "هذه هي الأسباب التي قدَّمت أوروبا ونَشرت ألوية التقدُّم في جميع جهاتها، وبالوقوف عليها عرفنا العلل التي أخَّرت الممالك الشرقيّة على اختلاف مواقعها وأوقعتها في فخاخ أوروبا. وعلمنا أنّ الدّين الإسلامي والأديان الشرقيّة لم تكُن السبب في التأخُّر، كما يزعم كثير من الطائرين حول دُهاة أوروبا، بل إنّ الدّين الإسلامي كان السبب الوحيد في المدنيّة وتوسعة العمران أيّام كان الناس عاملين بأحكامه".

ولنا أن نختم ما أثاره النديم وجوابنا عنه بما قاله الأديب الفرنسي/ اللّبناني أمين معلوف:

"لو كان أجدادي مُسلمين في بلدٍ فتحته الجيوش المسيحيّة، بدلاً من كونهم مسيحيّين في بلدٍ فتحته الجيوش المُسلمة، لا أظنّ أنّهم كانوا استطاعوا الاستمرار في العيش لمدّة 14 قرناً في مُدنهم وقُراهم مُحتفظين بعقيدتهم.

ماذا حدثَ فعليّاً لمُسلمي إسبانيا وصقلّية؟ لقد اختفوا عن آخرهم، ذُبحوا أو تمّ تعميدهم بالقوّة... يوجد في تاريخ الإسلام ومنذ بداياته قدرة مميّزة على التعايُش مع الآخر".

*مؤرِّخ وكاتب من لبنان - مؤسسة الفكر العربي