بضع كلام في أزمة الثقافة العربيّة
د. خالد صلاح حنفي محمود*
عانى العالَم العربي العديد من الإشكاليّات التي جاءت نتاجاً للأزمة القائمة فى مجال الثقافة والفكر، فسيادة مظاهر العنف والتعصّب والكراهيّة، وشيوع الأنماط اللّاعقلانيّة فى التفكير، وشيوع قيَم الاستهلاك، وغياب ثقافة المُواطَنة وقيمها، تُمثِّل بعض مظاهر الأزمة الرّاهنة؛ بل إنّ مصطلح "الثقافة العربيّة" يحمل في طيّاته الكثير من الغموض، ويُثير حوله العديد من التساؤلات حول ماهيّة تلك الثقافة وخصائصها ومضامينها، وما تعانيه في الفترة الرّاهنة من تحدّيات.
تُعبِّرُ الثّقافةُ عموماً عن الخصائص الحضاريّة والفكريّة التي تتميّز بها أمّة ما، وتتعدّد تعريفات الثقافة، ومعانيها، فلا يوجد إجماعٌ أو اتّفاق حول تعريفها، على الرّغم ممّا بين هذه التعريفات من عناصر متشابهة، ويتعامل معها الكثيرون من دون تحديدٍ دقيق لمعناها، ما يترتّب عن ذلك بروز إشكاليّات مختلفة. لكن يُمكن القول بشكل عامّ إنّها ذلك النسيج المركَّب والمتشابك من القيَم والمُعتقدات والأفكار والجوانب الماديّة التي تُؤلِّف حياة المُجتمع.
وإذا نظرنا إلى مصطلح "الثقافة العربيّة" نجد أنّ الإشكاليّة تزداد بإضافة صفة "العربيّة" إلى مصطلح "الثقافة"، لأنّ تحديد معنى كلمة "العربيّة" في حدّ ذاته يُثير تساؤلات عدّة. فمَن هو العربي؟ هل المقصود الذي يتحدّث اللّغة العربيّة، أو الذي يرجع أصله إلى عرقٍ عربي أو الذي يتبنّى القضايا العربيّة ويُدافع عنها ويعيش في دولة عربيّة؟ وكذلك تثار تساؤلات أخرى حول ماهيّة العروبة؛ هل المقصود بها، بحسب عبد اللّه الجسمي، قيَماً معيّنة يختلف بها العرب عن غيرهم أو عادات وتقاليد وتاريخ مُشترَك يَجمع بين الأفراد أو الذين يعيشون ضمن رقعة جغرافيّة معيّنة أو يشتركون في قضايا وهموم مُتجانسة...إلخ؟ (عبد الله الجسمي، "هل توجد ثقافة عربيّة بالمعنى الدقيق للمصطلح؟"، مجلّة العربي، العدد 719، 2018).
هل توجد ثقافة عربيّة واحدة؟
يرى العديد من المُفكّرين أنّه ليس في العالَم العربي ما يُمكن أن يُطلق عليه ثقافة عربيّة واحدة، بل ثمّة ثقافات متنوّعة تندرج جميعها في مرحلة ما قبل التحديث، فبعض هذه الثقافات لم يتأثّر بما حدث في العالَم من تطوُّراتٍ ماديّة، وبعضها الآخر تشوَّه بحيث لم يعُد يعبِّر عن الثقافة التقليديّة، وفي الوقت نفسه لا يعبِّر عن الثقافة المدنيّة الحديثة. فالواقع الثقافي العربي خليطٌ من الثقافات التقليديّة على غرار الثقافة الريفيّة والقبليّة والعشائريّة والحضريّة (شبه المدنيّة) والعرقيّة، ولم يحدث تحوُّلٌ حقيقيٌّ إلى نمطٍ ثقافيٍّ يتجاوز هذه الثقافات التي لم تعُد تعبِّر عن الواقع الحضاري والمدني المُعاصر والحديث.
تجمع هذه الثقافات الخصائص الآتية:
إنّها نتاج لعلاقة الإنسان مع الطبيعة، أي البيئة الجغرافيّة التي تعيش عليها مُجتمعات سكّانيّة، فثقافة الريف تختلف عن ثقافة الصحراء، وثقافة المدينة تختلف عن ثقافة العشيرة وغيرها، بمعنى أنّ الموقع الجغرافي الطبيعي يتحكّم في طبيعة الثقافة التي تسود ضمن نطاق الجماعة في هذا الموقع أو ذاك.
الأساس الآخر لهذه الثقافات اجتماعي، فقد فَرضت ظروف الطبيعة القاسية على الإنسان العيش في إطارِ تجمّعاتٍ ترتبط بشكلٍ وثيق برابطة اجتماعيّة لمُواجَهة تحدّيات الطبيعة والمخاطر الخارجيّة التي يُمكن أن تمسّ الكيان الاجتماعي. وفَرضت طبيعة الموقع الجغرافي عاداتٍ وتقاليد اجتماعيّة أصبحت العنصر الأساس للربط بين أفراد الجماعة وبلْورت قيمها، ومُمارساتها، وأَضحت مُزاوَلة هذه العادات والالتزام بها معياراً لانتماء الفرد للجماعة، وعكس ذلك يُعدّ خروجاً على الجماعة وأعرافها.
تقوم هذه الثقافات على تسلسل هرمي تراتبي يجسِّد خضوعَ الفرد أو الأفراد إلى رأس السلطة، ورأس السلطة قد يكون الأبّ في عائلته، أو أكبر أفراد العائلة الممتدّة سنّاً أو رئيس القبيلة...إلخ. والسلطويّة ظاهرة متفشّية في العالَم العربي، حيث يتسلّط أفرادٌ على مَن يكونون أدنى منهم مستوىً أو مرتبةً اجتماعيّة، ونتج عن هذه الظاهرة غياب أنماط الحريّات المعروفة في المُجتمعات المدنيّة. كما أنّ ثمّة تسلُّطاً من نَوعٍ آخر وهو تسلُّط الجماعة على الفرد، حيث يخضع الفرد لسلطةِ المجموع بطريقةٍ تُمسَخ فيها شخصيّته وآراؤه وأفكاره، ولا يحقّ له الخروج عن إجماع الجماعة، والإتيان بأفكار وآراء تختلف عنها، ويصل الأمر إلى التحكُّم في مُمارساته التي يجب ألّا تخرج – هي الأخرى - عن مُمارسات الجماعة وإلّا سيُصبح منبوذاً فيها، وباختصار لا وجود لاستقلاليّةٍ فرديّة ضمن إطار الثقافات التقليديّة.
لا تُبنى طريقة التفكير السائدة في كلّ هذه الثقافات على أُسسٍ عمليّة أو عقلانيّة، بل يشيع التفكير الغيبي والخرافي. وقد ترتَّب عن ذلك أنّ اليقين السائد في هذه الثقافات يقوم على أُسسٍ ذاتيّة وغير موضوعيّة، كما تتميّز طريقة التفكير في معظمها بأنّها مُغلقة وانعزاليّة، وترفض إلى حدّ كبير الآخر المُختلف، إذ يحتوي معظمها على بذورِ قيَم الإقصاء وإلغاء الآخر، وقد مهَّد ذلك الطريق لانتشار العصبيّات العرقيّة أو القبليّة أو المذهبيّة وغيرها نتيجة اختلاف مكوّنات المُجتمع وانكفاء كلّ فئة اجتماعيّة على نفسها وعدم تقبُّلها للآخر.
إنّ عمليّة التحديث لم تتزامن معها عمليّة تحديث ثقافي وفكري مؤسّسي تقوم به الدولة، يُعبِّر عن روح العصر، كما حدث في أوروبا ودول العالَم المتقدّم. وعلى الرّغم من مضيّ ما يقرب القرنَيْن من الزمن على بدايات عمليّة التحديث في العالَم العربي بداية من عصر محمّد علي، فإنّ الثقافات التقليديّة بقيت تقريباً كما هي، بل سادت قيَمُ ومُعتقدات ثقافات الشرائح الاجتماعيّة التقليديّة التي تتّسم بطابعها الجامد والمُنغلِق وغير القابل للتطوير الذاتي. ولا يزال العديد من الشرائح الاجتماعيّة يتمسّك بثقافاته التقليديّة، وصار بعضها أكثر تعصُّباً وتطرُّفاً لجهة الانحياز للثقافة الموروثة وعناصرها. ولم ينتج عن عمليّة التحديث أيّ تطوّرات ثقافيّة من شأنها دمْج هذه الفئات في ثقافةٍ واحدة تكون هي الأصل الذي تمتح منه بقيّة الثقافات التقليديّة الجزئيّة.
جدليّة العلاقة بين الثقافة والهويّة
ثمّة علاقة وثيقة بين الهويّة والثقافة السائدة في مجتمعٍ ما أو جماعةٍ ما، فالثقافة تجمع على العناصر المُشترَكة التي يتوحَّد فيها المجموع، وكذلك الحال مع الهويّة التي تُعبِّر عمّا هو مُشترَك بين أفراد أو جماعات، وتنعكس فيها مظاهر الثقافة المُختلفة مثل الفنون والمُمارسات والقيَم وغيرها. كما أنّ طابع الثقافة السائدة يعكس طبيعة الهويّة التي تسود، من ذلك مثلاً أنّ الثقافة العرقيّة تكون هويّتها ذات طابعٍ عرقي، والهويّة القبليّة ذات طابع قبلي ...إلخ.
وقد تجذَّرت الإقليميّة في الواقع العربي الحالي إلى حدٍّ كبير، وانتشرت الهويّات القُطريّة التي صارت تُميِّز معظم مُجتمعات الدول العربيّة عن بعضها البعض، وصارت حاجزاً فعليّاً أمام أيّ مسعىً للوحدة، وتفشَّت مظاهر الإقصاء والعنصريّة والتمييز في بعض ربوع العالَم العربي. ولو كانت هناك ثقافة عربيّة واحدة تجمع أفراد المُجتمع العربي من المحيط إلى الخليج بروابط قويّة لما تفشَّت مظاهر الإقليميّة وما ارتبط بها من هويّاتٍ فرعيّة. والمسألة لا تتوقّف عند الإطار العربي العامّ، بل تتعدّاه أحياناً إلى القطر العربي الواحد، فكثير من الدول العربيّة لم تنجح في إذابة الفوارق الثقافيّة بين مكوّنات مواطنيها لتجمعهم في إطار ثقافة توحيديّة حديثة تتجاوز فيها ثقافاتهم التقليديّة وتجعل هذه الثقافات جزئيّة أمام الثقافة الكليّة العامّة.
الثقافة وإشكاليّة الانتماء
يشهد العالَمُ العربي واقعاً ثقافيّاً مريراً يدفع بمسألة الانتماء إلى صدارة الأولويّات، لأنّ تحديد وجهة انتماء المواطن العربي هو المعيار الذي يتمّ من خلاله تحديد الانتماء إلى العروبة من غيرها. فالانتماء للعروبة هو انتماءٌ إلى الأرض والثقافة. فهناك منظومة قيميّة ينتمي إليها الفرد تتحدّد من خلالها مُمارساته ورؤيته للحياة وطريقة تفكيره وعلاقاته بالآخرين. ومع غياب تصوّرات أو منظومة واضحة لماهيّة الثقافة العربيّة، وتراجُع الانتماء للدولة، التي هي غائبة بالأصل عن واقعنا العربي، تنتعش الانتماءات الثقافيّة الفرعيّة وتُصبح لها اليد العليا، وهذا هو واقع حال في الدنيا العربيّة اليوم.
كما بَرزت الحركاتُ الأصوليّة في العقود الأخيرة، والتي غيَّبت تماماً الأطروحات القوميّة أو العروبيّة وأَحدثت شرخاً طائفيّاً بين المكوّنات الاجتماعيّة الرئيسة في العالَم العربي، وطَمست معها أيّ محاولات فكريّة وثقافيّة لتطوير هويّةٍ عربيّة جامعة وحاضنة للتنوُّع، ورسَّخت ثقافة التفْرقة والتطرُّف والتعصُّب وانشغلت الأمّة العربيّة بصراعاتٍ جانبيّة، وأَجهزت على أيّ نمطٍ من أنماط الثقافة الحديثة التنويريّة والعقلانيّة بدعوتها للعودة إلى الماضي.
وقد عانت الأطروحات القوميّة وتيّارات العروبيّة من إشكاليّاتٍ، منها اعتماد البعض على خطابٍ عاطفي انفعالي يركِّز على الجانب السياسي أكثر من الجوانب الفكريّة والثقافيّة، وتبنّى بعض القوميّين أفكاراً عنصريّة تُهمِّش القوميّات الأخرى التي تعيش في العالَم العربي، واعتمدَ البعضُ الآخر على خطابٍ قومي نخبوي، وانشغل البعضُ الآخر بالدخول في صراعاتٍ داخليّة على السلطة. ولم يُكتب لأفكار البعض الآخر الانتشار الكافي فاختفت واندثرت، إضافة لاعتماد بعض الأحزاب والقيادات القوميّة على استخدام التشكيلات الاجتماعيّة التقليديّة المُتمثّلة في القبائل والعشائر والطوائف للحفاظ على السلطة. وقد نَشأ نظام المُحاصَصة بدلاً من المُساواة بين مختلف أفراد القطر الواحد، إضافة إلى العوامل الخارجيّة المتمثّلة في المؤامرات الخارجيّة من الشرق والغرب على العالَم العربي، وكلّ ذلك أدّى إلى فشلِ المشروع القومي العربي في محاولات تحديث الثقافة والفكر العربي، وإحداث النهضة المنشودة حتّى الآن.
نحو ثقافةٍ عربيّة حاضِنة للتنوُّع
لا شكّ أنّ ثمّة حاجة للعمل على إيجاد ثقافة عربيّة عامّة مدنيّة وحديثة تصلح كإطارٍ عامّ يأتلف حوله كلّ مَن يعيش في العالَم العربي، بشرط أن تنهض هذه الثقافة على قيَمٍ إنسانيّة بعيدة عن مظاهر التعصُّب والعنصريّة، وتتجاوز الثقافات التقليديّة السائدة. وكلّ ذلك مُمكن حدوثه بشرط توافُر الإرادة والرغبة الحقيقيّة في التحديث الفكري والثقافي والتخلّي عمّا لا يتّفق مع العصر، واعتماد العِلم والمعرفة والعقلانيّة كأُسس للمُجتمعات العربيّة، والتحوُّل إلى مُجتمعات مُنتِجة لا مُستهلِكة لأفكار الآخرين الماديّة والفكريّة ومنتجاتهم. وهذا التحوُّل سيؤدّي إلى خلْق ثقافة مدنيّة حديثة ذات طابعٍ إنساني، أي من نتاج الإنسان لا من نتاج الطبيعة، وهذه الثقافة لا بدّ أن تتخلّلها مظاهر ثقافة المُواطَنة والقانون والحفاظ على حقوق الإنسان العربي والدفاع عنها، وإشاعة قيَم الحريّة التي تُمهِّد للتطوير الذي لا يقف عند حدٍّ.
هكذا نحن في أمسّ الحاجة إلى تبنّي ثقافة المُواطنة والديمقراطيّة وحقوق الإنسان استجابةً لمتطلّبات التحرير والتنمية والتحديث، واستخدام العِلم الاستخدام الأمثل، وبخاصّة في إطار التعامُل مع البيئة والعمل على حمايتها، والإيمان بقدرة هذا العِلم على الانتقال بالشباب وبمُجتمعه من التخلُّف إلى التقدُّم، وتقدير قيمة الوقت وفَهم معنى النظام والتنظيم والتخطيط السليم وتحمُّل المسؤوليّة في إدارة شؤون الحياة ومجالاتها.
*أستاذ أصول التربيّة المساعد- كليّة التربيّة – جامعة الإسكندريّة / مؤسسة الفكر العربي