الفوضى الخلّاقة في رواية "الإسكندريّة 2050"
د. سوسن ناجي*
"وهل صحيح أنّ آدم وحوّاء كانا قد نزلا إلى الأرض بمركبة فضائيّة من تلك الأطباق الطائرة التي يتحدّثون عنها قادمين من كوكبٍ آخر، ونظراً لخلل فنّيّ في مركبتهما، فعلقا على الأرض ولم يستطيعا العودة إلى كوكبهما البعيد فقعدا على هذا الكوكب ملومين محسورين وبقى أحفادهما حتّى يومنا هذا معقّدين مُكتئبين.. ولا يشعرون بالسعادة مهما امتلكوا بسبب غربتهم عن وطنهم الأمّ في المكان البعيد؟"
تتخلَّق جماليّات الفوضى في رواية الإسكندريّة (2050) لصبحي الفحماوي من تحطيم المنطق السببيّ، واستبداله بمنطق اللّاوعي المُتشابِك المُعقَّد.
إنّه المنطق المُتفلّت من العلاقات الوصفيّة إلى العلاقات الإبداعيّة التي لا تصوِّر الواقع بقدر ما تخلقه؛ لذا فهي علاقات ديناميّة مُتنامية، انتهاكيّة انزياحيّة متوحّشة، تبدو وكأنّها اجتياحٌ وامتلاكٌ للنصوص والذاكرة والتاريخ وللأزمنة والأمكنة. إنّها كتابة تلتهم كلّ شيء وتستبطنه وتحتويه، لتقدِّم في النهاية نصّاً وحشاً، هجيناً بقدر التهامه للنصوص والثقافات والأجناس الأخرى.
يصف "مشهور شاهر الشهري" المُجتمع المصري، قائلاً: "مجتمع مُتكاتف، متباغض، متضامن، متنافر، محبّ، كارِه، طيّب، حلو المعشر! وكلٌّ منهم يزور السيّد البدوي لغرضٍ في نفس حسنين!".
والفوضى التي أعنيها، هنا، موظَّفة لكونها تنطلق من رؤيةٍ ذات طبيعة دلاليّة لتكون مرآةً تعكس فوضى المُجتمع، وفوضى العالَم. فعلى المستوى السطحي تعكس التشرذُم أو التشتُّت، لكن على مستوى البنية العميقة تنطلق من رؤيةٍ مُغايرة، تعتمد استراتيجيّة الهدم والبناء، لتؤسِّس مفهوماً جديداً للكتابة التي لا تعير اهتماماً للتصنيفات المسبقة، أو الفروق الجاهزة بين الأنواع والأجناس، بين السردي والشعري، بحيث لا يعرف النصّ الحدود ولا يعترف بها.
أغاني الصيّادين تمتزج بحديث الراوي، ولغة أهل الحارة تمتزج بأهازيج الفلّاحات، يقول: "في اللّيلة الأولى من إقامتك رحتَ تسمع طبولاً وأغاني حفل.. وفي وسط الجمع، يحضر شابّ نحيل بملابس وطاقيّةِ صيّادين بحري، ويُغنّي بأغنية تتّسم بالفوضى، وعدم المنطقيّة، بل تصير مقاطع كلماتها أشبه بكلامٍ فارغ دون معنى".
تبايُن الأزمنة والعوالِم المجهولة
والمؤلِّف هنا لا يرتاد التجريب وابتكار عوالم مُختلفة فحسب، بل يستثمر هذه العوالِم في إطار تقنيّات تتجاوز المألوف، بدءاً من أسلوب السرد الذي تُقدّمه الرواية، عبر مشاهد من أزمنة متباينة، في إطار لوحاتٍ تستقلّ كلٌّ منها بعنوانها وأنماط خطابها، وبتكسير الزمن فيها لتتشظّى إلى فسيفساء مُتناثرة، تنطوي كلّ منها على ألوانٍ شتّى من التناصّات واللّهجات التي تحكي عن هذا العالَم الافتراضي.
يقول الأب "شاهر": "خروجك في الإسكندريّة لا يختلف عن خروج آدم من الجنّة، بعده حَدَثَت لأدم لوثة دماغيّة، أو فوضى حواس، أو غموض في الرؤيا.. وهذا ما حدث معك، فلم تستطع لمْلَمة شؤونك.. أوّل الأهداف بعد النكسة هو عودتك إلى أهلك في فلسطين..".
هكذا يؤسِّس صبحي الفحماوي في روايته لكتابةٍ تقوم على سيرورة تهجينيّة، يتوازى فيها النصّ الروائي مع كلّ الأجناس، في انزياحٍ نوعيّ يجعل النصّ الروائي في النهاية غير مُنتمٍ إلى أُسس أيّ نوعٍ أدبيّ دقيق ومحدَّد، لأنّه أصبح نصّاً يضمّ العديد من الأجناس بفعل سيرورة التهجين.. والعلاقة بين كلّ هذه الأجناس معاً لا تخضع سوى لمبدأ التجانُس الكوني الذي يعتمد على تأسيس الروابط بين الأفعال التي لا رابط بينها.
يصف الأب "مشهور" كيف أصبحت الحياة في الإسكندريّة في العام 2050، فيقول: "تنطلق المركبة الجويّة سابحة في الفضاء، والمرأة الآليّة تقودها وتتحدّث معنا، وإذا سألها أحدنا تجيب بقدر السؤال، تخرج علبة دوائك وتبلع حبّة مقويّة لمفاصلك التي تؤلمك بسبب السفر، ثمّ تسألها عن المكان الذي نحن فيه، والمكان الذي نتّجه إليه، فتجيبك بانضباط وصوت رقيق، ولكنّه يخلو من الروح، ومن حيويّة حرارة المرأة..".
كذلك لم يُفلت الشكل الروائي عند صبحى الفحماوي من توظيف التكنيك السينمائي، والإفادة من منجزات العلم والتكنولوجيا، فكانت رواية الإسكندريّة بمثابة اللّغة التي تسابقت إليها هذه الفنون والعلوم المُختلفة، من حيث الوقوف عند التفاصيل الدقيقة والإيحاءات الخاطفة، فضلاً عن طرْح منظوراتٍ عدّة للرؤية... وهي مجموعة من الألوان التكنيكيّة التي من شأنها التعبير عن الحركة الخارجيّة من خلال تحرُّك الصور زمانيّاً ومكانيّاً، وقطْع الحديث من آنٍ لآخر بين الشخصيّات، والتداخُل بين الأزمنة بلا رابطٍ منطقي، والاستعانة بالتداعي الحرّ أو القطع، في الارتداد إلى الوراء أو الاسترجاع... وبدا هذا واضحاً في تجاوُز الأزمنة والأمكنة والمشاهد لديه كما أشرنا آنفاً. فالنصّ هنا يسير بالمتلقّي إلى مناطق وعوالم مجهولة، سواء في الماضي أم في المستقبل، بل يدعوه إلى التخلُّص من كلّ ما يعرفه من أجل اكتشاف معرفة جديدة ورؤىً جديدة. يقول الأب "مشهور"، واصفاً الإسكندريّة الجديدة وما تحمل من رؤىً مُدهشة جديدة: "عند بوّابة مبنى المطار، تقف العربات الفضائيّة الهيدروجينيّة، تحمل الركّاب ثمّ تطير بهم في الجوّ، تقود مركباتنا الكهربائيّة المحمَّلة بحقائبنا، فنصل إلى العربة التي ستقلّنا، تتقدّم امرأة آليّة باسمة، فتضع حقائبنا في العربة، ويقفز كنعان بخفّة مُحتضِناً ’كلبه’ ذا الشعر الأخضر الغزير إلى صندوق العربة، ويتبعه برهان الذي تمسك المرأة الآليّة بيده، ثمّ تُجلسكَ بهدوء إلى جوارهما، وبضغطة زرٍّ من يدها الآليّة، تغلق علينا باب القمرة، وكأنّنا نجلس في مركبة فضائيّة".
فالنصّ هنا ينطوي على ديناميّة تجعله في صورة الوحش الذي يبتلع ويفترس رموزاً وأساطير، أدياناً وثقافات، تواريخاً ونظريّات علميّة ليبدو في النهاية وكأنّه يتوالد إلى ما لا نهاية لتفسير العالَم، وإحياء الذاكرة.
فالرواية، على سبيل المثال، مكوَّنة من ثمانٍ وثلاثين لوحة/ فصلاً، كلّ لوحة تنطوي على قصّة متوالدة من قصص أخرى، ويستمرّ هذا التوالد على مَدار باقي اللّوحات ويتشعّب منها لتدور كلّ قصّة في فلك القصّة الإطار التي تتصدَّر الرواية بضمير الراوي الجماعي الـ نحن، الذي يتحدّث في صدر الرواية: "نحن شبكة إنتاج متخصّصة بالتجّسس على عباد الله، منذ لحظة الولادة وحتّى لحظة الوفاة وبناءً على معلومة تقول: ’إنّ المُحتضِر يتهالك على سريره خلال الساعة الأخيرة من عمره، فيتذكَّر كلّ ما مضى، ويستعيد ذكرياته من المهد إلى اللّحد فتمرّ الأحداث كلّها مضغوطة في مخيّلته بسرعة مذهلة يتذكَّر فيها كلّ شيء وكأنّه يعيش الآن، فإنّ عملنا يقوم على تسجيلٍ رقمي لكلّ ما يدور بخلد الإنسان في تلك اللّحظات الفاصلة’ (...) ’وما نشفطه من ذكريات وأفكار وخيالات ماضية في ذهن الرجل، ونسجّله على قرص مدمج، مدهش حقّاً، تستطيع أن تسمعه بسهولة ويسر على جهاز الخلوي.. فتفضّل يا عم اقرأ ما سجّلناه وحرّرناه، على شكل رواية مدهشة استطعنا أن نُوثّقها ونُبوّبها ونُرتّبها طباعيّاً، في الشريحة المدمجة التالية".
وهكذا تمثَّل الروائي صبحي الفحماوي المنجز الحضاري، فأعطانا نصّاً منحازاً لقضايا الإنسان والإنسانيّة، شكَّل "جيل الخضر" فيه حُلماً بديلاً، لا يعدو كونه بديلاً موضوعيّاً للحروب والشرور التي تسود العالَم بإحلال بشرٍ خُضرٍ يتمتّعون بالرقيّ والنقاء والقدرة على إعمار الكَون، في إطار حياةٍ مُتصالحة بلا صراع: وكأنّ تطهير العالَم لن يتأتّى إلّا بتذويب الفروق بين البشر والحضارات، وإنتاج إنسان أو حيوان (أخضر)، رمز السلام، لا يعتدي على البيئة.
إنّه حُلمٌ مشروعٌ، لكنّه يومض في الوقت نفسه بالحلول التي تكمن في "الذاكرة" وبما تحمل بين طواياها من أحلامٍ ومخاوف. فإذا كانت الأحلام تنهض بإحلال البديل الموضوعي لما هو قائم، فذلك لا يعني أنّ المخاوف من الفناء، بسبب التعدّي على البيئة والحروب والكوارث التي ستُنهي الحياة على وجه الأرض، قد تبدّدت. فالرواية تقدِّم أيضاً إنذاراً وتحذيراً من نهاية الكوكب، تقول "إلزا": "إنّهم يُعدِمون الأرضَ وما عليها!... إنّهم يتجاهلون هذه الأمّ، التي لولاها لما كانت لهم حياة..". وفي الحلم والتحذير إشارات لا واعية إلى الخطر الذي يتهدّد الإنسان على وجه الأرض.. لإحلال التغيير.. وتدارُك الخطر قبل الفناء.
* كاتبة وناقدة من مصر - مؤسسة الفكر العربي