المصادر العربيّة وإشكاليّة النَّظر إليها

د. عبد الله إبراهيم*
يواجه الباحثون في الميراث الثقافيّ والدّينيّ العربيّ القديم مشكلةً لا مفرّ من تسليط بعض الضوء عليها، وهي مشكلة المصادر التي من دونها يتعذّر الاقتراب إلى ضفاف الحقائق، أو حتّى استكناه طبيعتها، فالباحثون في شأن ذلك الميراث يجدّون في الاستثبات من الأحداث، إذا وردتِ الإشارةُ إليها في المصادر اليهوديّة أو الرومانيّة أو السريانيّة، ويرتابون في أمرها، الارتياب كلّه، إذا وَرَدَ ذكرُها في المصادر العربيّة الإسلاميّة. والحال، فإنّ الارتياب بالمصادر الأخيرة، التي يُفترض أن تكون الأوثق صدقيّةً بأحوال ذلك الميراث، غالباً ما يُفقد الوقائع أدلّةً مهمّة بحجّة أصولها الشفويّة، وبأنّها لم تُدوَّن إلّا بعد وقوع الأحداث بمدّة طويلة، ولأغراضٍ فيها من التحيُّز الدّينيّ أو المذهبيّ أكثر من الحرص على إيرادِ الحقائق.
ومن أسف أنّ ما تُعاب به المصادر العربيّة لا تَقع الإشارةُ إليه في غيرها، فالمَصادر اليهوديّة والرومانيّة التي اعتمدت على رواةٍ ما كانوا شهدوا الوقائع، إنّما رُويَتْ لهم من رواةٍ غير معروفين، ودوَّنَها مدوّنون لهم وجهات نَظر مُتباينة، ومع ذلك فهي المُعتمَدة في القول الفصل بشأن أحداث ذلك الميراث العربي، في ما يَقع خفْض صدقيّة المصادر العربيّة الإسلاميّة.
طُعن في صدقيّة المصادر العربيّة الإسلاميّة من مُعظم جوانبها، ولم يَسلم شيءٌ كثير منها، سواء من أهلها أم من المُستشرِقين، ويعود ذلك إلى أنّه لم يَقع النَّظر في الأخبار بذاتها، إنّما نُظِر في هويّة رواتها، وفي انتماءاتهم الدّينيّة، والمذهبيّة، والعرقيّة؛ فهُم، إمّا من العرب، وإمّا من الموالي، وإمّا من هذه الطائفة، وإمّا من تلك، وإمّا من هذه القبيلة، وإمّا من تلك، وعلى ذلك المنوال غَلَبَ النّظرُ في أحوال الرواة على النَّظرِ في أخبارهم، حتّى أنّ تاريخ الإسلام كُتب في ضوء تلك الانتماءات الافتراضيّة.
ومع أنّني لا أنكر أنّ للرواة ميولَهم المتّصلة بأحوالهم الاجتماعيّة والدّينيّة والعرقيّة، فليس يصحّ جَعْل ميولهم الذاتيّة دليلاً على صدق أخبارهم أو كذبها، فذلك يُجرّدهم من النزاهة الأخلاقيّة، ويَجعلهم ناطقين بألسنِ طوائفهم، وقبائلهم، وأعراقهم، وهو أمر إنْ لم يكُن ملفّقاً عليهم، فهو ليس بصحيح. والإقدام على معالجة الأخبار في ضوء الانتماءات الافتراضيّة للرواة لا يتوافق مع المناهج الموضوعيّة، فيلزم النَّظر إلى بِنية الخبر، وإلى محمولاته، وإلى سياقه، وإلى خِبرة الراوي، ومدى إحاطته بما يَروي، وبُعده الزمني عن عصر وقوع الأحداث، والنأي بالنَّفس عن تقويل الرواة، بما لم يقولوا إلّا إذا صرّحوا بشيءٍ يدعو للارتياب، وهو إن لم يكُن نادراً، فلا يكاد يكون له أثرٌ في رسْمِ تاريخ الإسلام.
كان السياق الدّيني والثقافي للجماعة الإسلاميّة هو الموجِّه الرئيس في رواية الأخبار، والاشتباه في ذِمم الرواة من دون قرينةٍ ينتهي بتخريب المصادر الأصليّة. فالباحثون المُحدثون، من عربٍ ومن عَجم، يُسقطون تصوّراتهم على أحوال رواةٍ عاشوا قَبل أكثر من ألف سنة، ويُنطقونهم بما يريدون، ويَنتهون إلى نتائج تَستجيب لأهوائهم، أكثر ما تنفرز عن مضامين الأخبار التي وصلتْ إليهم، فلا غرابة أن يقعَ التقليلُ من قيمة المصادر القديمة، ويُصار إلى التنقيبِ عن أعظم الأحداث التي شَهدها تاريخُ الإسلام، بما في ذلك ظهوره، في مصادر أجنبيّة لم يكُن في واردها الانصراف إلى أحوال العرب والمُسلمين. حتّى أنّ ذكرهم فيها وَرَدَ عَرَضاً لا قصداً. ويُصادِف كلَّ باحثٍ رامَ الغَوْصَ في تواريخ الأقوام القديمة في مناطق شبه جزيرة العرب، وبلاد الشام، وبلاد النيل، وبلاد الرافدين، أمرٌ جديرٌ بلفْت الانتباه إليه؛ فالأقوام التي وَرَدَ ذكْرُها في التوراة وحواشيها جرى تخليدُها، واعتُرف بوجودها، فيما الأقوامُ التي لا ذكر لها في المصادر اليهوديّة وقعَ، إمّا إنكارُها وإمّا الارتيابُ في حقيقةِ وجودِها.
ظَهَرَ تفاضُلٌ بين صدقيّة المصادر التوراتيّة والارتياب بغيرها، فالأغيار غير مُتاح الاعتراف بهم من دون دعْمٍ من التوراة، ونَتجَ عن ذلك أن وَقَعَ التسليمُ بالمرويّات اليهوديّة، واعتبارها مصدراً موثوقاً لا يطاله الشكّ، وعليها رُسِم تاريخُ تطوُّرِ الجنس البشريّ، وتفرّعاته العرقيّة، وتجاربه الدينيّة. ليس غايتي من ذكْرِ تلك المُفارَقة إبطال مقوّمات الرواية التوراتيّة للتاريخ البشري، فقد جرى الأخْذ بها بكثيرٍ من عدم التحقيق، ولكنْ يلزم القول، إنّها تاريخ ديني لا فَرْقَ بينه، من ناحية المَبنى والمعنى، عن الرواية القرآنيّة الحاملة مجازيّاً لشيءٍ كبير من أحوال العرب، وتضاعَفت المُفارَقة، فحيثما وَردتْ إشارةٌ قرآنيّة داعِمة للرواّة التوراتيّة، عُدَّ ذلك دعماً مُضافاً لها، وحيثما تفرَّدَ القرآنُ بذكْرِ أقوامٍ لم تُشِر لهم التوراةُ وَقَعَ انكارهم.
لا تكاد تقرّ البحوث الغربيّة في حقول الأديان والتاريخ بأمرٍ لم يَرِد ذكرُه في التوراة، فهي المُعتمَد الذي به تُعتمد الأحداث أو تُنفى في ديار العرب، حتّى وإن انصرفتْ جهودُ معظم الباحثين إلى المُطابقة بين ما أشارتِ التوراةُ إليه من أحداث، وما وقعَ فعلاً في التاريخ، فليس في واردهم اكتشاف أمر جديد، إنّما إثبات صدقيّة التوراة. لقد ترحَّلَ الرحّالةُ في كثيرٍ من بلاد العرب، ونَقَّبَ المُستشرِقون في متون الثقافة العربيّة القديمة، ولم يُعترف بأمرٍ لم يَرِد ذكرُهُ في التوراة، وإن حدثَ فعلى مَضَض. فالأفكار تدور في أُفق التوراة، وما تجاسرت الخروج إلى ما هو أوسع، وأشمل، وهو الذاكرة العربيّة، ليس لأنّ التوراة غير مُهمّة، إنّما لأنّها لم تَستوفِ إلّا أقلّ ما حَدَثَ للعرب، فاهتمامُها انصبَّ على العبرانيّين، فهُم مِحورُها في استقطابِ الأحداثِ إليهم أو صدورِها عنهم، وإذ قامت على التخييل لا التوثيق، فليس هدفُها أن تكون مَرجعاً مُعتمَداً، فلا تعدو أن تكون استقصاءً سرديّاً غايته صَوْغ هويّةِ جماعةٍ دينيّة عانتِ المِحن، وأُريد منها صوْنُ هويّة تلك الجماعة، ومنْعُها من الذوبان، بإنشاء المرويّات أو بتحويرها بما يؤدّي ذلك الغَرَض.
ومعلومٌ أنّ التوراةَ خَضعتْ في تجميعها لعوامل الزمن، واستغرقَ تحريرُها القرونَ الستّةَ الأخيرة قَبل الميلاد، وانكبَّ على تصنيفِ مَتنِها كثيرٌ من المؤلِّفين، أودعوا فيه، ما استقرَّ لديهم من الموروث اليهودي، ومن بين ذلك التجارب الروحيّة، والطقوس الدينيّة، والشعائر الأسطوريّة، الشائعة بين اليهود، والأُمم المُجاوِرة لهم، والإسلام هو الذي أقرّ بأنّها مُنزَلة من الله على موسى كاملةً ومصدّقة، غير أنّها تعرَّضت للتحريف من قِبل الأحبار بتعاقُب الأزمان، وتغيُّر الأحوال، إذ بدَّلوا وغيَّروا بأن "زادوا فيها، ونقصوا منها" وإلى شيءٍ من ذلك ذهبَ الطبري، بالقول إنّهم غيَّروا في قول الله، فكانوا "يبدّلون معناه، وتأويله، ويُغيّرونه". وإن كانت مهمّة في صوْغ هويّة اليهود، كما أنّ القرآن مُهِمٌّ في صَوْغِ هويّة المُسلمين، فكلاهما غير مَعنيّ بحمْلِ تجارب الأُمم الأخرى.
خطورة تربُّع المرويّات اليهوديّة
ولم يَقتصر الأمر على الباحثين الغربيّين في العصر الحديث، إنّما كان تقليداً عند الإخباريّين والمؤرِّخين والمُفسِّرين والقصّاصين المسلمين، قَبل ألف عام، حينما انتقلتِ الثقافةُ الإسلاميّة من حقبةِ التأسيس إلى حقبةِ التأصيل، فكان أن جرى تلفيقُ جذورٍ بعيدة العَهد لمرويّاتٍ إخباريّة وسرديّة بهدف خلْع الصدقيّة عليه، ولم يكُن مُتاحاً لأحدِ الخروج على التفكير بأنّ صدْق الأخبار، لا بدّ أن يكون مؤيَّداً بالموروث الكتابيّ القديم، فهو المَنبع، وهو الأصل، وما عداه استمرارٌ له، وليس موازاة له؛ فلمّا بدا وكأنّ وعاءَ الذاكرة الشفويّة فارغٌ من أخبار الأوائل، فيلزم ملؤه بأخبار الأُمم الكتابيّة، ثمَّ تخييل ما يترتَّب عليه، ويدور في مجاله، ويكتسب شرعيّة من الاهتداء به، وبذلك تربّعت المرويّاتُ اليهوديّة في قَلب المرويّات التاريخيّة والدينيّة والسرديّة، وأضحت جذراً من جذورها، وما لبثت أن ازدهرت بعدما شقّت التوراةُ طريقَها إلى العربيّة في القرن الثالث الهجري، وبعدما تعرّبتْ لغةُ أحبار اليهود في بلاد العرب.
لا جدوى من إنكارِ صِلات التفاعُل بين الثقافات، دينيّة أكانت أم تاريخيّة أم أدبيّة، على ألّا يَقع القول بأنّها نسخٌ مُتطابقة، تصوغ السابقةُ منها محتوى اللّاحقة، فتكون الأخيرةُ تابعةً للأولى؛ فذلك، إن حصلَ ينتهي بتفاوُتٍ قائمٍ على التفاضُل بين أُممٍ موهوبة وأُممٍ خاملة، وبين أُممٍ متبوعة وأُممٍ تابعة، وبين ثقافاتٍ أصليّة وثقافاتٍ دخيلة، فلا تُعرف الأخيرة إلّا في هدي الأولى، والاعتماد على ما جاء في المرويّات اليهوديّة يؤكِّد تبعيّةً عمياء لمرجعيّةٍ أَرغمتِ الباحثين على اعتبارها الوحيدة في استقصاء الماضي، وذلك ينمّ عن خمولٍ عقليّ جانَبَ جسارة البحث، وتحمُّلِ أعبائه، ولاذَ بما لا يجوز للبحث الانتهاء إليه، أقصد بذلك: مُقايَسة موروثِ أُممٍ كثيرة بتراثِ أُمّةٍ واحدة، واعتباره المعيار الفاصِل في صدْقِ الحدوث أو كذبه.
ويَعرف بعض القرّاء كيف انطلقَ الرحّالةُ وعُلماءُ الآثار الغربيّون، منذ القرن الثامن عشر، في هدي ما ذَكرته التوراةُ إلى بلاد النيل، وبلاد الرافدين، وبلاد الشام في حملاتٍ غايتُها إثبات صدْق ما ذُكر في لفائف التوراة، حتّى بدا أنّ الشاغلَ العِلميّ لم يكُن في واردهم، إنّما البحث عمّا يُثبت صدقَ الأحداث المذكورة في التوراة.. كان إثبات صدق القراءة التوراتيّة، بإنزال أخبارها على الواقع، هاجساً أصيلاً من هواجس كثيرٍ من الآثاريّين والمُستشرِقين، ومع أنّ مُسلّماتِها أُبطلتْ من الناحية المعرفيّة، منذ مدّة طويلة، فما برح تأثيرُها في الخيال الثقافي والتاريخي فاعِلاً. وإلى جانب الاعتماد على التراث اليهودي في تحقيق أخبار الأقوام العربيّة وثقافاتِها ومُعتقداتِها قَبل الإسلام، دخلَ معيارٌ آخر للصواب، وهو إمّا النقوش الآثاريّة، أو المدوّنات الرومانيّة، والآراميّة، والسريانيّة المتأخّرة. فإنْ ذُكر فيها شيءٌ من أحوال العرب، فذاك يُثبت صدقَ حدوثِها، وشملَ ذلك حتّى تاريخ الإسلام طوال القرن الهجري الأوّل، فلم يُعتمد منه شيءٌ لم يَرِد ذكره في المدوّنات السريانيّة، وما دامت نقوشُ بلاد العرب، في معظمها، لم تُقرأ بعدُ، أو في أقلّه، لم تُفكّ شفرات أكثرها إلى الآن، أو أنّ المدوّنات الرومانيّة والآراميّة لم تتطرَّق إلى أحداثٍ بعيدة عن مواطنها، وليس من شأنها الاهتمام بما وقَع فيها، فقد حامَ الشكُّ حول معظم ما شهدته بلادُ العرب من أحداث، حتّى أنّ ظهور الإسلام محفوفٌ بالشكوك، وكأنّه ظاهرة طَرأت في ما بَعد، وكُتب لها تاريخٌ خاصّ بها.
وفي ضوء التحيُّز الأعمى، إمّا للمدوّنات الكتابيّة اليهوديّة، والرومانيّة، أو السريانيّة، وإمّا للنقوش الآثاريّة التي لم يَقع الإلمام بها، وربّما لم تُعنَ بذلك، فتواريخ الأُمم وأديانها لا تُنقش على الصخور، إنّما تُروى بالألسنة، وقعَ شِبْهُ إنكارٍ لمخزون الذاكرة الشفويّة الذي انصهرَ في موروث العرب، وشكَّل هويّتَهم، وذلك إنكارٌ لأهميّةِ ذخيرةٍ تولَّت حَمْلَ موروثهم الدّيني والتاريخي والأدبي، وفيها يُمكن العثور على المطالب الخاصّة بهم بعد تقييدها في عصر التدوين، وتصْفيتها بالرواية الشفويّة قَبل ذلك. ومع الإقرار بأنّ تلك الذاكرةَ لم تَسلم من التلفيق، والخَلْط، والطَّمْس، والإضافة، والحَذْف، بفعل الصراع الدّيني والدّنيوي، فهي المؤهَّلة للبتّ في ما كانت عليه أحوال أهلها، وليس في استعارةِ ذاكرةٍ أخرى لها قيمتها في السياق المرجعي الخاصّ بها. ولستُ أنكر التفاعُلَ في الثقافات والمُعتقدات، ولكن لا أقبل بإبدال ذاكرةٍ بذاكرةٍ تحت أيّة ذريعة. وإلى ذلك، فلَم يُنظر إلى القرآن، باعتباره كتاباً طوى في سورِه أخبارَ الأُمم، وأخبارَ العرب، كما نُظر إلى التوراة، فإذ جُعل الثاني مُعتمداً لا غبار على كلّ ما وَرَدَ فيه، فلم يُنظر بعَيْن التقدير للأوّل، وكلّ ما حظي به القول إنّه انتسخ أخبار الأوّلين، وجَعَلَ من ملوك بني إسرائيل أنبياء الله.
لا يُنكر دَور الثقافات الشفويّة في حمْلِ أحداث الماضي إلى الحاضر، وإن كان من غير الصحيح تأكيد دقّتها بالمُطلق؛ فهي لا تحملها بما وقعتْ به، إنّما تتولّى تنقيتها، وقد تختزلها، وربّما تكبحها، أو تضيف إليها. وفي جميع الأحوال تُعيد تأويلها، فهي جذرها المكوِّن لشجرتِها. وتقييدها بالكتابة هو تثبيتٌ آخر، صورةٌ لها من ناحية الحامل اللّغوي والمحمول الدلالي، وذلك قانونٌ ثقافيّ يَشمل ثقافاتِ الأُمم القديمة كلّها، ولا يَختصّ بهذه من دون تلك. فالشفويّة نظامٌ عريق طوَّرَ أدواتِ خزْن، وأنظمةَ حفْظ، وادّخر ما رآه مُهمّاً ومُفيداً وقابلاً للتداوُل، واستمرَّ يؤدّي وظيفتَهُ آلافاً من السنين، ومقايسته بالنظام الكتابي، وإخضاعه لشروطه، ليست في مصلحة الاثنَيْن، لاختلاف الوسائل، والغايات، والمرجعيّات، وحقب التاريخ، إنّما حَدَثَ ذلك، لأنّ النظامَ الكتابيّ استبدَّ بالتفكير والتعبير في العصور الحديثة، وانتهتْ به الحال إلى عدم تقدير أهميّة النظام الشفوي، يعود ذلك لابتعاد الزمن بالأخير، وللجهل بمُقتضياته، ولشروط حمله للأخبار والمعارف، من جهة أولى، ولمرونة محتوياته، وتعدُّد طبقاتها، وأخْذه بالاحتمال، وليس القَطع، لاعتماده على الرواية والإسناد، من جهةٍ ثانية.
وفي حال المُقارَنة، وهي ضروريّة، فلا تصحّ المُفاضَلة، إنّما بيان الطرائق، وإظهار الأساليب، وقبول النتائج، وإلّا أَبطلَ النظامُ اللّاحق مكاسبَ السابق، وقوَّضَ ما انتهى إليه. وإذ حملتِ المصادرُ اليهوديّة أخبارَ العبرانيّين، والملاحِمُ والأساطير أخبارَ الإغريق، فلماذا يُنكر على القرآن حمْل أخبار أهله؟
أردتُ لفْتَ الانتباه إلى أنّ معايير نخل الحقائق متباينة بين الأُمم، ولكلّ أمّة طُرُقُها التي بها تتحقَّق من موروثِها، وتُحافظ فيها على ذاكرتِها، وليس من الصواب تغليب ثقافة أمّة على ثقافةِ أمّةٍ أخرى بدواعي الدقّة والموضوعيّة.
*باحث وناقد من العراق