مُراسلات محمّد إقبال مع الشيخ المراغي

news image

د. صاحب عالِم الأعظمي الندوي*

يحظى أدبُ المُراسلات بمكانةٍ مرموقة في الثقافتَيْن الشرقيّة والغربيّة على حدٍّ سواء؛ فالرسائل الرسميّة وغير الرسميّة تكشف جوانب عديدة لشخصيّات كاتبيها ومتلقّيها، وأيضاً ما تتّسم به هذه المُراسلات من حيث الصور البيانيّة والأسلوب اللّغويّ والأدبيّ...إلخ، كما أنّها تُقدّم لنا موادّ غزيرة ومفيدة عن العصر والمُجتمع اللّذَيْن عاش في بيئتهما كلٌّ من الكاتب والمتلقّي.

أمّا مُراسلات المشاهير والأدباء والمفكّرين، فلها قيمة أدبيّة وفكريّة وتاريخيّة من نَوعٍ فريد؛ حيث تُساعدنا على سبْرِ أغوار طبائعهم وأفكارهم ونفسيّاتهم وفلسفتهم في الدّين والحياة، فضلاً عن معرفة أنماط التفاعُل والتواصُل في ما بينهم؛ ولذلك يهتمّ الباحثون والدّارسون برسائلهم ويجمعونها ويدرسونها وينشرونها في صورٍ عديدة.

وفي ما يخصُّ مُراسلات مشاهير العُلماء والأدباء والمفكّرين الهنود، فثمّة نماذج كثيرة لها قديماً وحديثاً، ومنها مُراسلات الشاعر والمفكّر الإسلامي محمّد إقبال (المتوفّى 1356هـ/1938م) الذي كَتَبَ في أحدها: "مُراسلات الأدباء والشعراء الخاصّة تُلقي الضوء على الجوانب العديدة من حياتهم العلميّة والأدبيّة؛ وعليه، يُفضَّل أنْ تُنشر مُراسلاتهم الرسميّة وغير الرسميّة في كُتب". غير أنَّ المُراسلات الأرديّة سواء لمحمّد إقبال، أم غيره من العُلماء والأدباء الهنود لم تُدرَس دراسةً وافية، على الرّغم من أهميّتها الكبرى.

تبرز مكانة محمّد إقبال في تاريخ الأدب الأردي والفارسي من خلال أعماله الشعريّة على وجه العموم. فأشعاره وقصائده الأرديّة والفارسيّة تُظهر مكانته الفلسفيّة والدينيّة والأخلاقيّة في أعماله المنشورة، كما أنّه تَرَكَ ثروةً علميّة كبيرة في مجال النثر، غير أنَّ القليل من العُلماء والأدباء اعتنوا بتلك الثروة بما يكفي، على الرّغم من أنَّ أعماله النثريّة - ولاسيّما مُراسلاته ومُحاضراته - لا تقلّ أهميّتها عن أعماله الشعريّة. فقد كان شخصيّةً فكريّة ومتحرّكة، وتواصَل من خلال مُراسلاته مع الشخصيّات الأدبيّة والفكريّة والسياسيّة الإسلاميّة وغير الإسلاميّة داخل الهند وخارجها. وإذا غضضنا النَّظر عن أعماله النثريّة الأخرى التي كَتبها في مجالات الفكر والتربية والأخلاق والسياسة، فإنَّ لمجموعات مُراسلاته التي تقع في نحو ثلاث عشرة مجموعة مستقلّة، الصدارة بعد مجموعاته الشعريّة. وعند مُطالَعة مُراسلاته الموجزة والمسهبة مطالعةً دقيقة، يتّضح تماماً أنّها المصدر الرئيس لفهْمِ أفكاره الفلسفيّة والدينيّة والأخلاقيّة والحضاريّة التي نظمها في أشعاره وقصائده، وتفسيرها، وفهْم شخصيّته وجوانبها المُختلفة، بخاصّة طبيعة علاقاته بمُعاصريه من العُلماء والأدباء والمفكّرين، كما أنّها تُعطينا صورةً واضحة عن الحركات السياسيّة والفكريّة والأدبيّة التي نشطَت في شبه القارّة الهنديّة إبّان تلك الحقبة التاريخيّة.

كَتَبَ محمّد إقبال مُراسلاته باللّغات الإنكليزيّة والأرديّة بالدرجة الأولى. ولعلّ كلّاً من الدكتور محي الدّين قادري زور، والشيخ عطاء الله من أوائل المُهتمّين بمُراسلات محمّد إقبال، فقاما بجمع مُراسلاته ورقعاته وترتيبها ونشْرها في مجموعاتٍ مستقلّة. وفي أثناء مُطالَعة مُراسلاته في إحدى مجموعاتها المُعَنْوَنة بـ"خطوط إقبال" التي جَمَعَها الشيخ رفيع الدّين هاشمي ونَشَرَها في العام 1396هـ/1977م، عثرتُ في صفحتَيْ رقم 285، 289 على رسالتَيْن باللّغة العربيّة، أحدهما كَتبها محمّد إقبال إلى الشيخ محمّد مصطفى المراغي (المتوفّى 1364هـ/1945م) شيخ الأزهر آنذاك، وثانيهما ما كَتب الأخير ردّاً على محمّد إقبال. وقبل تعريف تلك الرسالتَيْن، وخلفيّتهما التاريخيّة ودراسة مضامينهما، يجدر بي أنْ أكتب نبذةً مُختصرة عن سيرتَيْ كاتبَيْ الرسالتَيْن.

كان محمّد إقبال شخصيّة علميّة وفكريّة وأدبيّة وشعريّة معروفة، وهو غنيٌّ عن التعريف في الشرق والغرب، فقد اشتُهر بوصفه مفكّراً وشاعراً إسلاميّاً في الساحة العلميّة والثقافيّة. ودعا إلى تجديد الفكر الإسلامي وإحياء النظريّات السياسيّة والروحيّة للحضارة الإسلاميّة، وتجلّى ذلك في أعماله المنظومة والمنثورة على حدٍّ سواء. ومن المعلوم أنّه دَرَسَ اللّغة العربيّة في مرحلتَيْ اللّيسانس والماجستير في الهند قبل سفره إلى إنكلترا لاستكمال دراسة الدكتوراه، ومارسَ تدريس اللّغة العربيّة في الكليّة الشرقيّة في مدينة لاهور لمدّة أربع سنوات، كما أنّه عمل أستاذاً للّغة العربيّة في معهد الدراسات الشرقيّة والإفريقيّة في جامعة لندن لبضعة أشهر. وهو يستحقّ بجدارة لقب الشاعر القرآنيّ، فمُعظم قصائده وأشعاره في ظلّ القرآن ومن وحي القرآن، حيث استلهمه وناجاه واستنطقه وحاكى به الأمّة الإسلاميّة ودَورها الحقيقيّ في الحياة والكَون. غير أنّه لم يجعل اللّسان العربي أداةً للتعبير عن كلماته وأفكاره المنظومة والمنثورة؛ ومن ثَمّ، كانت كتاباته باللّغة العربيّة قليلة للغاية، ومنها هذا الرسالة المبعوثة إلى الشيخ المراغي.

وعلى صعيدٍ آخر، كان الشيخ محمّد مصطفى المراغي ذا مكانة خاصّة بين عُلماء الأزهر الذين تولّوا مَشيخة الأزهر. وقد اشتهرَ بمواقفه المشهودة في المسائل الدينيّة والتعليميّة والاجتماعيّة. وهو أوّل مَن حاولَ تطوير المنهج التعليمي الأزهري تطويراً جذريّاً، مع الخروج من نِظام الأروقة إلى إنشاء كليّات وأقسام وشُعَب وفقاً لمتطلّبات العصر، ووضَع قانون الأحوال الشخصيّة في مصر، كما فَتَحَ بابَ الاجتهاد في المسائل الدينيّة، داعياً إلى التوحيد والتقريب بين جميع المَذاهب والمَسالك الإسلاميّة. وعمل خلال مدّة مشيخته على أنْ تمتدّ جهود الأزهر العلميّة والفكريّة المُعتدلة من النّطاق المحلّي إلى النّطاق العالَمي.

أهميّة رسالة محمّد إقبال

تكمن أهميّة رسالة محمّد إقبال في أنّها الرسالة الوحيدة باللّغة العربيّة التي عُثر عليها حتّى الآن، كما أنَّ مضمونها يكشف اهتمام العُلماء والمفكّرين الهنود بإنشاء المعاهد والمؤسّسات التعليميّة، وحرْصهم على استقدامِ العُلماء العرب لتدريس العلوم الإسلاميّة والعربيّة فيها. ولعلَّ من المناسب الإشارة هنا إلى أنّه لا توجد الفقرة الأخيرة من النصّ العربي لرسالة إقبال، في حين وضع جامعُ مُراسلات إقبال الترجمةَ الأرديّة لها؛ بيد أنّنا لا نعرف على وجه التحديد لماذا لم يَضع النصَّ الكامل للرسالة العربيّة في هذه المجموعة؟ ولا ريبَ أنّه وقفَ على النصّ العربيّ الكامل وإلّا لما كان بإمكانه ترجمة الرسالة كاملةً بالأرديّة. وكنتُ أتوقّع أنّني سأجدُ النصَّ الكامل في مجموعة أخرى لمُراسلات محمّد إقبال التي جَمعها ورتَّبها الشيخ عطاء الله بعنوان "إقبال نامه" الجزء الأوّل، (ص 251-253)، غير أنّه هو الآخر لم يَضع النصَّ العربي البتّة، واكتفى بوضْع الترجمة الأرديّة فحسب، بيد أنَّ الترجمة الأرديّة هي الأخرى ناقصة. ثُمّ بحثتُ عنه في مجموعات مُراسلات إقبال الأخرى دون جدوى؛ ومن ثَمّ، اضطررتُ إلى ترجمة الفقرة الأخيرة للترجمة الأرديّة لكي تتّضح الصورة الكاملة. وكذلك لا تحمل رسالة إقبال أيَّ تاريخ، غير أنّه يتّضح من جواب الشيخ المراغي أنَّ الرسالة حرَّرها إقبال في 5 آب/ أغسطس من العام 1936.

أمّا عن الخلفيّة التاريخيّة، فتُعنى رسالة إقبال إلى الشيخ المراغي بتأسيس معهد تعليمي وبحثي، وبمسألة اختيار بعض العُلماء والمُتخصّصين في العلوم العربيّة والإسلاميّة، وكيفيّة استقدامهم إلى ذلك المعهد لتفعيل نشاطاته العلميّة والبحثيّة. والسؤال المطروح هنا: لماذا فكَّر محمّد إقبال ورفقاؤه في تلك الفترة التاريخيّة تحديداً في إنشاء مثل هذا المعهد التعليمي والبحثي؟ وكان لابدَّ من البحث عن مصدرٍ موثوق للإجابة عن هذا السؤال، ووجدتُ ضالتي في كِتاب "حيات سديد: باني دار الإسلام، چودهري نياز علي خان". ووفقاً لما جاء فيه، فإنّه ظَهَرَ شخصٌ فاضلٌ يُدعى چودهري نياز علي خان (المتوفّى 1395هـ/1976م) في الساحة التعليميّة والثقافيّة في إقليم پنجاب. وكان چودهري يعمل مهندساً في مصلحة الريّ والهندسة المدنيّة في تلك المنطقة. حصل چودهري على سُمعة طيّبة في عمله من خلال تنفيذ العديد من المشروعات التنمويّة والهندسيّة، وهو الذي صمَّم مخطّطاً لإنشاء النَّفق الطويل داخل مَناجِم خيروا الملحيّة في پاكستان، التي تُعدّ أكبر مَناجِم الملح في العالَم.

مَنَحَهُ نائب الملك والحاكِم العامّ للهند فريمان توماس لقب "خان صاحب" في العام 1349هـ/1931م نيابةً عن الحكومة البريطانيّة الهنديّة؛ تقديراً لخدماته العامّة المثاليّة على مدى ثلاثين عاماً. تقاعَدَ چودهري في العام 1353هـ/1935م، وعاد إلى مُمتلكاته الشاسعة في جمالپور في محافظة پهتان كوت لإدارة أراضيه الزراعيّة التي كانت تمتدّ على مساحة ألف فدّان. وتجلَّت طبيعته الخيّرة في التبرُّع بماله وأراضيه بسخاء لحلّ القضايا التعليميّة والاجتماعيّة المُختلفة، ومَنْحَ المؤسّسات الخيريّة والتعليميّة المُختلفة نصيباً من ثروته، ولاسيّما في شكل أراضٍ. ولم يكُن يُميِّز قَطّ بين المُسلمين وغير المُسلمين في أعماله الخيريّة، غير أنّه كان دائماً قلقاً بشأن الأوضاع المُتردّية للمُسلمين، والأخطار المحدقة بهم في القارّة الهنديّة. وقد ذاع صيت چودهري، إلى أنْ أصبح عضواً في حزب رابطة مُسلمي عموم الهند، وشاركَ في الحركة الباكستانيّة الداعية إلى إنشاء منطقة خاصّة ذات أغلبيّة مُسلمة في الهند البريطانيّة. وسرعان ما لفتت سُمعتُه انتباهَ محمّد إقبال، الذي نصحَ چودهري بإنشاء معهد أبحاث للتعليم الإسلامي، مهمّته نشْر التعليم والتنوير بين المُسلمين، لمُساعدتهم على التقدُّم والتطوُّر في التعليم والدّين والسياسة، بخاصّة أنّه منذ سقوط الدولة المغوليّة وظهور الدولة البريطانيّة المُستعمِرة، تخلَّف المسلمون دينيّاً وتعليميّاً وسياسيّاً واقتصاديّاً واجتماعيّاً تخلُّفاً شديداً، ما جَعَلَهم مُهمَّشين في المجتمع، بخلاف الهندوس الذين تقدَّموا في التعليم والسياسة. ولقد شَعَرَ إقبال، الذي كان يروّج لفكرة إنشاء دولة منفصلة للمُسلمين في الهند، بأنَّ مثل هذه المؤسّسات التعليميّة والبحثيّة ضروريّة لتعليم جيل جديد من القادة المُسلمين قبل إنشاء دولة إسلاميّة مُنفصلة، يُسنَد إليهم الدور القيادي في الدولة الإسلاميّة الناشئة.

ونتيجةً لتأثُّر چودهري الشديد بأفكار محمّد إقبال وبرؤيته الثاقبة لمسائل مُسلمي الهند، أَنشأ في العام 1354هـ/1936م، وبموجب نصيحته، "صندوق دار الإسلام" الذي سُجِّل بموجب قانون تسجيل الجمعيّات لعام 1276هـ/1860م، وتبرّع بنحو ستّين فدّاناً من أرضه الشاسعة عُرفت باسم "مَزارِع جمال پور للفاكهة" الواقعة في منطقة گورداسپور في إقليم پنجاب، من أجل تأسيس معهد دار الإسلام المتّحد الأوّل. ولعلَّ من المُناسب أنْ نقتبس هنا بعض الفقرات من مقالٍ أرديّ كَتبه چودهري ونَشره آنذاك بعنوان "دار الإسلام كي حقيقت" أيْ: "حقيقة مشروع معهد دار الإسلام"، حيث كَتب قائلاً: ثمّة فكرة تراودني منذ مدّة، هي أنّني بعد التقاعُد من العمل سأتفرّغ في حياتي المُتبقيّة للعمل في خدمة الدّين، وسأصرف إمكاناتي المحدودة على إنشاء المؤسّسات التعليميّة... ولأجل ذلك زرتُ محمّد إقبال وتحدّثتُ إليه حول الموضوع، وبعد استماعه لحديثي أخبرني العلّامة بمشروعٍ مُشابه كان هو الآخر يفكّر في تنفيذه منذ مدّة. وكانت الفكرة الرئيسة لهذا المشروع هي تشييد مدينة عِلميّة في منطقةٍ هادئة، حيث تنشأ بيئة إسلاميّة خالصة، تتربّى فيها جماعةٌ من الشبّان من ذوي العقول النيّرة والقلوب الطاهرة والأرواح الزكيّة، ويتأهّلون للقيادة العلميّة والدينيّة السديدة للعالَم الإسلامي. وبناءً على تصوُّر سيادته وخطّته السديدة، فقد أوقفتُ قطعة أرض تزيد مساحتها على الستّين فدّاناً لأجل إنشاء معهد تعليم القرآن والعلوم الإسلاميّة، وبدأنا في بناء المنشآت الضروريّة مثل المسجد ودار لتحفيظ القرآن والمكتبة ودار الإقامة وحيّ سَكَنيّ مُتكامل للأساتذة والموظّفين والعمّال العاملين فيها... وفي تلك الأونة اتّفق لي التواصل والحديث مع الشيخ سيّد أبي الأعلى المودودي (المتوفّى 1399هـ/1979م) عن هذه المؤسّسة عن طريق المُراسلات. وحينما تحدّثتُ إلى إقبال بهذا الصدد، رأى أنَّ الشيخ المودودي سيكون الشخص المناسب لهذه المؤسّسة العلميّة والبحثيّة. وقد تمخَّضَت عن كلِّ ذلك زيارة الشيخ المودودي للمكان في العام 1355هـ/1937م، واصطحبتُه لزيارة إقبال الذي اجتمع معه ثلاث مرّات وناقشَا الموضوع مُناقشةً مفصَّلة، إلى أنْ قرَّر الشيخ الانتقال من إمارة حيدر آباد الدكن إلى هذه المؤسّسة التي سمّاها هو نفسه "دار الإسلام" (مجّلة صحيفة، عدد إقبال، جـ1، ص 229-230).

ومن أهداف صندوق دار الإسلام، تكريس جميع الوسائل المشروعة للبحث في العلوم الإسلاميّة، وترويج الثقافة الإسلاميّة، ونشْر الأعمال المطبوعة في مجال العلوم العقليّة والنقليّة. ومن العُلماء والمفكّرين الذين شاركوا في مشروع إنشاء دار الإسلام: الشيخ أمين أحسن الإصلاحي (المتوفّى 1417هـ/1997م)، والشيخ صدر الدّين الإصلاحي (المتوفّى 1418هـ/1998م)، وكلاهما من العُلماء المتخصّصين والبارعين في علوم القرآن والثقافة الإسلاميّة، والمفكّر الإسلامي محمّد أسد (المتوفّى 1412هـ/1992م)، وميان نظام الدّين اللّاهوري، والمحامي محمّد يوسف، وچودهري رحمت علي، والشيخ فتح الدّين وغيرهم.

وأصبحت المعاهد التّابعة لدار الإسلام المتّحدة التي أنشأها چودهري ورفقاؤه نموذجاً للجهود المؤسّساتيّة الإسلاميّة في الهند وپاكستان في منتصف القرن العشرين، لإعادة تأسيس ثقافة التعليم والتعلُّم والبحث والدراسة في العالَم الإسلامي، لدعْم التنوير الفكري والإصلاحي والاجتماعي. ثُمّ أُصدرت مجلّة علميّة باللّغة الأرديّة في العام 1358هـ/1940م بعنوان "مجلّة دار الإسلام الشهريّة" لتكون لسان حال تلك المؤسّسة وأفكارها. وكانت تهدف في المقام الأوّل إلى تنمية الوعي الديني والسياسي والاجتماعي لدى المُسلمين بالقضايا الوطنيّة الملحّة، والدعوة لإقامة دولة مستقلّة للمُسلمين في القارّة الهنديّة.

وبالعودة إلى رسالة محمّد إقبال إلى الشيخ المراغي، نَجد في سيرة چودهري أنّه طلب من محمّد إقبال ترشيح بعض الشخصيّات العلميّة والإداريّة، وعليه، رشَّح إقبال العالِمَ والصحافيَّ غلام أحمد پرويز (المتوفّى 1405هـ/1985م) الذي كلَّفه الزعيم محمّد علي جناح (المتوفّى 1367هـ/1948م) بإدارة مجلّة شهريّة بعنوان "طلوع الإسلام" هدفت إلى تبنّي قضيّة دولة إسلاميّة مُنفصلة، وترويج الأفكار السياسيّة المتعلّقة بها من أجل تثقيف الرأي العامّ الإسلامي. وعندما أخبر غلام أحمد پرويز محمّد علي جناح أنَّ إقبال طلب منه الانضمام إلى دار الإسلام، وطلب إذنه، أَمره جناح أنْ يرشِّح شخصاً آخر لهذا الغرض، ليتفرَّغ هو لإدارة مجلّة "طلوع الإسلام" ويركِّز على مشروع المجلّة وأهدافها. ويبدو أنَّ إقبال راسَلَ عدداً من الشخصيّات البارزة داخل الهند وخارجها للانضمام إلى دار الإسلام، ومنهم الشيخ المراغي، فقد وضَّح إقبال في رسالته مقاصدَ دار الإسلام، مع الإشارة إلى احتياجاتها إلى العُلماء الرّاسخين في العلوم العربيّة والإسلاميّة، فضلاً عن تمكُّنهم بالقدر الكافي من العلوم العصريّة واللّغات الأوروبيّة. ومن المقاصد التي أشار إليها إقبال في الرسالة: تجديد الفكر الإسلامي، وربْطه بعلوم الاقتصاد والسياسة.

وقد أصيب إقبال بالإحباط من ردّ شيخ الأزهر بعدم وجود مَن يُتقن اللّغة الإنكليزيّة بجانب الرّسوخ في العلوم الإسلاميّة. على أنَّ شيخ الأزهر وَعَدَه بإرسال الشخص المنشود عند عودة البعثة العلميّة من إنكلترا. ولا نعرف على وجه التحقيق ما إذا كان الشيخ وفى بوعده ذاك! غير أنَّ السؤال الذي يطرح نفسه: ألم يكُن هناك أيُّ عالِمٍ أزهريّ تتوافر فيه تلك المعايير المذكورة في رسالة إقبال فعلاً؟ أمْ إنَّ السبب الحقيقي هو طَلَبُ إقبال في رسالته أنْ يُرسل الأزهر ذلك الشخص على نَفقته؟ وهل كان يقصد نَفقة السفر أمْ نَفقة البعثة الشاملة، أيْ رواتبه وتكلفة سَكنه، وما شابه، خلال وجوده في دار الإسلام؟.ولا أظنّ أنَّ الدار لم يكُن بوُسعها تحمُّل نفقات مثل أولئك العُلماء المُبتعَثين، بخاصّة أنّها كانت في أمسّ الحاجة إلى العُلماء والمفكّرين، ولا شكّ أنَّ مؤسّسيها خصَّصوا ميزانيّةً كافية لتغطية نفقاتهم. وعلى كلِّ حال، إنّه لمِنَ المناسب الآن أنْ نَضع بين يدي القارئ نصَّيْ الرسالتَيْن:

رسالة الدكتور محمّد إقبال إلى الشيخ محمّد مصطفى المراغي

بسم الله الرّحمن الرحيم

من الدكتور محمّد إقبال، إلى حضرة صاحب الفضيلة، العلّامة الشيخ مصطفى المراغي، شيخ الأزهر الشريف، أدام الله مجدَه.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته:

إنَّ للأزهر الشريف مكانته السامقة في العالَم الإسلامي، وهو مَركزٌ عِلميّ وحيد، يهرع إليه كلّ ظمآن ليغترف من بحاره، ويرتشف من زخّاته، وهو المقصد عند كلّ حاجة علميّة ودينيّة، ولنا أيضاً حاجة إليكم.

ولقد أردنا أنْ نؤسِّس في قريةٍ من قرى الپنجاب إدارةً مهمّة لم يسبق إليها أحدٌ إلى الآن، ويكون لها شأن ما عدا المَعاهد الدينيّة الإسلاميّة إنْ شاء الله؛ ولذا نَطلب منكم التكرُّم بترشيح رجالٍ عدّة من الذين فازوا في العلوم الجديدة، مع عددٍ ممّن مهروا في العلوم الدينيّة، ممّن يتّصفون بالحكمة والوعي، ومستعدّون لصرْفِ وقتهم في خدمة الدّين الإسلامي، على أنْ نجعل لهم رواقاً متنحّياً عن شغب الحضارة الجديدة والثقافة الحديثة ليكون لهم مَركزاً علميّاً إسلاميّاً، ونرتِّب لهم فيه مكتبةً تشمل كلّ ما يُحتاج إليه من الكُتب الجديدة والقديمة، كما يُعيَّن لهم رئيسٌ كامل صالح، يكون مُتضلّعاً من علوم القرآن الكريم، ومُطَّلِعاً على مستجدّات العصر الحديث، ليُعلِّمهم روح كِتاب الله وسُنّة رسوله "صَلّى الله عليه وسلَّم"، ويُعاونهم على تجديد الفكر الإسلامي في مجالات الفلسفة والحِكمة والاقتصادات والسياسات، حتّى يُجاهدوا بعلمهم وبأقلامهم في سبيل تحقيق النهضة الإسلاميّة.

ولا يخفى على فضيلتكم ما لهذا الطلب من أهميّة؛ ولذلك أرجو منكم التكرّم بإرسال رجل عالِم مصري متنوّر على نَفقة جامعة الأزهر ليُساعدنا في تحقيق رسالتنا الواعدة، وينبغي أنْ يكون ماهراً في العلوم الشرعيّة وفي تاريخ التمدُّن الإسلامي، ويجب أيضاً أنْ يكون متمكّناً من اللّغة الإنكليزيّة.

"وبالإضافة إلى ذلك، فقد علمتُ من أعضاء البعثة المصريّة الذين تشرَّفتُ بلقائهم في الأيّام الماضية، أنَّ الأزهر ينوي ابتعاث بعض العُلماء والدُّعاة إلى أماكن عديدة في الهند. وأنا ألتمس إليكم بطلبي هذا، لافتاً إلى أنَّ إنشاء المركز الإسلامي كما ذكرتُ تفاصيله آنفاً، أوْلى وأهمّ من إرسال كثير من الدُّعاة والمبلّغين بهدف الدعوة والتبليغ فُرادى. وأنا أتوقّع أنَّ نور هذا الدّين الحقّ من خلال هذا المَركز سوف يسطع على جميع أنحاء الهند وأطرافها، وإذا وافقتم على هذا المشروع وعلى طلبي، سأكون شاكراً لكم. وأرجو إفادتي برأيكم بأقصى سرعة مُمكنة".

وتفضّلوا بقبول فائق التقدير والاحترام

والسلام

المُخلص

محمّد إقبال

رسالة شيخ الأزهر

مكتب شيخ الجامع الأزهر

حضرة الأستاذ الكامل، الدكتور محمّد إقبال

السلام عليكم ورحمة الله.

قرأت خطابكم المؤرَّخ 5 آب/ أغسطس سنة 1937، وسرَّني جدّاً ما عزمتُم عليه من إنشاء معهد يضمّ رجالاً مثقّفين على الطريقة الحديثة، ورجالاً مهروا في العلوم الدينيّة. وقد طلبتُم منّي إرسال عالِم على نفقة الأزهر يكون ماهراً في العلوم الشرعيّة وتاريخ التمدُّن الإسلامي، وقادراً على اللّغة الإنكليزيّة.

وإنّي آسف جدّاً، إذ أصرّح لكم بأنّه لا يوجد عندنا أحدٌ من عُلماء الأزهر قادرٌ على اللّغة الإنكليزيّة؛ فلَم تدخل اللّغة الإنكليزيّة الأزهر إلّا في السنة الماضية لطلّاب الكليّات. ولا أظنّ أنّي أستطيع إجابة طلبكم إلّا بعد عَودة البعثة التي أُرسلَت في العام الماضي إلى إنكلترا. وتراني هنا مستعدّاً لكلِّ ما أقدر عليه، وستجدني صريحاً معك غاية الصراحة في كلِّ ما تريد.

ولك تحيّاتي الخالصة

التوقيع "محمّد مصطفى المراغي"

21 آب/ أغسطس 1937.

_____

*باحث في التاريخ والحضارة من الهند