وظائف مَراكز الفكر وإكراهاتها مغاربيّاً

الحبيب إستاتي زين الدّين*
إذا ما دقّقنا النّظر في القواسم اللّغويّة والثقافيّة والتاريخيّة المُشترَكة بين بلدان المنطقة المغاربيّة، سنَجد أنّها تتّصف بالتنوُّع والتناقُض في آنٍ واحد. ظاهريّاً، الدول التي تنتمي إلى هذه المنطقة مُتشابهة، غير أنّ التحوّلات الجارية، محليّاً وإقليميّاً، تنقل إلينا أنّه لا توجد صيغة واحدة تسمح بتطبيق أفضل المُمارسات في الحكامة بالنّظر إلى الاختلافات الموجودة بينها. لربّما لذلك صَرّح صاحب "مجمل تاريخ المغرب" بأنّ "فكرة إقامة مغرب عربيّ مُتّحد، والرغبة في ذلك، والدعوة إلى إقامة الوحدة، كلّ هذا لا يثبت وجود مغرب عربي في الوقائع، ولا يجعل المغربيّ يتحدّث عن الجزائر وتونس كما يُمكن أن يتحدّث عنهما جزائري أو تونسي".
هذا الحال مؤلم ومؤسف إذا جاز لنا أن نستعير لفظ الراحل المهدي المنجرة. العالَم العربي أو الإفريقي، في نظره، لم يفهم بعد أنّ الاتّحاد والتكتُّل ليسا مسألة سياسيّة، وإنّما هما قبل كلّ شيء مسألة بقاء. أزمة الدول المُنتمية إلى هذا العالَم معروفة منذ عقود؛ وهي أنّ النموذج التنموي الذي تمّ اختياره من طرف المسؤولين قائم على عدم الاعتماد على الذّات، وعلى اللّجوء عوضاً عن ذلك إلى المساعدة الفنيّة والتعاون الدولي، في حين أنّ الحلّ الوحيد هو الاعتماد على النَّفس وخلْق النموذج التنموي الذاتي. هل هي دعوة للانغلاق كما قد يفهم البعض؟ أبداً، القول بهذا رضوخ لحركيّة الزمن ووعي بمجرياتها ومفاجآتها، والإنكار ما هو إلّا مكابرة وتعامٍ لا غير.
ولأنّ لا شيء مُتوقّع بشأن مآلات هذا التعثُّر من زاويةٍ تاريخيّة، نُسجِّل أنّ أخطر التحدّيات التي تواجه الدولة في البلدان المغاربيّة هو إمّا عدم القيام بأيّ شيء كمبرِّر لعدم القدرة على مُواجهة التطوّرات والاضْطرابات المحليّة والإقليميّة بسبب تعقيدها، أو الاستمرار في الوضع الرّاهن واستدامته بالمُمارسات السابقة نفسها التي لم تتخلّص بعد من الاعتقاد بجدوى "المُقاربة الأمنيّة"، مع ما ينتج عن ذلك من تأجيل فاتورة الإصلاح الاجتماعي والسياسي الضروري والمُنتظر منذ عقود.
ما يزيد من خطورة هذه التحدّيات أن لا أحد يعرف حقيقة أين سينتهي كلّ شيء. الكثير من المال يُنفق على أجهزة الدّفاع وقوّات ضبْط الأمن وحفْظه، لكنْ ألن يكون هذا المال أكثر فائدة ومردوديّة لو استُثمر جزءٌ ضئيلٌ منه في تنمية الفكر وفضاءاته؟ إنّه سؤال بريء. في المقابل، يكفي التفكير في المتغيّرات التي ترتّبت عن فيروس كورونا المستجدّ لفهْم أنّ المنطقة المغاربيّة أحوج ما تكون إلى البحث العلمي الجادّ والرصين الذي يقدِّم إجابات عمليّة عن التهديدات والخسائر المباشرة وغير المباشرة النّاجمة عنه، وبخاصّة أنّ فرْض العزل الصحّي يستلزم التفكير في استراتيجيّات حفْظ سلامة الناس والاجتهاد في التصدّي لكلّ الانعكاسات السلبيّة.
ضمن هذا التصوُّر، تزايدَ الاهتمام، منذ بداية تسعينيّات القرن الماضي، بمراكز الأبحاث والدراسات؛ إذ اتّسعت دائرة أنشطتها على المستوى الكمّي، وكذلك من حيث نوعيّة المُساهمات والخدمات التي تقدّمها، لأسبابٍ متنوّعة، تختلف من بلدٍ لآخر. وعلى الرّغم من أنّ الدَّور الذي تضْطلع به المراكز البحثيّة في البلدان المغاربيّة مختلفٌ عمّا هو عليه الأمر في الغرب حيث تبوّأت هذه المراكز مكانتها الحقيقيّة في صناعة القرار، أو في وضْع الاستراتيجيّات، أو تقديم ما يلزم من استشارات ودراسات وتحليلات للسياسات والأزمات، إلّا أنّه لا يُمكن تجاهُل مهمّتها في تعزيز الوعي لدى الأفراد والمؤسّسات، في مُحاولةٍ، وإن كانت بطيئة المفعول بالنّظر إلى ما يعترضها من مشكلات وتحدّيات، لتقريب المسافة بين الخطاب الأكاديمي النظري والواقع العملي.
في معنى المراكز البحثيّة ودلالات تصنيفها
بغضّ النّظر عن غياب إجماع حول تحديد مفهوم مراكز الأبحاث والدراسات، فإنّ هذا المقال يستخدم مصطلح "مراكز الأبحاث والدراسات" مرادفاً لمصطلح "مَراكز الفكر" ThinkTanks، ونعني به "مؤسّسات بحثيّة" يكمن دَورها الرئيس في إنتاج الأبحاث والدراسات في مجالاتٍ متعدّدة، بما يخدم السياسات العامّة للدولة، فضلاً عن وضع رؤى مستقبليّة تهمّ الفرد والمجتمع وصانعي القرار، وذلك من خلال النشاطات العلميّة التي تقوم بها، ممثّلةً في المؤتمرات التي تعقدها، والأبحاث والإصدارات الدوريّة والكُتب والمنشورات التي تصدر عنها.
قبل سنة، أَطلقت جامعة بنسلفانيا الأميركيّة تقريراً حول تصنيف مَراكز الفكر في العالَم، شملَ أزيد من أحد عشر ألف مركزٍ بحثيّ (11175) من جميع أنحاء العالَم. يُصنِّف التقريرُ مَراكز الفكر الأكثر تأثيراً في العالَم إلى ستّ مناطق رئيسة، بحسب مجموعة من الحقول والمؤشّرات الموضوعيّة، ومن ضمنها مراكز الفكر في منطقة "المينا" - أي الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. وإذا نظرناإلى عدد مراكز هذه المنطقة، نجد أنّ المجموع يصل إلى خمس مئة وتسعة وتسعين،أصبحت تتصدّرها إيران بسبعةٍ وثمانين مركزاً، تليها إسرائيل بثمانية وسبعين مركزاً، وتركيا بثلاثة وخمسين، بعدها مصر بسبعةٍ وأربعين، ثمّ فلسطين بتسعةٍ وثلاثين …إلخ. وبخصوص المنطقة المغاربيّة، المغرب في المقدّمة بتسعةٍ وعشرين مركزاً، تتبعه تونس بأربعةٍ وعشرين مركزاً، ثمّ الجزائر بأحد عشر مركزاً، وليبيا بأربعة مراكز، بينما لم يتمّ تصنيف أيّ مركز في موريتانيا.
والجدير بالذكر أنّ هناك علاقة وطيدة بين الحالة الصحّيّة للبلد ومدى قوّة أو ضعف مراكزه، ولا سيّما من زوايا الاستقلال الأكاديمي، ومناخ الحريّة، وجسور الثقة بين مُنتجي الأفكار وصنّاع القرارات والسياسات، وشيوع ثقافة التقييم وإعادة التقييم والمساءلة، ودعم ثقافة الفريق، أي العمل العِلمي الجماعي والمؤسّسي؛ إذ إنّه من دون توافُر هذه العناصر، لن تستطيع جدليّة البحث العلمي والتراكُم الفكري الاستقامةَ والاستمرار، والأهمّ أنّ المراكز لن تتمكّن من إنجاز رسالتها، أي التأثير في السياسات وتغيير أوضاع الناس نحو الأفضل. وإذا استحضرنا السياقات المُرتبكة والمعقّدة للمنطقة المغاربيّة، نُدرك أكثر أهميّة ما يمكن أن تُسهم فيه هذه المراكز لناحية إيجاد الحلول ومُعالجة الأزمات التي تضغط على صانعي القرار ومدّبري السياسات داخلها. لكن لكي تكون مراكز الفكر فعّالة ومُجدية، وقادرة على التأثير الإيجابي في السياسات وتطوير المُجتمعات، تحتاج إلى متطلّبات وشروط، يتعذّر عليها من دونها النجاح في مهامّها. هذه الشروط هي بمثابة تحدّيات ومشكلات سيُسهم أخذها في الاعتبار في كلّ عمليّة إصلاحيّة ترمي إلى الارتقاء بالبحث العلمي بعامّة، ومراكز البحث على وجه التخصيص.
تحدّيات المَراكز البحثيّة وشروطها
إكراهات مراكز الدراسات عربيّاً ومغاربيّاً متعدّدة الأوجه. أوّلاً على المستوى المُجتمعي: يكفي أن ننظر حولنا لتحيط بنا الأسئلة من كلّ جانب: ألم تُقلب الثقافة في هذه المجالات الجغرافيّة، مثلاً، رأساً على عقب إلى أن تحوَّلت إلى صناعةٍ للترفيه؟ هل تجهد الحكومات نفسها في هذه البلدان لجعْل الناس يألفون نجاحات العِلم والعُلماء والمُبدعين ويقدّرونها؟ ولأنّ مفهوم الثقافة هنا، كما يستخدمها الأناسيّون المُعاصرون، تحيل إلى مجمل أنماط سلوكات مجموعة اجتماعيّة، وكلّ مجموعة/ جماعة تستند إلى كلٍّ معقّد من أنماط التصرُّف – أو "الأدوار" التي يتّبعها أعضاء المجموعة حينما يجدون أنفسهم في الأوضاع المقابلة، لنا أن نتخيّلَ وَقْعَ لفظ "التقدير والاعتراف" اللّازمَيْن لأعمالهم إذا كان الجواب بالنفي. من تحدّيات هذا الوضع المجتمعي عدم الاكتراث بمُخرجات البحث العلمي من قِبَلِ المسؤولين ومدبّري الشأن العامّ؛ فهُم يعتقدون أنّهم الأقدر على فهْمِ المشكلات التي تواجههم وحلّها، وأنْ لا حاجة لهم إلى المشورة من أيٍّ كان، وبخاصّة من الهيئات البحثيّة الوطنيّة.
ثانياً على المستوى السياسي: فمَن يتفحّص ما يُنتج حول الوضع السياسي المغاربي من الناحية الأكاديميّة، أو حتّى ما يُكتب على المستوى الإعلامي - بمختلف أنواعه - يتأكّد بسهولة أنّه أصبح يحمل، بوعي أو بغيره، بعضاً من "الشكّ" في مقدرة النسق السياسي على تفعيل الوعود والإصلاحات المُنتظَرة المُحاطة بالكثير من التردُّد والتوتّر في سياق تنامي الطلب الاجتماعي. هل سيخدم هذا التردُّد العمليّة البحثيّة؟ يبدو أنّ الأمر ليس باليسير أمام استمرار تسجيل - بنسبة اختلاف طفيفة - تقوية قوى الأمن والدفاع مقابل ضعف مؤشّرات التنمية والديمقراطيّة، مع ما يترتّب عن ذلك من بيروقراطيّة وهشاشة الحريّات العامّة وحجْب المعلومة وتسييس حقّ الوصول إليها، بشكلٍ يُغذّي الاعتقاد بضعف أو انتقائيّة التعامل مع أيّ دَور استشاري أو توجيهي لمَراكز البحوث في عمليّة اتّخاذ القرارات الداخليّة أو الخارجيّة.
ثالثاً على المستوى المالي: معظم الدول المغاربيّة تشكو من نقصٍ هائلٍ في الاستثمار في مجال البحث العِلمي، إذ نادراً ما تَستحضر حكوماتُ هذه الدول مكانةَ هذا المجال في إعداد السياسات العامّة وإنتاج أوراق سياسات لصنّاع القرار. عمليّاً، لم يخرج النَّظر إلى الاستثمار في العِلم وإنتاجات المُنتسبين إليه في مستوياته المتعدّدة على أنّه إنفاقٌ هامشي ونشاطٌ تَرَفيّ يَجري، من جانب الوجاهة الداخليّة والخارجيّة عادة، تخصيص جزء ضئيل من ميزانيّة الدولة لتمويل احتياجاته. النتيجة إضعاف المناعة الذاتيّة للمراكز البحثيّة، وخصوصاً المستقلّة منها. إذا كانت السمة المُشترَكة لهذه المراكز أنّها لا تُبنى، لا على أوقاف ولا على مؤسّسات تمويل مستقلّة،ألن تجد نفسها، مثلاً، أمام مشكلة التمويل الأجنبي وتأثيره في البرامج والخطط البحثيّة التي تُحدّدها في جدول أعمالها؟ وجود المراكز البحثيّة المغاربيّة في بيئة عامّة - ببُعديها الرسمي والاجتماعي - لا تُقدِّر بالشكل الكافي دَورَ هيئات البحث العلمي ولا تحظى منها بأيّة رعاية أو دعم، يسهل أن نتوقّع مدى تأثير ذلك على قدرتها على الاستقلال العلمي أو السياسي تجاه أصحاب المصالح من أحزاب سياسيّة أو نافذين سياسيّين يسعون إلى جعْل هيئات البحث العلمي مجرّد واجهات أو غطاء لعملهم السياسي العامّ، أو "حبائل" التمويل الأجنبي، بحُكم أنّ كلّ مموِّل أجنبي له أهدافه المُعلَنة والخفيّة من تمويل الأنشطة، والأيسر له الحصول على كلّ المعلومات التي يبحث عنها من هيئة وطنيّة ربما تمتلك من الدراية والمعرفة بالمجتمع ما لا سبيل للأجنبي إلى فهمه أو معرفته.
بالموازاة مع ذلك، لا ينبغي أن نغفل عن كون التمويل الحكومي لهذه المراكز هو الآخر إن وُجد ربَّما لا يقل خطورةً عن تلك التي قد تفرضها الحكومات المانحة والمؤسّسات والجهات البحثيّة الغربيّة، من خلال فرْض برامج وأجندات محدَّدة شريطة الحصول على التمويل اللّازم. ولذلك، فإنّ من الضروري إيجاد مَصادر بديلة للتمويل عن طريق الأوقاف، أو المانحين من رجال الأعمال والمؤسّسات المستقلّة، حيث يُمكن لمركز دراسات أن يقوم بإجراء العديد من الدراسات والبحوث التي تخدم القضايا الوطنيّة والعربيّة.
بحسب الترتيب الدوليّ، فإنّه من بين معايير اختيار أفضل المَراكز البحثيّة أداءً، يتمّ استحضار ما يلي: القدرة على الحفاظ على الكفاءات البشريّة، ومستوى التنظيم المالي، والميزانيّة، وعدد العقود المُبرمة مع القطاع الخاصّ، وهو ما يسمح بتقييم درجة استقلاليّة المراكز وقدرتها على حماية نفسها من تضارُب المصالح، من أجل إنتاج تقارير موضوعيّة وموثوقة ونقديّة. أمّا عندما تكون هذه المراكز خاضعة للسلطة، وموجَّهة من أجهزة الدولة، وغير قادرة على التحكُّم بتفكيرها واجتهاداتها، فإنّه يتعذّر عليها، والحالة كذلك، التحوُّل إلى رافعة خلّاقة لإرشاد صنّاع القرار، وإسعافهم في حُسن صياغة القرارات.. والحال أنّ المُتابع للشأن العربي عموماً، والمغاربي على وجه التحديد، لا يجد صعوبة في فهْم حال بعض "مَراكز الفكر" التي خرجت من تحت عباءة السلطة، وتشتغل وفق أجندتها وإملاءاتها. وهنا لا بدّ أن نعيد التذكير بأدبيّات البحث العلمي وأخلاقيّاته. فهذا الأخير يتوقّف على عدد من العوامل والإمكانات الماديّة والبشريّة، أهمّها الباحثون أنفسهم، لأنّ الباحث هو الذي يخطِّط وينفِّذ عمليّات البحث العلمي التي يُمكن أن تخدم المُجتمع وتُساعد في تطوُّره، وعلى الباحث أن يتلزم بأخلاقيّات مهنة البحث العلمي وبالقواعد التي تتضمّنها قوانين المؤسّسات والمراكز العلميّة والبحثيّة من صدقٍ ونزاهة وحياد وحَذَرٍ إبستمولوجي…إلخ.
واقعيّاً، تحتاج مراكز الفكر، باستمرار، إلى وسائل لوجستيّة وبشريّة وماليّة كبيرة لكي تقوم بعملها على أحسن وجه. بيد أنّ الدول والمقاولات والجماعات في البلدان المغاربيّة ليست لها تقاليد في مجال تمويل البحث العلمي واقتصاد المعرفة، إمّا بسبب عدم دراية الفاعلين بدَور هذه المراكز وأهميّتها بالنسبة إلى الدولة والمقاولة في عمليّة صناعة القرارات الاستراتيجيّة، أو توجّساً منها مخافة أن تكون إنتاجاتها تقييماً سلبيّاً لأنشطتها أو غير متناسبة مع اختياراتها بغضّ النظر عن موضوعيّتها، وخصوصاً إذا ما اعتبرنا أنّ مراكز الفكر تمثّل بالدرجة سلطةً مضادّة. غير أنّ التضادّ هنا لا يُنظر إليه من جانب الصراع أو التنازُع دائماً بقدر ما يحيل إلى اتّخاذ مسافة معيّنة من السلطة.
المُفارقة الحبلى بالتساؤلات، في هذا الاتّجاه، هي أنّ نسبة الإحصائيّات المتعلّقة بحجْم الأموال التي ترصدها الحكومات المغاربيّة للتسلُّح مُرتفعة، بخاصّة خلال السنوات الأخيرة مع بروز التهديدات الإرهابيّة، والتطوُّر الهائل الذي يعرفه ميدان التكنولوجيا العسكريّة. والإشكال في هذه المُعادلة يقع بسبب اختلال تحديد الأولويّات. على مستوى الخطاب، تحظى التربية بالأسبقيّة، ولفائدة الأجهزة الأمنيّة من حيث الواقع، حتّى أضحت الخبرة الوحيدة في المنطقة المغاربيّة، التي له فيها تمييز تفضيلي، كما يقول الاقتصاديّون، هي الأمن، حتّى صارت الأجهزة الأمنيّة هي مجال التحديث الناجح. مردّ هذا الإغراق في الإنفاق الأمني التفاوت بين خدمة الأجهزة الأمنيّة للمُجتمع بالأساس أم للأنظمة في الغالب، وهو التفاوت الذي يحيل ربّما على العلاقة المتشنّجة بين الحاكِم والمحكوم. الدول الكبرى حينما تُنفق على التسلُّح يكون ذلك لأهدافٍ دقيقة مرتبطة في الغالب بأجنداتٍ طويلة الأمد، على عكس البلدان المغاربيّة التي لا يخرج فيها هذا النَّوع من الإنفاق عن دائرة "التسلُّح من أجل التسلُّح" أو "التسلُّح لإرضاء صانع السلاح". دخول هذه الدائرة مُكلف، والخروج والحالة هاته أيضاً مكلف وبالقدْر نفسه. القول بهذا رضوخ للواقع، لكنّه بالتأكيد ليس قدَراً.
علاوة على شرط الاستقلال المالي، التنبيه إلى مَطلب الجودة له، في النقطة الرّابعة والأخيرة، ما يُبرِّره، لأنّ المراكز البحثيّة تحتاج إلى قدرٍ عالٍ من "العِلميّة" في منجزاتها، أي في أدائها واجتهاداتها. وهو رهان لن يتحقَّق من دون امتلاك رؤية وأهداف استراتيجيّة واضحة ترتكز، بالأساس، على العقل والعِلم. ومعلومٌ أنّ ذلك لن يتأتّى من دون الانفتاح على الكفاءات البشريّة ذات الجدارة والاستحقاق. إنّ الأُمم العظيمة، كما يُقال عادة، هي التي تستطيع، هنا والآن، الإقبال على العلاج بالصدمة في إدارتها لتحقيق التأثير والتغيير المنشودَيْن لذلك، ينبغي أن تعمل مَراكز الفكر على التقييم الدائم لأدائها، ودرجة مشاركتها في عمليّة تنشيط أنظمة الحكامة الشاملة الحاليّة. مراكز فكر بهذه المواصفات تستطيع أن تكون روافع لصياغة السياسات الرشيدة والقرارات المؤثّرة في الدول المغاربيّة.
*أستاذ العلوم السياسيّة في جامعة القاضي عياض- المغرب