رغم التحديات.. الاقتصاد العربيّ يستعيد عافيته 2024

news image

عدنان كريمة*

على الرّغم من أنّ الاقتصاد العربيّ بدأ يستعيد عافيته تدريجاً منذ الربع الثالث من العام 2020، بعد انكماشٍ بلغ 5.2% بسبب تداعيات جائحة كورونا، وقد أحرز تقدّماً في العام الماضي بنموٍّ قارَبَ نسبة 2.9%، ويتوقَّع ارتفاعه إلى نحو 3.6% العام الحاليّ، إلّا أنّه يشهد سلسلة تحدّياتٍ ماليّة واقتصاديّة واجتماعيّة، وخصوصاً مع ظهور موجة جديدة من الجائحة، في وقتٍ تعاني فيه معظم بلدان المنطقة من صعود أرقام التضخُّم وحجم الديون، وتأثيرهما على الماليّة العامّة. وتبرز هذه التحدّيات في ظلّ أولويّاتٍ استثماريّة ملحّة في التعافي، بإعادة توجيه الدولة نحو الصحّة والتعليم وشبكات الأمان الاجتماعيّ، استعداداً لاستعادة معدّلات النموّ العائدة إلى ما قبل الجائحة، والمُرتقبة بحلول العام 2024.

لا يزال تعافي الاقتصاد العالَمي مستمرّاً، لكنّ زخمه السابق أصابه الضعف بعد أن تعثَّر من جرّاء الجائحة، حيث تسبَّبت سلالة “دلتا” المتحوّرة سريعة الانتشار في ارتفاع عدد الوفيّات المسجَّلة عالَميّاً إلى نحو خمسة ملايين حالة، في ظلّ استشراء المَخاطر الصحيّة، ما أعاق عودة الأوضاع إلى طبيعتها بصورة كاملة. وقد انخفضت توقّعات النموّ العالَمي بدرجة طفيفة إلى 5.9% في العام 2021، وظلَّت تشير إلى معدّلٍ كلّي قدره 4.9% من دون تغييرٍ في العام 2022. ولكنّ التباعُد الخطير في الآفاق الاقتصاديّة بين البلدان يظلّ مصدراً رئيساً للقلق، وتُشير التوقّعات إلى أنّ النّاتج الكلّي لمجموعة الاقتصادات المتقدّمة سيعود إلى مَساره الاتّجاهي السابق على الجائحة، ويتجاوزه بنسبة 0.9% في العام 2024. وعلى العكس من ذلك بالنسبة إلى مجموعة اقتصادات الأسواق الصاعدة (ما عدا الصين)، فإنّ النّاتج الكلّي، سيظلّ أقلّ من تنبّؤات ما قبل الجائحة بنسبة 5.5%، ما يسفر عن انتكاسةٍ في جهود تحسين مستوياتها المعيشيّة.

وتعود المسارات المُتباعدة إلى “فجوة اللّقاحات الكبيرة”، والتفاوتات الواسعة في الدعم المقدَّم من السياسات؛ فبينما حصل نحو 60% من سكّان الاقتصادات المتقدّمة على جرعات اللّقاح الكاملة، وبعضهم بصدد الحصول على جرعات معزّزة، لا يزال حوالي 96% من سكّان البلدان منخفضة الدخل من دون تطعيم. وإضافة إلى ذلك، وإزاء تشديد أوضاع التمويل وزيادة مخاطر انفلات توقّعات التضخُّم عن ركيزتها المُستهدَفة، تعمل الاقتصادات الصاعدة والنامية على التعجيل بسحب الدعم المقدَّم، على الرّغم من زيادة القصور في النّاتج. ولذلك يتعيَّن على السياسات النقديّة أن تُحقِّق توازناً بين مُعالجة التضخُّم والمَخاطر الماليّة، ودعم التعافي الاقتصادي.

الاقتصاد العربيّ

في أواخر العام 2019، وبينما كانت المنطقة العربيّة تعاني من تداعيات الصراعات الأمنيّة والسياسيّة التي بدأت مع “الربيع العربي” في العام 2011، فوجئت بتداعيات فيروس “كورونا” المُسبِّب لمرض “كوفيد-19”، وهي مستمرّة بأضرارها للاقتصاد العربي، حيث قُدِّرت خسائر الشركات العربيّة في رأسمالها السوقي بنحو 420 مليار دولار، وخسارة نحو 40 مليون عربي وظائفهم. وقد تحوَّل التركيز إلى اتّخاذ إجراءات طارئة لإنقاذ الأرواح وإصلاح سُبل العيش، انطلاقاً من أنّه لا بدّ أن يكون رفاه الإنسان والتضامن الاجتماعي في صميم أيّ مبادرة إنعاشيّة، حيث تُواجه البلدان العربيّة تحدّيات اجتماعيّة مثل الفقر الذي تصل نسبته الى 32%، ليشمل 116 مليون عربي، وتحدّي البطالة التي ترتفع نسبتها إلى 12.5%. وتوقَّع تقريرُ اللّجنة الاقتصاديّة لغرب آسيا التّابعة للأُمم المتّحدة (إسكوا) سيناريوهَيْن اقتصاديّين، أحدهما متفائل بتحقيق معدّل نموّ 3.5% خلال العام 2021، والثاني أقلّ تفاؤلاً بأنّ لا يتجاوز النموّ 2.8%، على أن يتحدّد المَسار بناءً على قدرة البلدان على مُواجهة الوباء الذي بسببه خسرت المنطقة نحو 140 مليار دولار في العام 2020.

ومع نهاية العام 2021، لوحظ أنّ التعافي الهشّ لا يزال مُستمرّاً في منطقة الشرق الأوسط وآسيا الوسطى (وفق تقرير صندوق النقد الدولي) وعلى الرّغم من أنّ المنطقة أحرزت تقدّماً جيّداً منذ بداية العام الحالي، فقد نشأت تحدّيات خطيرة، أهمّها موجة جديدة من جائحة كورونا في البلدان التي تعاني من ضعف التقدُّم في عمليّات التلقيح وتصاعُد التضخُّم، الذي أسهم في تراجُع الحيّز المُتاح للتصرُّف من السياسة النقديّة، وانعكس صعوباتٍ على الماليّة العامّة. فضلاً عن أنّ التباعُد لا يزال قائماً بين مسارات التعافي، وأنّ القلق لا يزال مُستمرّاً إزاء الندوب الاقتصاديّة، مع تزايُد أوجه عدم الاستقرار. لذلك يتعيَّن على بلدان المنطقة مُعالجة تأثير الجائحة على الديون وأسواق العمل، وقطاع الشركات. وقد يتعيّن أيضاً على البنوك المركزيّة رفع أسعار الفائدة في حال بدأت التوقّعات التضخّميّة في الارتفاع. كذلك سيكون الاستعداد لمرحلة جديدة بالاستثمار في التعافي التحويلي أمراً بالغ الأهميّة لمستقبل المنطقة.

ومن الطبيعي أن تستفيد الاقتصادات العربيّة من تواصُل السياسات التيسيريّة المحفِّزة للنموّ والتشغيل، ومن حُزمِ الدعم المالي المقدَّمة من قِبَلِ الدول العربيّة التي يتوفَّر لديها حيّز ماليّ، وخصوصاً أنّ هذه الدول كانت حريصة على تمديد العمل بعددٍ من الإجراءات التي من شأنها التخفيف من تبعات الجائحة على الأُسر والشركات، الأمر الذي رفعَ قيمة حُزم التحفيز حتّى تمّوز (يوليو) الماضي إلى نحو 344 مليار دولار.

ارتفاع التضخُّم

وفق تقديرات صندوق النقد الدولي، وَصَلَ التضخّم السنوي في الاقتصادات المتقدّمة إلى الذروة عند متوسّط 3.6% في الأشهر الأخيرة من العام 2021، قبل أن يرتدّ إلى معدّل 2%. ويعود السبب في ذلك إلى أنّ التعافي الاقتصادي أدّى إلى إذكاء الزيادة المُتسارعة في التضخُّم مدفوعاً بالطلب الذي يزداد قوّة، ونقص المعروض، وأسعار السلع الأوليّة المُتصاعدة بسرعة. وتوقَّع الصندوق في أحدث إصدارات تقرير “آفاق الاقتصاد العالَمي” أن يستمرّ ارتفاع التضخُّم في الأشهر المُقبلة، قبل أن يعود إلى مستوياتِ ما قبل جائحة “كورونا”، في منتصف العام الحالي، وإن ظلَّت المَخاطر قائمة. مع الإشارة إلى أنّ الأسواق الصاعدة ستشهد ارتفاعاتٍ أسرع حتّى تصل إلى متوسّط 6.8%، ثمّ يتراجع إلى 4%. غير أنّ التوقّعات تأتي مصحوبةً بقدر كبير من عدم اليقين، وقد يظلّ التضخُّم مرتفعاً لفترةٍ أطول في ظلّ ارتفاع المخاوف من خروجه عن السيطرة، والذي يتزامن مع ركودٍ اقتصادي نتيجة ظهور بؤرٍ جديدة لوباء “كورونا”. وتقول غيتا غوبينات المستشارة الاقتصاديّة ومديرة البحوث في الصندوق: “بينما يُمكن للسياسة النقديّة أن تنظر بشكلٍ عامّ من خلال الزيادات المؤقّتة في التضخُّم، يجب أن تكون البنوك المركزيّة مستعدّة للتصرّف بسرعة إذا أصبحت المخاطر أكثر أهميّة في هذا التعافي المجهول”.

أمّا بالنسبة إلى البلدان العربيّة، فقد حذَّر تقريرٌ صادر عن صندوق النقد العربي تحت عنوان “آفاق الاقتصاد العربيّ” من بقاء معدّل التضخُّم مُرتفعاً عند مستوى 11% الذي سجَّله في العام الماضي، ويعود ذلك إلى الآثار النّاتجة عن تفشّي الجائحة، وتداعياتها على سلاسل الإنتاج والتوزيع والأسعار العالَميّة، فضلاً عن أثر الإجراءات الصحيّة المبنيّة على النشاط الاقتصادي ومستويات العرض والطلب. مع العِلم أنّ التوقّعات تشير الى إمكان تراجعه إلى نحو 6.1% في العام الحالي.

مَخاطِر الديون

سجَّلَ حجمُ الديون العالَميّة مستوياتٍ غير مسبوقة، إذ بلغ أكثر من 300 تريليون دولار، وبما يعادل 353% من الناتج المحلّي في العام الماضي، متأثّراً بتداعيات جائحة “كورونا”، وهو أعلى مستوى له في تاريخه، بزيادة نحو 39 تريليون دولار قبل الجائحة. ووفق تقرير معهد التمويل الدولي، زاد حجْم ديون الأسواق الناشئة بأسرع وتيرة له في الربع الثاني من العام 2021، ليصل إلى نحو92 تريليون دولار، فيما ارتفعت ديون الدول المتقدّمة إلى 205 تريليون دولار، بما يُعادل 418% من النّاتج المحلّي.

ومع اتّجاه البنوك المركزيّة لتيسير السياسات النقديّة، يُواجِه العالَم هوّةً خطيرة بين النّاتج العالَمي والدَّين العالَمي، حيث يوازي الدَّين 3.5 إضعاف النّاتج. لكنّ مخاطر ذلك مُرتبطةٌ بالتفاوت الواسع الحاصل بين الدائن والمَدين. فالدول الفقيرة تغرق في الديون التي قد تصبح مُستدامة، الأمر الذي يجعلها مُستباحة أمام الدول الدائنة التي ستُمارس عليها أشكالاً من الضغوط والنفوذ، للسيطرة على قرارها السيادي ومَواردها. ويُلاحظ أنّ نحو 62 دولة من ذوي الدخل المتوسّط والمُنخفض، تقع تحت أعباء دَين بقيمة 691 مليار دولار، وتمثّل 33% من مجمل ديون هذه الدول البالغة 2.1 تريليون دولار. ويقدَّر إجمالي خدمة الدَّين بين عامَي 2021 – 2022 بنحو 330 مليار دولار.

وإذا كانت المنطقة العربيّة قد سجَّلت أسرع تراكُمٍ في أرصدة الدَّين الخارجي بمتوسّط 7%، وفق تقرير البنك الدولي، فإنّ لجنة “إسكوا” حذَّرت من مَخاطر ارتفاع الدَّين العامّ لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، بعد أن سجَّل رقماً قياسيّاً بلغ 1.4 تريليون دولار بنهاية العام 2020، ما يمثّل 60% من النّاتج المحلّي الإجمالي، مقابل 25% في العام 2008. والسبب يعود إلى أنّ جائحة “كورونا” فاقمت احتياجات البلدان العربيّة في الحصول على السيولة. وقد تضاعف إجمالي الدَّين خمس مرّات، وشمل الارتفاع دول الخليج ذات الدخل المُرتفع، إذ إرتفع حجم دَينها من 117 مليار دولار إلى 576 مليار دولار خلال الفترة ذاتها. ووفق دراسة “الإسكوا”، فإنّ ثلاث دول عربيّة (مصر، الأردن، تونس) استدانت 10 مليارات دولار في العام 2020 من صندوق النقد الدولي. وقد حثَّت اللّجنة الجهات الدائنة على تمديد فترة الإعفاء من سداد خدمة الديون حتّى أواخر العام الحالي، وذلك في إطار مُبادرة تعليق هذه الخدمة، التي أطلقتها “مجموعة العشرين”، على أن يشمل ذلك البلدان النامية المُثقلة بالديون.

*كاتب ومُحلِّل اقتصادي من لبنان مؤسسة الفكر العربي